مهالك الفلسطينيين: تنكيل وفساد وغباء وصمت
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
-1-
بلغ التنكيل بالشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة حدّه الانساني الأقصى الآن. وما جرى في غزة بالأمس جريمة كبرى ومجزرة بشعة بكل المقاييس الانسانية. وهذه الجريمة هي الفخ الخبيث والدموي الذي نصبته اسرائيل لاسقاط حماس نهائياً. وقد نجح هذا الفخ وسقطت حماس في هذا الفخ، عندما اعلنت استئناف المقاومة المسلحة ضد اسرائيل وانتهاء الهدنة بينها وبين اسرائيل. وبذا لم تعد حماس شريكاً محتملاً على الاطلاق في مستقبل العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية. وسوف تتخذ الدول الأوربية وأمريكا غداً هذا الموقف افسرائيلي الثابت في علاقتها مع حماس. وكانت الدول العربية وعلى رأسها مصر والسعودية والأردن قد اتخذت موقفها من حماس قبل الغارة الاسرائيلية على غزة. وهكذا تكون حماس وحدها ضد العالم كله. وتكون اسرائيل بجريمتها في غزة أمس، قد استطاعت أن توقف وتحدّ من التقدم السياسي الايجابي الذي لم تكن اسرائيل تريده أو تتمناه، والذي أبدته حماس طيلة وجودها في الحكم منذ أربعة اشهر وإن كان هذا التقدم بطيئاً، كنتيجة طبيعية لكون حماس حركة سياسية دينية راديكالية.
-2-
لم يقتصر التنكيل بالشعب الفلسطيني داخل الأرض المحتلة على اسرائيل المحتلة فقط، ولكنه تعدّاه الى السلطة الفلسطينية التي ساهمت بغبائها السياسي، وضيق أفقها، وخوفها على حياتها من غوغاء ودهماء الشارع الفلسطيني من اتخاذ القرار السياسي الواقعي الحكيم في اللحظة التاريخية المناسبة وفي الزمان والمكان المناسبين، بحيث بقيت السلطة الفلسطينية وضاعت الأرض الفلسطينية، وعاشت السلطة الفلسطينية وقُتل الشعب الفلسطيني، وتمترست السلطة الفلسطينية في مكاتبها المكيفة، وتشرّد الشعب الفلسطيني، وركبت السلطة الفلسطينية السيارات الألمانية الفارهة المكيفة وركب الشعب الفلسطيني نفسه، أو ركب الحمير والبغال في أحسن الظروف.
كما ساهمت السلطة الفلسطينية بفسادها وسرقاتها للمال الفلسطيني العام في التنكيل بهذا الشعب. ففي مقال كتبه مؤخراً إيد بلانش في "المركز الدولي لدراسات أمريكا والغرب" تحت عنوان "أموال المانحين انتهت الى جيوب الفاسدين" فضح فيه الفساد المالي للسلطة الفلسطينية، وقال : بعد مرور 18 شهرا على رحيل عرفات لا يزال هناك الكثير من الغموض الذي يحيط بالفساد الذي كان والذي لايزال حتى يومنا هذا. و بعد ايام قليلة من فوز حماس اعلن المدير العام الفلسطيني ان السلطة بدأت تحقق في الفساد الرسمي وان هناك ما يكفي من الادلة على سرقة وتبذير 700 مليون دولار في السنوات الاخيرة بحيث سربت إلى حسابات خاصة بأفراد معينين داخل الاراضي الفلسطينية وخارجها. وذكر المدعي العام أيضاً ان الامور قد تتكشف عن سرقة مليارات الدولارات. وهناك تحقيقات تجرى الآن في حوالي 50 قضية فساد مالي واداري وألقي القبض على 25 مسؤولاً في اوائل فبراير. وكشف المدعي العام ان هناك عشرة من كبار المسؤولين الفلسطينيين فروا للخارج خلال التحقيقات وصدرت مذكرات اعتقال دولية بحقهم، اربعة منهم يقيمون الآن في الأردن ودول عربية أخرى لم يسمها. بعض المصادر العلمية في السلطة ذكرت ان بعض كبار مساعدي عرفات هربوا إلى مصر مع اسرهم في عام 2005، المدعي العام لم يكشف اي اسماء، وهناك مخاوف من ان التحقيقات قد تطال فقط أشخاصا متوسطي المستوى في الوقت الذي يترك المسؤولون السياسيون ورجال الاعمال الكبار الذين نهبوا المال العام في مناصبهم وعلى حالهم بحيث يستمرون في انشطتهم الفاسدة أو فتح المجال أمامهم ليفروا مثل غيرهم للخارج.
"صندوق الائتلاف من أجل السلام" وهي منظمة غير حكومية ذكرت اسم مسؤول فر إلى الأردن وهو مدير عام وزارة المالية حيث يقول البعض انه هرب مبلغ 20 مليون دولار مستخدما الحقيقة الدبلوماسية ولكن لم يثبت احد صحة هذا الاتهام حتى الآن.
يقول نيفل روبرتس المبعوث السابق للبنك الدولي في الاراضي الفلسطينية ان السلطة استلمت خمسة مليارات دولار كمساعدات خلال السنوات الخمس الماضية وقد وجدت طريقها الى جيوب بعض المستفيدين ولم يستفد منها الفلسطينيون العاديون. و يقول المشرع الفلسطيني عزمي شعيبي أحد الناشطين ضد الفساد انه لم يتم حتى الآن التحقيق مع اي وزير او قائد امني بتهمة الفساد.
وعندما كنت في القدس مؤخراً ، كانت "فضيحة الاسمنت" الشهيرة ما زالت تزكم الأنوف. وهي التي بدأت فصولها في 2003 عندما عرضت مصر بيع 42 ألف طن من الاسمنت بسعر متدن لدعم الاقتصاد الفلسطيني ولكن من المفترض ان يستخدم بصورة اساسية في اعادة بناء المنازل الفلسطينية التي هدمتها اسرائيل في هجماتها العسكرية على قطاع غزة. العديد من كبار المسؤولين في السلطة حصلوا على تراخيص من وزارة الاقتصاد لاستيراد الاسمنت ولكن تم بيعه بعد وصوله مباشرة لاسرائيل بمعرفة كبار مساعدي عرفات.
ويقول اعضاء في المجلس التشريعي الفلسطيني ان الاسمنت استخدم في بناء جدار العزل العنصري الذي تقيمه اسرائيل في قلب الارض الفلسطينية. ويقول البعض ان الوزير نفسه كان متورطا في بيع الاسمنت المنتج فلسطينيا في مصنع أسرته قرب ابو ديس حيث بيع للشركات الاسرائيلية التي استخدمته في بناء المستوطنات على الاراضي الفلسطينية المصادرة. يقول المدير العام: اننا نحاول الآن منع المشتبه بهم من مغادرة الاراضي الفلسطينية ولن تكون هناك حصانة لأحد تورط في الفساد المالي.
-3-
وساهمت الفصائل الدينية والقومية الفلسطينية المسلحة في التنكيل بالشعب الفلسطيني وذبحه ذبح الخراف حين أصرّت على دخول معارك عسكرية غير متكافئة القوى بينها وبين اسرائيل كأكبر قوة عسكرية في الشرق الأوسط. وهذا ما وصفناه في السابق بلعبة "البنج بونج" أو "تنس الطاولة" الدموية التي اشتركت فيها الفصائل الدينية والقومية الفلسطينية المسلحة مقابل العسكرتاريا الإسرائيلية. فاسرائيل تعتدي على الفلسطينيين لكي يردوا عليها بالعمليات الانتحارية، التي تصفها اسرائيل بالارهابية. وهكذا دواليك.
والفصائل الدينية والقومية الفلسطينية المسلحة أصرّت وتصرُّ على الاستمرار بلعبة "البنج بونج" وهي تعلم علم اليقين بأنها هي الخاسرة، وأن القضية الفلسطينية هي مشكلة سياسية، ويجب حلها سياسياً تفاوضياً كما قال محمود عباس . ولكن الفصائل الدينية الفلسطينية المسلحة في الدرجة الأولى، إذا لجأت إلى الحل السياسي التفاوضي، فسوف تخسر رصيدها في شارع الغوغاء والدهماء الفلسطيني، وسوف تنتهي الى محاريب المساجد وليس إلى منابر السياسة، حيث لا تملك من خطابها السياسي إلا هذا الرصيد الدموي الذي تبدده يوماً بعد يوم من أجل البقاء في السلطة الدينية الفلسطينية المسلحة، والتي هي الحاكم الفعلي الآن للشارع الفلسطيني المتشنج والعاطفي والثأري الدموي، حيث تعطل العقل العربي ومن بعده العقل الفلسطيني، وأصبح العرب خُرسان، ألسنتهم الطلقة والقتبلة ومدافع الهاون والأربي جي والسكين، ويتكلمون بأصابعهم المشتعلة لا بألسنتهم العاقلة، وبصوت عالٍ. وحين يتعطل العقل، وتخرس الألسنة، لا وسيلة للتعبير عن الذوات غير الأصابع كما يقول الشاعر العراقي عبد القادر الجنابي في "حياة ما بعد الياء". فقد تحوّل العرب والفلسطينيون من بعدهم إلى خُرسان، أصابعهم المشتعلة تتكلم بصوت عالٍ. بل إن هذا الصوت العالي أصبح صوتاً مدمراً لهم وللعالم أجمع، كما نرى الآن داخل العالم العربي وخارجه.
-4-
لقد ساعد إعلام الدهماء والغوغاء الذي يخاطب العواطف، ولا يخاطب العقل ويُمنّي بالأحلام ولا يَعدُ بالحقائق، وهمّه الأول والأخير كسب رضا واقبال المتلقين من الدهماء والغوغاء التي لم تجد مرشداً لها يدلها على طريق الصواب والعقل.. هذا الإعلام عمل على قطع اللسان العربي السياسي ورميه للكلاب والغربان القادمين من أفغانستان، واستبداله بالأصابع الدينية والقومية الأصولية الملتهبة والمشتعلة التي تحرق الآن العالم العربي من يساره إلى يمنيه، وتتكلم بصوت عالٍ. وساعده على ذلك أنه يخاطب شعباً من البداوة لا علم له بالسياسة، ولا تاريخ سياسياً مدنياً ديمقراطياً لهم، منذ أكثر من خمسة عشر قرناً.
والحال الآن، أن لا لسان عربياً ينطق بشجاعة وجرأة وصراحة تامة بالحق والواقعية والرشاد والموضوعية، وينير المستقبل للعرب الذين هم في غالبيتهم من الدهماء والغوغاء نتيجة لوجود سبعين مليون أمي أبجدي، وأكثر من مائتي مليون أمي ثقافي ( أقل من نصف بالمائة من سكان العالم يقرأون الكتب، وواحد بالمائة فقط يقرأون الصحف، والكتاب الجيد يوزع ألف نسخة فقط)، ودخل سنوي هو في المتوسط بين الدول غير المنتجة للنفط (سكانها 80٪ من سكان العالم العربي) ألف دولار في العام؛ أي ثلاثة دولارات فقط في اليوم، لا تكفي لشراء ثلاثة سندويشات فلافل يومياً.
-5- والسؤال الآن:
لماذا هذا الصمت العربي الرسمي تجاه ما يجري للفلسطينيين من تنكيل وتعذيب وتشريد من اسرائيل، وفساد من السلطة، وضيق أفق وغباء سياسي من حماس، التي كشفت عن وجهها القبيح حين اعتبرت بالأمس الزرقاوي "فقيد الأمة" و "شهيد الإسلام"، وفتحت له سرادقات العزاء. وحين قررت بالأمس كذلك انهاء الهدنة بينها وبين اسرائيل، ولجوئها الى الكفاح المسلح من جديد، وبذا حققت اسرائيل تماماً ما هدفت له من جريمتها على شواطيء غزة، وكانت تعلم تماماً برد الفعل المنتظر من حماس، وهو "عودة حليمة الى عادتها القديمة" في الانفعال والتشنج العاطفي والرد العسكري الفوري، وعدم تفويت الفرص على مخطط اسرائيل؟
للصمت العربي أسباب كثيرة منها:
1- أن العرب أنظمة وشعوباً قد انهمكوا في القضية الفلسطينية أكثر من نصف قرن من الزمان، وقد تعبوا من هذه القضية التي عادت عليهم بالضرر الكبير أكثر مما عادت بالنفع. فامتلأت الدول العربية المجاورة لفلسطين باللاجئين الفلسطينيين الذين فرشوا الأرض بالمخيمات، وزادوا من نسبة البطالة والفقر في هذه البلدان. وهم الذين تزايدوا سكانياً منذ العام 1948 إلى الآن أربعة أضاف. وهم يفاخرون بهذا الانفجار السكاني الذي يعتقد بعض المحللين السياسيين المثاليين بأنه السلاح الفلسطيني الوحيد في وجه اسرائيل، ولا يعلمون بأن تايوان كانت في وقت من الأوقات أقوى من الصين الأم. كما أن هونغ كونج كانت أغنى وأرقى من الصين الأم. وأن قنبلة الانفجار السكاني الآن هي أخطر قنبلة يمكن أن تواجه الشعوب النامية والراقية. والمثال الأقرب والأوضح الآن أمامنا هو مصر وما فعلته قنبلة الانفجار السكاني التي حطمت كل مشاريع التنمية وأحالت مصر إلى بلد فقير وجائع. وأن قنبلة الانفجار السكاني التي يفجرها كل يوم الفلسطينيون تزيد القضية الفلسطينية تعقيداً، حيث يزداد المطالبين بحق العودة إلى فلسطين ما قبل 1948 أضعافاً مضاعفة، مما يُعقّد حلَّ القضية، وبحيث أصبح من المستحيل استيعاب عشرة بالمائة منهم، فما بالك بالجميع.
2- إن الخوف والرعب الذي أدخلته الغوغاء والدهماء والفصائل الدينية والقومية الفلسطينية المسلحة في قلب الحكام العرب والسياسيين العرب وقادة الرأي السياسي العربي، فيما لو تم تأييد حل تفاوضي سياسي سلمي مرحلي وليس شاملاً للقضية الفلسطينية قد جعل كل هؤلاء يحجمون عن التدخل في القضية الفلسطينية تدخلاً سياسياً واقعياً شجاعاً، لا يُرضي الغوغاء والدهماء والفصائل الدينية والقومية الفلسطينية المسلحة. ولعل مقتل الملك عبد الله الأول ملك الأردن على باب المسجد الأقصى في 1951 بيد الفلسطيني مصطفى عشو لميل الملك الفقيد إلى حل القضية الفلسطينية حلاً سلمياً مرحلياً، وكذلك مقتل أنور السادات في 1981 لتوقيعه معاهدة كامب ديفيد السلمية مع اسرائيل والاغتيالات الأخرى التي تكررت في الأردن ولبنان لرموز السياسة العربية والفلسطينية المطالبة بالحل السلمي المرحلي، والاتهام بالخيانة لكل من ينادي بذلك (بورقيبة مثالاً لا حصراً).
3- أصبح لدى العرب حكاماً ونخباً، قناعة تامة بأن الشوك الفلسطيني في الكف الفلسطيني لا يقتلعه غير الشعب الفلسطيني ذاته وبالوسيلة التي يراها. وأن على الشعب الفلسطيني أن يتألم أكثر، ويذوق العذاب والمرارة بشكل أعمق من العذاب والمرارة التي ذاقها حتى الآن، لكي يعرف ما معني السلام بأي ثمن، وليس بثمن معين. فالشعوب لم تعرف معنى السلام الحقيقي بأي ثمن، إلا عندما احترقت احتراقاً شاملاً (اليابان والمانيا وكوريا أمثلة)
4- لقد حاول العرب مساعدة الفلسطينيين في عام 1982 من خلال مبادرة السلام في مؤتمر قمة فاس. ولكن الفلسطينيين رفضوا هذه المبادرة. وحاول العرب مرة ثانية مساعدة الفلسطينيين على حل قضيتهم من خلال مبادرة السلام الثانية في مؤتمر بيروت 2002، ولكن الفلسطينيين رفضوا هذه المبادرة. بل أن حكومة حماس بالأمس كررت هذا الرفض عندما طالبتها مصر والسعودية في قمة شرم الشيخ بضرورة قبول هذه المبادرة كشرط للتعاون معها وتقديم العون والدعم السياسي والمالي لها. ولكن حماس أبت ذلك، وركبت رأسها. بل إن العرب قبلوا ورحبوا بوثيقة الوفاق الوطني التي أصدرتها مجموعة من السجناء الفلسطينيين من مختلف الأطياف، كما رحب بها الشارع الفلسطيني، حسب استطلاع الصحف الفلسطينية في 27/5/2006