كتَّاب إيلاف

محمد اوزون؛ كاتبٌ كرديّ على أبوابِ العالَم

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

1

ذات صباح ٍ، صيفيّ، من أحد الأيام المُلحقة بمستهل عقد الثمانينات، المنصرمة، فتحتُ بابَ منزل ِ الأهل ِ على مرأى شابٍ فارع القامة، أنيق القيافة، منطلق الملامح، واثقها؛ ما عتمَ أنْ قدّمَ لي نفسه بجملةٍ كرديةٍ، مقتضبة، صافية: "أنا محمد أوزون، قادمٌ من السويد، وأبغي لقاءَ والدكم". سألني بعدئذٍ، وليسَ بدون إحراج ٍ، عما إذا سبقَ لي وسمعتُ بإسمه. كنتُ، في واقع الحال، على معرفة ضئيلة بجمهرة الكتاب المغتربين، المنحدرين من الأقاليم الكردية في تركية وغيرها؛ هذا بالرغم من الأساطير المتداولة آنذاك، بين أترابي من طلبة الجامعة، عن الإمكانات الكبيرة، الثقافية، المتاحة لبني قومنا، في السويد بشكل خاص. ومن هذا البلد الأوروبي الشمالي، جاءَ محمد أوزون، زائراً وباحثاً في آن، جاعلاً دمشقَ قِبلته؛ وهي المدينة التي كانت، حتى النصف الأول من القرن العشرين، مركزاً رئيساً للنهضة الكردية. وعلى كل حال، تسنى لي معرفة الرجل، ما أنْ علمتُ منه أنه يكتب مقالاته وأشعاره باسم مستعار؛ هو "م. فرزند باران"، وأنه المحرر الأدبي لمجلة شهرية، كردية - تركية، تصدر في ستوكهولم. كنتُ قد نشرتُ، في المجلة ذاتها، بضعة رسوم كاريكاتورية؛ رسومٌ سبق لي وعرضتها في صالاتٍ مختلفة ، وحضرها فيمن حضرَ لفيفٌ من كرد تركية، السياسيين، الملتجئين آنئذٍ لحِمى الشام.

2

مضتْ أعوامٌ سبعة على ذلك اللقاء، العابر، ثمّ ما لبثتُ، بدوري، أن وجدتني لاجئاً في كنفِ الفايكنغ؛ في البلد الذي قال عنه محمد أوزون، في مقالةٍ له، مُحابية، بإحدى كبريات الصحف السويدية، أنه أضحى المركز الرئيس للثقافة الكردية ـ كذا ـ خلال النصف الثاني من القرن العشرين. إستقرّ بيَ الحالُ، إذاً، في مدينة أوبسالا، أينَ شقيقتي الكبرى تقيمُ منذ سنين ٍ عشر؛ وهي مدينة الطلبة لعموم شبه الجزيرة الإسكندنافية، والتي ما فتئتْ أوابدُها مزاراً لأطياف أعلام الأدب والفن؛ كستريندبيرغ وإيكيلوف ولارسون وبيرغمان.. وغيرهم، ممن كانوا تلاميذاً في هذه الجامعة أو ذاك المعهد. كانت شقيقتي تلك، المذكورة، على علاقة طيبة بأقرباء كاتبنا الكردي، الذين كانوا يعيشون كأسرةٍ واحدة على مقربة من منزلها. ثمّ ما عتمَ بكرُ تلك الأسرة، وإسمُهُ فرَمان، أن صار فيما بعد صديقاً حميماً لي. هذا الصديق، أخبرني ذات يوم شتائيّ، قارص، بأنّ إبن عمه، محمد، قد "تذكرني"، وأنه يودّ لقائي. وما كان أسرعني إلى لقاء الكاتب، الذي أضحى آنذاكَ معروفاً، بفضل رواياته الثلاث، الصادرة تباعاً بفارق سنتيْن لكلّ منها، وفي العاصمة ستوكهولم، حيث يعيش. هذا اللقاءُ، شاء كاتبنا أن يحصلَ على عجلةٍ من وقته الثمين، وفي مقر الجمعية الكردية، الكائن أيامئذٍ في مركز المدينة. قلنا أنني وصلتُ عجولاًً، صُحبة َ إبن العم، لينجذبَ بصري ، تلقائياً، إلى مكان محمد أوزون، المترامي بطوله المديد على أريكةٍ أثريةٍ، حائلة اللون. ما لبثَ أن تزحزحَ عن مجلسه بنصف قيامةٍ شارعاً نحوي كفه المعطرة، الثقيلة والباردة، كيما أصافحها..، أو ربما لأقبّلها.

على أنّ برودة َ لقائنا، الموصوف، المتماهية بصقيع ذلك العام، أضحتْ ذكرىً منسية في طياتِ لقاءاتٍ حارةٍ بيننا، أكثرَ حميمية. خاصة ً إذا علمنا أنّ كاتبنا، الكبير، زادَ من تردده على مدينتنا، الصغيرة، بحكم إرتباطه بإبنة عمه؛ شقيقة صديقي فرمان. أحياناً، كانَ العروسان السعيدان يمران عليّ، وأنا في غرفتي المتواضعة الكائنة على طرفِ المركز. غرفة متواضعة بحق، لم تحتو من أثاثٍ إلا على سرير ومكتبة وطاولة للكتابة واخرى للـ " ضيافة " مع كرسيّ وحيدٍ، أثريّ، محظوظٍ ولا ريب؛ بما أنّ كاتبنا كانَ لا يجدُ غيره مناسباً لإنطواءة قامته الفارعة. وقتذاك، كان يطيبُ لي سماع ملاحظاته ، فيما رسومي الكاريكاتورية، الجديدة، تنسابُ الواحدة إثرَ الاخرى، بين يديْه : " لماذا لا تتفرغ للرسوم المائية والزيتية، فهيَ الأكثر ديمومة للخلق والإبداع ؟ "، يخاطبني صديقي الكاتب، وقد بدا على قسماته أخيراً ضيقٌ ما، مبعثه على الأرجح تلك الرسوم الملاحقة لأحداثٍ سياسيةٍ باعثة، هي الاخرى، على الضجر. من جهتي، فما كنتُ بقرارة نفسي سوى على الرأي، نفسه، ما دامت السياسة ُ أضحتْ بنظري ملعباً موبوءاً. علاوة ً على مرارة ملاحظتي، أنّ الوعيَ الجمعيّ لفكرة الكاريكاتور، يكادُ أن يكونَ غائباً حتى في مجتمع ٍ راق ٍ، كالمجتمع السويدي؛ فما بالكَ بأكرادنا، الذين من المُفترض أنّ تلك الرسوم تخاطب وعيهم بالذات. ولكي يشدني الرجلُ إلى رأيه، إقترح عليّ عندئذٍ أن أصممَ دزينة من " الموتيفات " لروايته الجديدة، قائلاً أنه سيوافيني في زيارةٍ تاليةٍ، قريبة، بنسخة عن مسودتها.

رواية محمد أوزون، وهي الرابعة في قائمة أعماله، حملتْ هذا العنوان، بحسب الترجمة العربية، " يوم من أيام عفدال زينكي ". نسخة المسودة، الأولى، للرواية هذه، ما زالتْ صفحاتها منطوية على بعضها البعض، في عتمة أحد أدراج مكتبة أرشيفي؛ صفحاتٌ متجاورة مع تلك الاخرى، المخطوط عليها رسومي، الأصلية، الموضوعة كموتيفات للرواية ذاتها. وما زلتُ، أيضاً، أستعيدُ بهجة كاتبنا، المتمعّن بالرسوم تلك، والمتسعة إبتسامته مع كلّ تقليبة جديدةٍ، ليقول لي من ثمّ فيما هو ينقلها لأيدي الضيفيْن الآخريْن : " إنها أكثر تجسيداً للروح الكردية وبيئتها، من تلك الرسوم التي وضعها عابدين دينو لرواية ياشار كمال، " أسطورة جبل آغري ". مناسبة إشارة أوزون لهذه الرواية الأخيرة، أنه كان قد سبق له وزودني بنسخة عنها، مترجمة للكردية، محتفظة بالرسوم الأصلية التي أبدعها الفنان التركي، دينو. هكذا إطراءٌ، كان لا بدّ له أن يُطربَ المرءُ؛ بله في مثل حالتي، آنئذٍ، وفخر أنّ إسمي، المتواضع، ستحمله الرسومُ المرقِشة رواية َ كاتبنا الكبير. بيْدَ أنّ الرواية َ، وقد طُبعتْ بعد بضعة أشهر، في إستانبول، أسقطَ منها إسمي، سهواً - بحسب إيمان كاتبنا المُغلّظة - وظهرَ فيها وحيداً إسمُ مخرج الغلاف : وعلى هذا، فإنّ فخري صارَ لغيري ! حقيقة المسألة، أعلمني بها فيما بعد، وبلا مواربة، بعضُ أصدقائي المطلعين على خفايا عالم " الأدب المهجري "، في السويد. وبإيجاز شديد، فقد جرتْ العادة وقتئذٍ أن يمنحَ ما يُسمى بـ " مجلس الثقافة " مبلغاً من المال، يتناسب وتكلفة الكتاب؛ أكانَ باللغة السويدية أو بغيرها من لغات الجاليات المهاجرة. فضلاً، وهنا بيت القصيد، عن مبلغ آخر من حقّ كلّ من يساهم بإخراج الكتاب أو وضع رسومه وغلافه : وإذاً، فإنّ حقي المادي من رسومي لتلك الرواية، الأوزونية، هو من سقط " سهواً "، في آخر الأمر. على أنّ تلك المسألة، ولكي لا أعودُ إليها مرة اخرى في مقالي ، لم تؤثر قط في علاقتي بالكاتب أو في نظرتي إليه. لقد كنتُ دوماً، فيما يخصّ فن الرسم، أعتبرُ نفسي وبلا أيّ تواضع ٍ دَعيّ ٍ، غير ذي صلةٍ بالإحتراف؛ وبالتالي، ما كان لي المطالبة مرة ً قط عن أتعابٍ مادية لرسومي ـ وهي قليلة على أيّ حال ـ التي أنجزتها لهذا الصديق أو ذاك.

3

بعيداً عن تلك الخفايا، سالفة الذكر، فثمة الكثير مما يمكنُ القولُ فيه، عن الظاهر، الجليّ، في مسلك محمد اوزون. لعلّ أناقته، المُستهلّ بها مقالنا، هي ما تسترعي عينُ المتأمل له، منذ وهلة اللقاء الأولى : تخاله في إعتياده لهندام السهرة، السموكن الأسود، المتوّج بالبابيون الناصع البياض، وكأنما هوَ حاضرٌ أبداً لإستلام جائزة " نوبل " للأدب ، أو لأيّ شيء آخر. الحق أنّ الرجلَ، وربما بداعي علاقاته بشخصيات سويدية هامة، ثقافية وإجتماعية، كان محكوماً بإرتياد أفخم المطاعم والمقاهي في عاصمة الفايكنغ؛ مما يستدعي ذلك من مداومةٍ على رسميات الهندام ولوازمه. إلا أنّ كاتبنا، وأينما تولّتْ وجهته؛ صوبَ البذخ أو البساطة، فقد كانَ يمتلكُ اللسان الذرب، المناسب ، ودونما إفراطٍ في المشافهات التنظيرية أو الحذلقات اللغوية : وبكلمة اخرى، فما كانَ يُضارعُ الآخرينَ به، من أنداده الأدباء، لم يعدُ في أغلب الأحيان عن مجردِ إيماءةٍ آسرة أو حمحمةٍ مفخمة. وبما أنّ كاتب هذه السطور، ينتمي بطبيعته إلى البساطة، فلأقل إذاً أنّ علاقتي آنئذٍ بالكاتب الكبير ما كان لها إلا أن تكونَ ودية ً. بل وأزعمً أيضاً أنه خصّني، من بين جميع الذين عرفهم من أكراد سورية، بما لا أستحقه من الإحتفاء؛ وخاصة ً لدى إستقباله لي في شقته الصغيرة، الأنيقة، التي كانت وقتذاك مركونة في إحدى جادات حيّ " سوندبيبيرغ ". وحينما أضطرُ للإقرار هنا، بأنه إحتفاءٌ أوزونيّ لا أستحقه، فإنما لإستعادتي إحدى إستقبالاته تلك، وقلة ذوقي خلالها. إذ إنبرى في خضمّ السهرة صديقانٌ، مزيفان، لنا، وإبنا عمّ، أصيلان، لفصيلة الثعلب، وراحا يمكران على الرجل تقريظاً مبالغاً به، حتى لقد فاضَ من بوزيهما كرغوة البيرة التي كانا يعبانها بشراهةٍ مزمنةٍ. فيما أنني الفقير لله ساكتاً، كأنما على رأسي الطيرُ الغرابُ : " ها، أخي ؟ لم تتحفنا برأيك في رواياتي ؟! "، إتجه مضيفنا إليّ بسؤاله، المشفوع بنغمة متهكمة. وكان مني الكفرُ بعد سكوتِ الدهر؛ فجعلتُ أتفذلك على الرجل، زاعماً المعرفة بهنةٍ في هذه الرواية وثغرة في أختها. وغنيّ عن القول، أنّ نكشي في أرض الرجل بتلك الفظاظة، أحنقه جداً وكان من علاماته إصفرار تكشيرته. إلا أنه حافظ، كالعادة، على هدوءه وإتزانه، وكأني به يُخاطبني بما أستحقه فيما كان يشيح بوجهه عني : " ومن تكونُ أنتَ يا هذا، كيما تقيّمَ أعمالي ؟ "

على أنه بدا، في يوم آخر، أكثر مرحاً ووداً، حينما هاتفني ملتمساً لديّ معلوماتٍ معينة عن صالح بك بدرخان؛ أحد رواد النهضة الكردية من بدايات القرن العشرين، ممن أقام معظم سني طفولته وصباه في الشام، وكانت عائلته مقيمة في حيّ سوق ساروجة، الأرستقراطي. كانت مذكرات الرجل مدونة بالتركية العثمانية، وسبق لإبنته الوحيدة، روشن خانم، أن حوّلتها إلى التركية الحديثة. والأرجح، أنّ محمد اوزون تسلم المذكرات من تلك الإبنة، خلال زيارته لسورية، الموصوفة آنفاً. وعلى كل حال، طلبتُ منه، كما أذكر، مهلة يوميْن كيما أنبش، بدوري، في " أرشيف الموت " الكرديّ ! ولما أزفَ الوقتُ، كان كاتبنا من الأريحية أنه طلبَ من أحد أقربائه، وكان يقيم آنذاك في أوبسالا، أن يتكرم ويشحنني معه إلى ستوكهولم في سيارته. وفي الشقة الاوزونية، في ستوكهولم، صادف ثمة وجودُ كاتب كرديّ آخر؛ إسمه كويو بيرز، يستخدم اللهجة الظاظية، الكردية، في تدوين الشعر وما شابه ذلك . هذا الأخير، وهوَ أيضاً من مواطني اوبسالا، العتيدين، قال لي بنبرة حانقة، بعيد أيام من جمعتنا تلك في ستوكهولم : " هل تعرف ؟ المعلومات التي جمعتها أنتَ لمحمد اوزون، وملأ بها ثلاث أربع صفحات من كومبيوتره، قد بدأت تنشر متسلسلة في صحيفة " اوزغور " الإستانبولية، كهوامش لتلك المذكرات . ولكنّ إسمه هوَ المتفرّد هناك، ولم يسجل حتى كلمة شكر لكَ؛ أنتَ الذي قدمتَ له كل تلك المعلومات ". بيْد أنّ ذلك الأمر، للحقيقة، لم أتوقف عنده، أيضاً، ولم أشأ له أن يؤثر على صداقتي بكاتبنا الكردي، الكبير، الذي أضحى إسمه يتضخم يوماً بعدَ يوم، كخروف العيد.

أستطيعُ الجزمَ هنا، مشدداً على مبالغ كلّ حرفٍ، أنني ما فكرتُ مرة ً بإستغلال صداقتي لمحمد اوزون - أو أيّ كانَ، غيره - كسباً لمنفعةٍ شخصية ما. ولكنني أذكرُ مقدار دهشته، حدّ الإستنكار، حينما فاجأته يوماً بسعيي لطبع مجموعة شعرية. كانت نظرة عينيه تلتمعُ بهذا المعنى : " رسم وتأريخ، وشعر أيضاً .. هذا كثير ! ". ثم ما عتم أن غمغمَ جملة ً ما، مبهمة. كان الرجلُ، وقتئذٍ، مسؤولاً عن القسم الكردي في " المجلس الثقافي "؛ وهو الجهة المخولة إعطاء الموافقة على طباعة الكتب في السويد. وكان تناهى إليّ، أكثر من مرة، عن إدراج مسؤولنا هذا، الثقافي، لكتب بعض أصدقائه، من الكتبَة باللغة التركية، وضمن قوائم طباعة الكتب، الكردية؛ مبرراً ذلك بـ " المضمون القومي " لتلك الكتب. هنا، بالنسبة لمشروع طباعة ديواني الشعري، ( وهوَ مكتوبٌ باللغة العربية، طبعاً )، فلم ينبس صديقي الكاتب ببنت شفة، مطمئناً من أيّ إحراج، ما دام على معرفةٍ بيّنة بطبعي . حتى جاء ذلك اليوم، أخيراً، الذي أظهرتُ فيه ضعفاً تجاه صداقتي لأحد كتابنا من كردستان العراق. كان هذا الصديق، ويدعى فاروق حفيد، من رعيل الطلبة الكرد، الأول، الذين حصلوا على بعثة دراسية في جامعات أوروبا الشرقية، وقد تخرج هوَ من هنغارية، في بداية السبعينات المنصرمة، بإطروحة في مجال الإتنوغرافية. وبإختصار، أنّ الرجلّ طلب مني مهاتفة صديقي، مسؤول القسم الكردي ذاك، بشأن الإستفهام عن مخطوطته وكانت بعنوان " دليل متحف السليمانية "، التي كان قد وضعها في عهدة " مجلس الثقافة ". ما سمعته أذني من الكاتب الكبير محمد اوزون، عبرَ الهاتف، ما فتئت تصدى به دهراً : " يا أخي ، وهل قالوا لكَ أنّ السويدَ بنكُ أبينا ؟! ". وقلتُ له، الحقُ معكَ، أخي، فالسويد ليسَ " بنق " أبينا؛ بحسب لفظ كاتبنا، القرويّ، لحرف الكاف كـ " قافٍ " فاقع.

4

لم أدّع ِ مرة ، أبداً، القدرة على الكتابة بالكردية، لغتي الأم. ولكنني كنتُ من السذاجة، أنني حاولتُ ذلك، بتشجيع من بعض الأصدقاء. تجربة ٌ مبتسرة حسب، في مستهل التسعينات، حينما كان يبدو خريفُ العمر، لناظري على الأقل، في أفق ٍ بعيد. على أنّ تلك التجربة، على سذاجتها حقاً، أفادتني في رفدِ كرديّتي بمفردات متنوعة، جديدة، فضلاً عن إستسهالي القراءة الأدبية بلغة جبالنا الحالقة . من تلك القراءات، كانت رواية " إسطورة جبل آغري " لياشار كمال. فبالرغم من كون المترجم غير معروفٍ بتضلعه الأدبيّ؛ إلا أنّ النص تغلغلَ في مشاعري وبشكل ٍ مؤثر، حدّ أنني أرسلتُ نسخته الوحيدة لديّ، بريدياً، على عنوان أحد أصدقائي بدمشق. هكذا شعورٌ، إفتقدته كلية ً في قراءاتي لنصوص محمد اوزون، الروائية؛ هذا الكاتب، الذي إستغل جيداً علاقاته الشخصية مع ياشار كمال بالذات، لتسويق بضاعته الأدبية في تركية، بشكل خاص. وعلاوة على المتعة المفقودة، ثمة اللغة الاوزونية، الهجين؛ لغة المؤلف التي كانت من التشوه بحيث إعتدت القولَ لأصدقائي، أنه من الظلم الفادح مقارنتها بلغة أمهاتنا، الكردية؛ الأمهات اللواتي كنّ شبه أميّات ! وعطفاً على ما أوردته بخصوص رواية ياشار كمال، المترجمة للكردية، أقول أنه لطالما إدعى البعض عجز لغتنا الأم عن مجاراة الكتابة الأدبية، لما زعموه عن فقرها - كذا - بالمفردات والإشتقاقات : ولا محيد هنا عن التساؤل، لمَ تحقق رواية كـ " إسطورة جبل آغري "، كمثال، المتعة المطلوبة؛ رغم أنها مترجمة للكردية، ولا تستطيع هذه اللغة نفسها إمتاعاً في قراءتكَ لرواية من تأليف محمد اوزون ؟ كانَ من المفهوم، إذاً، إمتناع كاتبنا عن محاولة نقل رواياته إلى اللغتيْن التركية والسويدية؛ هوَ الذي يجيد هاتين اللغتين. وبالمقابل، فقد أجهدَ نفسه كثيراً، هنا وهناك، سعياً منه لترجمة نصوصه تلك إلى اللغات الاخرى، وخاصة ً الفرنسية والألمانية : كان في تفكيره، على ذمة معرفتي، أن تأتي ترجمات كتبه إلى السويدية، خصوصاً، منقولة من لغة اخرى؛ كالألمانية مثلاً. وهو ما حصل فيما بعد، فعلاً. لقد كان بقدرة كاتبنا، لو أرادَ، تأمينَ ترجمة كتبه للسويدية، الواحد إثر الآخر؛ بالنظر لما يملكه من معارف وعلاقات إجتماعية، واسعة. إلا أن تريثه في ذلك، يُحيل إلى صفةِ الدهاء في شخصيته؛ هوَ المفترض معرفته، وقبل أيّ أحدٍ كانَ، قيمة ما يكتبه..

إنّ مثال النجومية التي حققها محمد اوزون، ككاتب كرديّ على أبواب " العالمية "، هوَ ميزانٌ لإنعكاس مسلك شخصيته، المتسِمَة بالمهارة في حبك العلاقات الإجتماعية، فضلاً عن " الإتيكيت " الخارجيّ لمظهره المهيب وما كان يحيطُ به إسمه من مظاهر التفخيم والتعظيم كـ " عميدٍ للرواية الكردية ". ولا ننسى أنّ السياسة كفعل كفاحيّ، مشروع، بالنسبة للكرد كأمة مستعمرة وممزقة؛ هذه الفعلُ ، وجدَ فيه أكثر كتابنا دريئة ً يتمترسون خلفها، سعياً إلى شهرةٍ أجادوا حقاً في صنعها وبحوْل البروباغندا السياسية لقضيتهم عالمياً، لا بالقيمة الحقيقية لنصوصهم الإبداعية : وما كان إتفاقاً، أبداً، كونَ أول " نص " مترجم لمحمد اوزون إلى لغة اخرى، أوروبية، هو مقال سياسيّ له بعنوان " إبكِ يا وطني الحبيب "؛ المنذورُ لفاجعة لجوء ملايين الكرد إلى حدود الدول المجاورة للعراق، إثر حرب الخليج الثانية عام 1991 وتحطيم النظام الصدامي للإنتفاضة الشعبية الشاملة. كما أنّ كاتبنا " وظف " جيداً التعاطف الغربيّ مع قضية شعبه في كردستان تركية، لصالح إسمه، الأدبيّ . هذا، وعلى الرغم من حقيقة معروفة على الملأ؛ وهي أنّ محمد اوزون، نفسه، رفض دوماً أيّ إشارة لتلك المعاناة خلال مقابلاته الصحفية والتلفزيونية - السويدية بشكل خاص - مبرراً ذلك دوماً بحجةٍ متهافتة؛ وهيَ تحفظه على النضال المسلح في تلك الأصقاع الكردية : وحتى في هذا المسألة، كان يتقصّد ألا يفارق موقفهُ الموقفَ الغربيّ، بشكل عام، المعارض لذلك النضال، بشكله المسلح. وكانت قمة الأثافي في المسلك الاوزوني، الموصوف، ما خرجَ به في العام المنصرم على وسائل الإعلام السويدية، لدى وصوله لمطار ستوكهولم قادماً من إستانبول، من زعم تلقيه تهديدات جدية من طرف "الإرهابيين الأكراد"، خلال إقامته في تركية التي إمتدتْ لسنة تقريباً.

نتذكرُ الآن محمد اوزون، في شدائدِ الخبر القادم عبر وسائل الإعلام؛ المفيد بنقله إلى إحدى المستشفيات الأمريكية، بعدما أخطرَ بتطور خطير للورم الخبيث الذي كان يعاني منه. أتذكره شخصياً، في خبر هيمنَ عليّ كما هينمَ دجى الخريف على العمر وذكرياته. من النافل هنا، الإفصاح عن مدى ألمي لمصاب الصديق الكاتب؛ بالرغم مما سيحمله عليّ البعض من قسوتي النقدية عليه. إنّ صورته الأخيرة، التي نقلتها وسائل الإعلام نفسها، قد تماهتْ مع ذكرياتي عن صاحبها : فلأول مرة ربما، يظهرُ محمد اوزون في غير هندامه الباذخ، الأنيق حقاً؛ هوَ المكتسي حلة المرض، الصفراء، والمثبت نظرته البائسة، الحزينة، بالكاميرا، وعبرها مباشرة ً بنظراتنا نحن؛ أصدقائه وقرائه. لم يجُز لي إطلاقاً، لحظة وقوعي على الصورة والخبر المرفق بها، ريبة أنّ ذلك قد يكون من "إكسسوارات" النجومية، المرتبطة بإسم الرجل. لم يجُز لي، لحظتئذٍ، سوى التفكير بذلك الشبح الغامض، الذي دعاه سليم بركات بـ " الأب العماء "، في مطولته الشعرية "المثاقيل"؛ الشبح الخصم، الخرّاص، الأخرَق ، المكفهرّ - كأجَل ٍ محتوم.

Dilor7@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف