كتَّاب إيلاف

بومة أثينا

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

مثل بومة أثينا، لا أنزل إلى المشي في الشوارع، إلا لحظة نزول الغسق. في النهار، لديّ الكثير مما أعمله: القراءة والنوم. وحين يتنزّل المساء، مرخياً خيوط عتمته الخفيفة، أتأهب للخروج في المشوار اليومي المعتاد. أختار أكثر الشوارع هدوءاً، وأبعدها عن حركة الناس. ولمّا كان المشي، كتناول الكحول، بحاجة إلى نديم أو أكثر، فإنني عادةً بل لزوماً، أصطحب معي صديقاً أو اثنين، من القريبين مني، مزاجاً واهتمامات. في البداية، أي قبل سنوات تسعة، كنت أتمشّى مع زميل روائي، أكبر مني بعشرين عاماً، ثم غيّرته، بعد سنتين، لأنه مدمن ثرثرة وخوض في التفاصيل، التي تحجب الرؤى العامة، والاستخلاص العام. ولأنه، واقعي و(كلبُ واقعٍ) بأكثر من قدرتي على الاحتمال. بعد ذلك، رافقتُ مجموعةً من الشعراء الشباب، واستمر هذا إلى مدة سنة ونصف السنة، ثم أخذتهم مشاغل الدنيا، فلم يستطيعوا الالتزام، وهم الصعاليك، بدقة وصرامة موعد الخروج اليومي. وهو ما أحرص عليه، حرصي على حياتي ذاتها. فتلك الفسحة من الوقت، المكرّسة للتنزّه وتنشيط الدورة الدموية ومتابعة الأحداث الثقافية والسياسية ، هي الوحيدة، التي أروّح فيها عن نفسي، من أعباء المسئولية العائلية، ونكد الواقع الفاقع. لذا، لا بد منها، يوماً يوماً، وكل مغرب كل مغرب. وإني لأعترف، بأنه لولا طيب الذكر، عمانوئيل كانت، لما استمررت في صنيعي هذا. فقد كنت قرأت له منذ عقود، أو عنه بالأحرى، أنه كان يخرج يومياً للنزهة، في تمام الرابعة والنصف عصراً، حتى تعوّد جيرانُه على ذلك، وحتى صاروا يضبطون ساعاتهم، على لحظة خروج الفيلسوف، من باب منزله، وهو يرتدي المعطف الرمادي، وفي يده عصاه الخيزران، متجهاً نحو طريق شجرة الزيزفون. كان كانط إذاً، هو مِثالي، وهو قدوتي، في هذه العادة اليومية الصحية. العادة الغريبة على تقاليدنا الاجتماعية كشرقيين، لا يولون كبير اهتمام لأجسادهم وصيانتها من الكسل والأمراض. وأذكر حين زارنا الروائي والمترجم الفلسطيني، أحمد عمر شاهين، في زيارته الوحيدة، التي مات بعدها بقليل، أنه أسرّ لي برغبته الحارقة في ممارسة تقليد يومي انقطع عنه هنا، وهو المشي لساعات. قال أحمد، إنه تعلّم ذلك من سقراط، مشّاء الفلاسفة الأكبر. وإنه بفضل سقراط، ما زال محافظاً على عطائه الفكري والإبداعي، وهو المريض المزمن بداء السكري الوبيل. فلولا حفاظه على صحته العامة، لما كان حتى هذه اللحظة، يعطي وكأنه ما يزال شاباً. سعدتُ بما سمعتُ، ومنذ تلك اللحظة، التي وجدتُ لي فيها شريكاً، صرنا نخرج معاً، ما إن يُؤذّن لصلاة المغرب، فلا نعود إلى بيتينا، إلا في ناصفة الليل، أو بعدها بساعة. قال لي أحمد، إن معظم أفكار رواياته ومقالاته، تأتيه أثناء المشي. وإنه لا يكتبها إلا بعد أن تكون نضجت واستقام قوامُها في رأسه، وعلى وقع خطواته في الطرقات الهادئة. أما عمله كمترجم، فقد كان مكتبيّاً بالأساس. بمعنى أنه لا يفكّر في الترجمة ولا يختار الكتاب القادم، ولا يباشر في التنفيذ، إلا وهو فوق كرسي المكتب. وأذكر ذات مساء، أننا خرجنا إلى حقول خانيونس البعيدة، وأوغلنا في المشي، ونشوة الحديث وبهاء المسارّة، فنسينا أنفسنا، وإذ بنا في منطقة معزولة، تحدّها المزارع الشاسعة من كل جانب. ولا علامات فيها، ولا بشر أيضا لكي نسألهم. فما العمل إذاً، وكيف هي طريق العودة؟ سألني أحمد، فضحكت وقلت له إنني مصاب بمرض [عمى المكان)، وأنه اختار العنوان الخطأ، لذا لا مفر من أن نضرب بخطواتنا على عواهنها، فربما تظبط. وهكذا، أمضينا ساعتين، نخبط خبط عشواء، إلى أن وصلنا بالصدفة، إلى بداية الطريق الصحيح. في تلك الليلة المظلمة، تذكّر أحمد، استعارة هيغل الشهيرة.. (إنّ بومة أثينا لا تطير إلا عند الغسق)، وأعقب: ما نحن يا صديقي، وما كل الكُتاب، في كل زمان ومكان، سوى هذه البومة! نخرج في لحظة الغسق، ونبحث عن عيون (منيرفا) الصافيتيْن، لتهدينا مضاء البصيرة وسواء السبيل. قلت له: " مضاء البصيرة وسواء السبيل "؟ يا لنا من نبويين يا أبا عُمر.. ويا لها من تعزيات تليق بالبشر المُتوحّدين حقاً.. أيّ نبويين يا رجل! إنّ عيني منيرفا الحكيمتيْن، لم تنظرا إلى هذه البلاد طوال قرون وقرون. إننا حقاً بوم، كوننا كائنات ليلية، وكون جلّ الكتاب كذلك، ولكننا أبداً لسنا حكماء إلا بمقدار ما يكون الدوريُّ قادراً على تدبير أموره بين بغاث الطير، فيكون بذلك حكيماً. أتذكّر الآن تلك الليلة الظلماء، وأفتقد بدر أبي عُمر. أتذكّر الرجل، مواطني الراحل، وأتذكّر المثقفين "الوطنيين" الذين ضنّوا عليه بموطئ قبر في بلاده، وتوشك عيناي أن تتخضلا برذاذٍ ما. كان الرجل مشّاء من طراز قلّ نظيره بين الكُتاب. وكان أيضاً نبوياً في مزيجٍ من طفولة لا تبلى ولا يُغيّبها كرُّ الزمن. مات في الحادية والستين، غريباً في وطنه، وغريباً في منفاه. لقد حاول أن يكون ذلك الدوريّ، ونجح حيناً، وفشل أحياناً، بيد أنه في كل الأحايين، ظل هو ذاته: نوعاً من راءٍ معاصر، يقف على باب المدينة، ويصرخ، فلا يهتمّ به أحدٌ ولا يستمع إليه أحد. كان متوحّداً، ولذلك كان مشّاءً. ولقد وجدتُ أنه بالإمكان الربط بين الفعاليتيْن: التوحّد والمشي. فغالبية المتوحدين مشاءون، وغالبية طالبي العزلة مشاءون كذلك. من سقراط مروراً بكانط ووصولاً إلى نيتشه الذي امتدح الأفكار المتولدة عن المشي، وهجا نقيضها: أفكار المكاتب - هل تذكرون شذرته الجميلة؟ ها هي! ("لا يمكن أن نفكر أو نكتب إلا جالسين" * غوستاف فلوبير * - تمكّنتُ منك أيها العَدمي! أن تكون ذا مؤخرة ثقيلة، فتلك، بامتياز، خطيئة في حق العقل. وحدها الأفكار التي تأتينا ونحن ماشون لها قيمة ما). وبالطبع، لسنا من مُحازبي الفنان العظيم نيتشه، وإلا لألغينا كبريات الأعمال من سجل البشرية. فكلها تقريباً، كُتبت على حين هدوء في العزلات. بل إنّ أعماله ذاتها، كما يقول لنا مؤرخو سيرته، وبالأخصّ (هكذا تكلّم زرادشت)، كانت بنات العزلة بامتياز. ومع ذلك، وبالرغم من ذلك، ثمة أعمال أمهات، كُتبت أثناء المشي، بمعنى ولِدت أفكارُها أثناء عملية المشي - على ما يقول لنا التاريخ أيضاً. فبومة أثينا، التي هي ههنا بمثابة استعارة للكُتاب، ترى غالباً في النور والعتمة: في الليل والنهار، إذا كان الكاتب محظوظاً بفيض موهبة ما. ولا ترى في كلا الحالين، إذا افتقد الكاتب لتلك الهبة العظمى. أهي مسألة حظ وقدر مقدور إذاً؟ أجل ولا معاً. أجل، فلا بد لكل موهبة، من هبة غير منظورة - وحتى هذه اللحظة، لم يتوصل علماء نفس الإبداع إلى سر تلك المواهب. ولا: بمعنى لا بد لكل صاحب موهبة، من الاشتغال عليها وصقلها وتطويرها، بالجهد الدءوب، وبالعزيمة التي لا تكلّ ولا تملّ. وأذكر هنا مقولة عميقة لخوسيه سراماغو، روائي البرتغال الأشهر - (شرط الكتابة ليس الإلهام، بل قرار الجلوس وراء المكتب، والرواية تأتي من تلقائها). إذاً ثمة مدرستان في الكتابة، وكلٌّ لما خُلقَ له. لا تنفي مقولة نيتشه، قولَ سراماغو هذا، فكلا القوليْن يكملان الحقيقة الأدبية، ويؤكدان تنوّع واختلاف الكُتاب. لكن في أي حال وكل حال، لا بد لبومة أثينا، من أن تكون بومةً أولاً، لا غراباً، ولا بطريقاً، ولا دجاجة. فإن حازت هذه الصفة وهذه الوضعية المُتعيّنة، سهُل عليها أن ترى، وأن تستبطن: أن تحفر وأن تستقطر، فتصل إلى برّ الحكمة، وشساع الكشف، وكنوز الاستغوار - حتى وهي طائرة في الغسق. أما الغراب من الكُتاب، البطريقي والدجاجي، فلن يحوز لؤلؤةً حتى وهو يجول في أعماق النهار. ذلك أن لا أعماق له، ولا نهار داخلياً تحت إهابه، ولو كان بشراً مثلنا، ومثلنا له صفات كل البشر!

عن إذنكم.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف