كتَّاب إيلاف

صلاة الفريق السعودي والمكارثيون الجدد

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

لا نظن أن فترة أسيء فيها للإسلام، مثل الفترة التي نعيشها. فقد أضحى الإسلام يقترن في أذهان الملايين من البشر بعمليات التفجير، وحز الرؤوس من الوريد إلى الوريد، وقتل الأبرياء وترويعهم، وخطف الرهائن، وتقديس العنف لذات العنف وكراهية الحياة، واحتقار المرأة ومعاملتها كبهيمة، أو عورة، إذا شاهد صورتها رجل يحين قيام الساعة. وبموازاة هذه الصورة المرعبة التي بدأت تترسخ في الأذهان ونتيجة لها، أضحى الفرد المسلم، خصوصا الفرد العربي، لا ترد صورته في أذهان الملايين من الناس في العالم، إلا ومعها صورة سيف يقطر دما، أو صورة قنبلة موقوتة ستنفجر بين لحظة وأخرى، حتى أصبح العربي لا يفاجأ لو فضل ركاب طائرة ما أن لا يكون شريكهم في رحلة طائرة أو قطار.

وهذه الصورة ليست، كلها، من اختراع أعداء العرب والمسلمين، وليست من بنات أفكار المنادين بنظرية صراع الحضارات. نعم، لهولاء أدوارهم، ولكن الأصل في هذه الصورة إنما هو من صنع "أمراء الجهاد"، أمثال الزرقاوي الذي "استمرأ التكفير وأوغل في التدمير والتفجير ولطخ صورة الإسلام والمسلمين" (الشيخ عبد المحسن العبيكان، الشرق الأوسط في 14-06-2006/)، وهي من صنع من يشايع هولاء "المجاهدين"، سرا وعلانية، ويدعمهم ويؤيدهم، من المشايخ و"الفقهاء" والوعاظ الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على المسلمين، وهي من صنع بعض مواقع الانترنيت وبعض الفضائيات التي جعلت من كراهية البشر مهنة لها، وهي، أخيرا، من صنع بعض المسلمين أنفسهم، اولاءك الذين أدموا راحات اكفهم تصفيقا لأفعال هولاء "المجاهدين".
إن من يتمعن في المشهد اليومي في العالمين العربي والإسلامي، فأن عينه لا تقع إلا على وعاظ الكراهية هولاء، أو ما تصح تسميتهم ب"المكارثيين الجدد"، يتصدرون وحدهم المشهد، ويتقدمون الصفوف، بدون منازع، حتى لنظن أن "صوت العقل قد غاب تماما عن الساحة الجماهيرية والإعلامية وتسيد دعاة القطيعة والكراهية الساحة وخلا لهم الجو" (د. عبد الحميد الانصاري: لماذا العداء للحضارة. صحيفة الراية القطرية في 6 مارس 2006 ).
وعاظ الكراهية هولاء يعطون الحكمة والكلام المعسول ، وقلوبهم أغلظ من الحجر. إنهم يتكلمون بكلام الملائكة، حتى إذا فرغوا من كلامهم، وحان وقت العمل، فأنهم يعملون بعمل الفراعنة وكبار الجبابرة، وبأسلوب استئصالي، لم تعرفه الثقافة العربية الإسلامية من قبل، بل لم تعرفه حتى الحقبة المكارثية، ولا حقبة حكم النازيين. والأمثلة لإثبات ذلك لا تحصى لكثرتها، وليس أقلها ما حدث في بداية هذا العام في ندوة الرقابة الإعلامية التي نظمت على هامش معرض الكتاب في المملكة العربية السعودية، عندما شهدت الندوة "مسرحية دينية" شارك فيها ذو اللحى الكثة الذين ينتمون إلى التيار الإسلامي المحافظ / إيلاف في 26 فبراير 2006 " وما رافق ذلك من بعض "المداخلات الصاخبة وغير المنطقية ولا المبررة، والهياج والتكبير غير المبرر، وقدحا مباشرا في معالي وزير الثقافة والإعلام السابق د. محمد عبدة يماني والوزير الحالي إياد مدني ووصفه بأوصاف غير مؤدبة، والاعتداء على أحد الصحافيين وشتمه وقذفه بمختلف الصفات التي يترفع الجميع عن ذكرها / صحيفة الرياض السعودية في 27 شباط- فبراير 2006 /. فهل هذه التصرفات الاستئصالية من شيم الإسلام وسماحته ؟ وهل من خلق الإسلام وشيمه أن يتم التفريق بين أستاذ جامعي وزوجته، والاثنان يرددان أشهد لا إله إلا الله، لمجرد رأي أكاديمي، ينشر في كتاب ؟ وهل من سماحة الإسلام أن تحاصر صحيفة " مثلما حدث لصحيفة الأيام البحرانية، قبل أشهر على سبيل المثال"، ويتم تحريض السلطات الرسمية ضدها لأراء تنشرها هذه الصحيفة، ليس إلا ؟ وهل من مروءة الإسلام أن يتم تهديد صحافية مسلمة ( الصحافية عايدة الرشيد من صحيفة الوطن الكويتية)، ويطلب منها "أن ترجع إلى صوابها وتتقيد بشرع الله ولا تختلط بالرجال" ، ليس لأي ذنب اقترفته هذه المرأة سوى أنها قررت ترشيح نفسها للانتخابات العامة ( إيلاف في 15 مارس/2006 ). وهل من مصلحة الإسلام في شيء أن يطالب بعض الوعاظ بتحريم ارتداء ملابس كرة القدم، وعدم حلق اللحى، وعدم سماع الأغاني، وتحريم ارتداء سراويل "الجينز" ، مثلما يحدث في جنوب العراق ووسطه وغربه هذه الأيام ؟ وقد تمادى البعض من هولاء "الوعاظ" حتى أصبحوا يتدخلون بأخص خصوصيات الناس، كأن يفتوون بما يجوز ولا يجوز على سرير الزوجية. ولا ندري هل أن وعاظ كراهية الحياة هولاء احرص على الإسلام وأخلاق المسلمين من العلامة الشيخ جلال الدين السيوطي صاحب كتاب " رشف الزلال من السحر الحلال"، وكتبه الأخرى التي لا نستطيع ذكرها في هذا المقال، حرصا على عدم خدش حياء القراء؟
السيوطي وأبو فرج الأصفهاني والقيرواني والجاحظ وغيرهم ألوف الألوف من علماء المسلمين ومثقفيهم وشيوخهم، كانوا يحرصون على الإسلام وأهله مليون مرة أكثر مما يحرص "أمراء الجهاد" ووعاظ الكراهية في عصرنا هذا.
أولائك الأفذاذ كانوا يكتبون بثقة عالية بأنفسهم وبدينهم وبالناس الذين يكتبون لهم، وبتبحر عميق في علوم التفسير والحديث والفقه واللغة والمعاني، وبفيض لا حد له من محبة الناس، وسماحة الروح وأريحية النفس. أما "أمراء الجهاد" ووعاظ الكراهية في أيامنا هذه، فهم كارهون للبشر، وللناس الذين يحيطون بهم، بل وكارهون لأنفسهم وللحياة. يضع احدهم رأسه على الوسادة في أخر الليل، وليس في ذهنه إلا كيف سيصدر فتوى في الغد، ينغص فيها عيش الآخرين ويسود الحياة في عيونهم. ثم، يخرج صباحا من داره أو من مغارته، وليس في ذهنه غير مجموعة لا حد لها من "الأعداء": الرجل غير اللحياني عدو، والمرأة التي تسفر عن وجهها عدو، والفتاة المحجبة بدون نقاب عدو، والشاب الذي يسير فرحا في الشارع عدو، والفرد غير المسلم عدو، وجهاز الانترنيت عدو، والهاتف النقال عدو، والشاب الذي يمارس الرياضة عدو، والأغنية عدو، والصحيفة التي لا تتطابق مع هواه ومواقفه عدو. والوجه الصبوح عدو، وقصة الشعر عدو. وهكذا، يوطن هذا المخلوق نفسه على العدوانية، ويصبح، بعضلات وجهه المتشنجة وسحنته الصفراء وعينيه الكئيبتين، ملاكما مستفزا، مستعدا لنزال أول من يصادفه من هولاء الأعداء، أو مقاتلا يصرع أول من يراه منهم. فإذا رأى أن المناسبة تستحق مفخخة استخدمها أو طلقة سددها، أو خنجرا سله من غمده. وإذا لم يستطع، فسيهرع إلى "سلاح" الوعظ والفتاوى، ليحول عن طريقها مساكن الناس إلى قبور وأصحابها إلى موتى أو، في أحسن الأحوال، موتى مع وقف التنفيذ.
وإذا سألته (وهل لك أن تسأله ؟) أن الإسلام لم يقل بذلك، أعرض عنك وصدك، واتهمك بأنك تهرف بما لا تعرف في شؤون الدين، وطلب منك أن لا تطعن في شخوص "المتدينين" لأنك إن فعلت فستمعن في كسر "هيبة الدين". إنها وسيلة لتخويف الناس، واحتكار المعرفة واحتكار التدين واختطاف الدين ومصادرة حق الناس في الحياة.
هذه هي الصورة التي يقدمها وعاظ الكراهية عن الإسلام. وهذه الصورة نفسها هي التي هشمها الفريق السعودي لكرة القدم أمام ألاف من المشاهدين الذين غص بهم ملعب مدينة شتوتغارت في الرابع عشر من الشهر الجاري، ومثلهم الملايين من البشر الذين كانوا يراقبون الفريق أمام شاشات التلفزيون، وهو يخوض مباراة كأس العالم ضد أشقائه في الفريق التونسي. فقد شاهد العالم كيف ركع أعضاء الفريق، في صلاة جماعية، عند فوزهم، ثم رفعوا أياديهم إلى الله حمدا وشكرا له على الفوز. شخصيا، لا نعرف إذا كان أعضاء الفريق فعلوا ذلك عفو الخاطر أو أن تعليمات مسبقة كانت قد صدرت لهم ليفعلوا. وفي الحالتين فأن هذا لا يقلل من جمال الصورة، ولا من الرسالة النبيلة التي تضمنتها و أرادت إيصالها إلى العالم.
"الرياضة نشاط إنساني رفيع المستوى، والشاب المسلم يؤدي هذا النشاط دون أن يخدش الحياء أو يسيء إلى دينه". هذه هي، كما نرى، الرسالة التي أوصلتها صلاة هولاء الفتية. وكانت السعادة تغمرني وأنا أستمع للمذيع الأوربي الذي كان يعلق على المباراة، في كل مرة ركع فيها أعضاء الفريق السعودي: انظر، كيف أن أياديهم مرفوعة إلى السماء.
ركعتا الفريق كانتا لطمتين بوجوه وعاظ كراهية الحياة ومدمني التزمت، سلبتا منهم أسلحتهم الأخلاقية، وأسقطتا ذرائعهم "الفقهية". ولعل هولاء شاطوا غضبا وهم يروون الراية الوطنية التي دخل تحت ظلها هولاء الفتيان، وقد كتب عليها: لا اله إلا الله. ومن يدري فلعلهم سيصدرون فتوى غدا يقولون فيها أن دخول راية عليها لفظ الجلالة داخل ملعب للكفار حرام ثم حرام ثم حرام.
ليفتوا بما يحلو لهم، فأن بضاعتهم ستبور وتكسد وترد إليهم، شرط أن تواصل المجتمعات التي يبيعون فيها بضاعتهم، مسيرتها، وتقول لهم بصوت واحد، رجالا ونساء: إياكم عنا، فنحن أعرف بأمور ديننا ودنيانا.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف