العلمانية المستحيلة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
ينشد الجميع في شرقنا الكبير الإصلاح، وإذا ما استثنينا من يعنون بالإصلاح العودة إلى ما كان من أربعة عشر قرناً خلت، فإن المقصود بكلمة الإصلاح هو تحديث المنطقة سياسياً وثقافياً واجتماعياً واقتصادياً، بهذا لابد وأن يكون معنى ومبنى الإصلاح هو التغيير الشامل، وليس مجرد ترقيع ثوب الشرق القديم والمتهرئ، وهذا يقودنا إلى استهداف العمود الفقري لثقافة شعوب المنطقة، والذي تتفرع منه كل عللها وأسقامها، من تخلف سياسي عبر النظم الأبوية، ثورية كانت أم تقليدية محافظة، وتخلف ثقافي يتمثل في الجمود والعقم والعجز عن الإبداع، بل والعجز عن استيعاب وقبول فكر العصر وروحه، وما يترتب على هذا من تخلف اجتماعي واقتصادي، وانتهاء باستشراء ثقافة الكراهية والعداء لكل ما هو حضاري وكل من هو متحضر، لتثمر الكراهية قتلاً وإرهاباً، فرض نفسه بجدارة على مسيرة الحضارة الإنسانية منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001، فكان أن صرنا الشغل الشاغل لقطاع البشرية المتحضر، يرجمنا بالصواريخ والقنابل تارة، ويسعى لنشر الديموقراطية وقيم الحداثة في مجتمعاتنا تارة أخرى، ونحن نقابل هذا النهج وذاك بمقاومة مستميتة، تجعل من ينشد الإصلاح كمن يضرب رأسه بالصخور، فلا يجنى غير إسالة دماه، كما تسيل دماء قوات التحالف في أفغانستان والعراق، بينما نحن صامدون صمود الصخور الأزلية.
لابد وأن يستمر هذا الحال ما بقي ما اعتبرنا العمود الفقري لثقافة شعوبنا على حاله، فمن العبث محاولة استئصال الفروع والأوراق، أو استنبات فروعاً وأوراقاً مغايرة، مادام الجزع يعيد إنتاج ما اقتطع، ويأبى أن يفرخ غير ما هو مؤهل لتفريخه، فالجمود يقود إلى رفض الحداثة، والرفض يقودنا للكراهية، والكراهية تثمر القتل والإرهاب، بداية الخط إذن من الجمود، والجمود في منطقتنا يأتي من غياب الفكر بمعناه العلمي لدى الفرد ومن ثم الجماهير، والاكتفاء بالاستناد إلى نصوص دينية، لابد وأن تكون ثابتة، رغم محاولات البعض التطور بتفسيراتها أو تأويلاتها لتتواكب مع متغيرات الحياة، فهذه المحاولات رغم إخلاص دوافعها النبيلة، لا يمكن أن تكون مجدية في تحقيق تغيير عميق وجاد، فهي أولاً تقابل بمقاومة جبارة من قبل التفسيرات الكلاسيكية لتلك النصوص، والتي علاوة على أنها تجد شعبية ورواجاً لدى الجماهير، ربما كانت الأصدق في التعبير عن روح تلك النصوص المقدسة، وليس فقط التعبير عما تشير إليه دلالاتها السيميائية المباشرة، ثانياً إن المدى الذي تستطيع هذه التفسيرات والتأويلات باتجاه الحداثة أن تذهب إليه محدود وضئيل، مقارنة بالمسافة بين تلك النصوص القديمة وبين قيم الألفية الثالثة، كما أن قوة الدفع التي يمكن أن يوفرها الاقتناع بتلك التأويلات، إذا ما قورنت بقوة اندفاع الشعوب الأخرى المؤمنة في الأساس بقيم التطور، ستعتبر بمثابة مكابح تحد من سرعة التطور وليس قوة دافعة باتجاهه.
الحل إذن لتحقيق تحديث شعوب الشرق هو التوقف عن الاستناد إلى نصوص مرجعية ثابتة، لتبدأ في الاستقلال الفكري، وفي النظر إلى حقائق العالم دائبة التغير، مستعينة بالآليات المناسبة لكل مجال من مجالات الحياة، الآليات التي تتأسس على القابلية للتطور والتغير الدائم، والتي اصطلحنا على تسميتها بمنهج التفكير العلمي، وبتعبير آخر التحول من الدوجماطيقية إلى العلمانية.
العلمانية المنشودة إذن ليست مجرد فصل الدين عن الدولة، كما يتردد على ألسنة الكثيرين ممن ينظرون إلى العلمانية من منظور تاريخي، على ضوء ما حدث في أوروبا من إنهاء سيطرة الكنيسة على الدولة، جاهلين أو متجاهلين أن هذا الفصل وإن كان بداية الانطلاق نحو الحداثة، إلا أنه لم يأت بقرار فوقي، أو حتى ثورة شعبية مفاجئة، لكنه كان تتويجاً لمسيرة إفاقة الإنسان الأوروبي من سبات القرون الوسطى، تلك الفترة الجديرة بألا نعتبرها فترة سبات وظلام حقيقي، وإنما فترة حمل ومخاض بما تلاها، وتم في حضنها اكتمال إرهاصاته ومقوماته، بدأت المسيرة بتغير نظرة الإنسان لذاته، وبأنه سيد مصيره، وبأنه قادر على صنع مستقبله بيديه، دون اعتماد على قوى خارجية متسامية، وبالاعتماد على قدرات عقله، دون ما حاجة إلى نصوص مقدسة تهديه سواء السبيل، وبأن العلم الذي كان قد بلغ يومئذ مرحلة الفتوة كفيل بأداء مهمة الهداية تلك على خير وجه، فكان أن انحصر دور الدين في حياته في معالجة شئون السماء، لتبقى الأرض ساحة للعلم، تحت السيادة الكاملة للإنسان.
كان فصل الدين عن قمة السلطة أي الدولة إذن انعكاساً للوضع عند القاعدة، أي الجماهير التي باتت تنظر إلى حقائق الحياة وعلاقاتها المتشابكة بمنظور علمي تجريبي، وبدون هذا الوضع عند القاعدة لم يكن ممكناً أن يكون لفصل الدين عن الدولة أي معنى أو تأثير حقيقي، وبهذا سار الحكام والمحكومون على ذات النهج وفي نفس الاتجاه، وبهذا التوافق والتناغم تقدمت مسيرة الحضارة الإنسانية إلى الذرى التي يشهدها عصرنا الراهن.
القرار العلماني إذن لم يكن قرار الحكام والممسكين بزمام الأمور، سواء نتيجة قناعاتهم الشخصية، أو تحت ضغوط رواد التنوير الذين نحفظ أسماءهم جميعاً، بل كان قرار الملايين من الأفراد البسطاء، الذين قرروا تحطيم القيود التي تربطهم بالماضي ونصوصه الثابتة، وقرروا الاعتماد على أنفسهم دون ما حاجة لمعين خارجي متسام، ووجدوا في العلم الأداة المعينة في رحلتهم نحو مستقبل يختلف جذرياً عن كل ما كان، هنا يمكن أن نرصد أمرين تحلى بهما الإنسان الأوروبي ليقدم على ما أقدم عليه، الأول هو الثقة بالنفس، والثاني المقدرة على التفكير بما يمكنه من استيلاد العلم واستيعابه، وهنا يمكن أن نتساءل إن كان هنالك علاقة بين الأمرين، أو أن أحدهما ناتج عن الثاني، فالثقة بالنفس تدفع الإنسان إلى اقتراف التفكير واعتناق نتائجه دون خوف أو تردد، وفي ذات الوقت يمكن القول أن المقدرة على التفكير وبالتالي امتلاك العلم يعطي الفرد ثقة في نفسه، فثقة الجاهل في نفسه حماقة تودي به إلى المهالك، ومن ثم تعطيه المبرر لخيار التبعية والوقوع في أسر كهنة النصوص.
الآن إذا ما تأملنا هذين العاملين: الثقة بالنفس والقدرة على التفكير، يمكن أن نعزوهما إلى أسباب بيولوجية، قد يختص بها جنس من البشر بأكثر مما تختص أجناس أخرى، بما يجرفنا إلى تقسيم البشر إلى درجات تتعد بتعدد الأجناس، مستعينين بإنجازات الشعوب في الماضي والحاضر، لنحصل على قائمة تنازلية للشعوب، حسب الحد الأقصى الذي تستطيع الوصول إليه، في درجة الثقة بالنفس والقدرة على التفكير العلمي، باعتبارهما على علاقة تربطهما بحيث يصيران كما لو كانا أمراً واحداً، وقد نضع بالقرب من نهاية تلك القائمة خطاً أحمر، ندعي أن الشعوب التي تقع تحته غير قادرة على مسايرة الشعوب التي فوقه في مسيرتها الحضارية، وأن توقف الشعوب تحت الخط الأحمر عن المساهمة في صنع الحضارة هو أمر قسري لا يد لها فيه، وأنها ستظل هكذا سجينة المستوى الأقصى الذي استطاعت الوصول إليه، والذي كان في الماضي مقبولاً، وربما وضعها بحكم قدم هذه الشعوب في الصدارة في فترة من الفترات، لكنها تعجز الآن عن تخطيه، لأسباب بيولوجية حاكمة وقاهرة.
لكننا يمكن أيضاً أن ننظر إلى الثقة بالنفس والقدرة على التفكير، باعتبارهما عوامل مكتسبة من البيئة، وأن البيئة الليبرالية تمنح الإنسان ثقة في ذاته، بعكس البيئة الشمولية والمجتمع البطريركي، الذي يسلب الإنسان ثقته بنفسه، بتربيته على الخنوع والانقياد، كما أن النظام التعليمي الجيد يدرب العقل الإنساني على التفكير، فيمتلك ناصية العلم ليعود العلم ليمنحه ثقة حقيقية وجديرة بالذات.
الآن أي النظرتين هي الصحيحة، أو أن الأمر خليط بينهما، بمعنى أنه حتى لو كانت النظرة البيولوجية صحيحة، فإن العوامل البيئية يمكن أن تحد من تأثيرها أو تزيده؟ أمامنا مثال لشعب واحد هو الشعب الألماني، الذي قسمته الحرب العالمية الثانية إلى شعبين محكومين بنظامين مختلفين، فكانت النتيجة تراجع ملحوظ في الإنجاز الحضاري لأحد القسمين، في مقابل تعاظم الإنجاز الحضاري للقسم الآخر، ونفس هذا الاستقراء يمكن تطبيقه على الشعوب التي أفضى بها التقسيم البيولوجي إلى الوقوع تحت ما افترضنا أنه خط أحمر، فالبيئة المناسبة يمكن أن تضاعف من إنجازات هذه الشعوب، حتى قد تعبر خط التخلف الذي بدا للوهلة الأولي كقدر يستحيل تخطيه.
في جميع الأحوال نجد أن إرساء العلمانية - ككل تغيير جذري - لا يمكن أن يأتي من أعلى وبقرار فوقي، ولا يفيد فيه مجرد تغيير في بنود دستور أو قانون، ولا يفيد فيه مجرد الحيلولة بين رجال الدين وبين التحكم في قرارات الدولة، فما دام الإنسان الفرد يعتمد في نظرته إلى العالم على مرجعية دوجماطيقية ثابتة، تفضي به إلى تجاهل العلم والجهل به، فمن العبث الحديث عن الليبرالية أو العلمانية، لأن الأمر عندئذ سيكون مجرد شعارات غير قابلة للتطبيق، وإن كانت صالحة لأن نتقاتل عليها إهداراً للوقت واستنفاداً للجهد.
السؤال المحوري هو: هل يمكن أن تتوفر لشعوب الشرق ظروف تتيح لها تخطي الخط الأحمر، إن كان ثمة خط أحمر، أم أن هذا هو المستحيل؟!!
kamghobrial@yahoo.com