رئيس آخر حتى الموت رغم أنفه!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
(كتبتُ هذا المقال يوم الجمعة 23/6/2006، قبل اعلان الرئيس علي عبد الله صالح يوم السبت 24/6/2006 تراجعه عن قراره بعدم ترشيح نفسه لانتخابات الرئاسة، بناء على طلب الجماهير، ونزولاً عند رغبة الشعب كما قال، وبذا صدقت رؤية المعارضة اليمنية من أن ما قاله وما أعلنه الرئيس اليمني كان مسرحية سياسية، ومسرحية سياسية هزلية مقرفة، ضحك بها الرئيس اليمني على الجميع، وكنتُ أنا الأهبل أول من صدّقه، وأول من ضحك عليه الرئيس صالح. وبذلك رضي الرئيس صالح لنفسه أن يكون تاكسي أجرة يستأجره حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم أو القوى السياسية لإيصالها من المحطة إلى الفنادق على حد تعبيره. ورضي الرئيس صالح أن يكون مظله لفساد حزب سياسي، أو قوى سياسية كما قال حرفياً في خطابه الأخير. فهل كنت في مقالي هذا كمن ينفخ في رماد ويصرخ في واد؟ لقد نسيتُ للحظة واحدة قبل كتابة هذا المقال، بأن العرب أمة الواحد الأحد في الأرض والسماء على السواء. وأن الربَّ واحدٌ والزعيم واحدٌ والقائد واحدٌ. وأن لا تعددية للعرب في السماء، وكذلك لا تعددية لهم على الأرض،كما كان عليه الحال منذ أربعة عشر قرناً ويزيد حتى الآن.)
-1-
إذا صدق الرئيس اليمني علي عبد الله صالح في أقواله، وإذا ثبت الرئيس على موقفه، وإذا احترم الرئيس موقفه، وإذا كان الرئيس صالح من الرؤوساء العرب ورؤوساء العالم الثالث النادرين، فإنه لن يتراجع عن موقفه وسوف يصرُّ على عدم ترشيح نفسه، بعد أن حكم اليمن طيلة 28 عاماً منذ عام 1978، لكي لا يصبح تاكسي أجرة يستأجره حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم، أو القوى السياسية لإيصالها من المحطة إلى الفنادق على حد تعبيره . ويرفض أن يكون مظله لفساد حزب سياسي، أو قوى سياسية، كما قال هو شخصياً في خطاب له مؤخراً.
والرئيس علي عبد الله صالح بموقفه الذي يبدو حتى هذه اللحظة، ليس بمسرحية من المسرحيات السياسية التي يفتعلها الزعماء في العالم العربي لكي يبقوا في مناصبهم ويجددوا النداء الشعبوي العربي المعروف (بالروح بالدم نفديك يا ...).
ولعل تخوّف بعض أطراف المعارضة اليمنية من استغلال تصريح عبدالله صالح لحشد مزيد من التأييد الشعبي لبقائه في السلطة والتغلب على مطالب الإصلاح السياسي والاقتصادي والتعليمي مُحقَّة وفي محلها، بعد أن قرأت وشاهدت المعارضة اليمنية ما فعله وافتعله رؤوساء عرب قبل الرئيس صالح، كالتي افتعلها عبد الناصر أيام أن تنحى بعد هزيمة 1967، وعاد تحت ضغط الشارع المصري.
فنأمل من الرئيس اليمني أن لا يستجيب لعواطف الشارع اليمني، كما استجاب عبد الناصر لعواطف الشارع المصري. وكأن مصر الخمسين مليوناً في ذلك الوقت، لم تلد غير عبد الناصر الذي كان فشله أكثر من نجاحه، وكان خطأه أكثر من صوابه، وكانت قراراته شعبوية عاطفية وشخصية وانتقامية أكثر منها قرارات مؤسساتية عقلانية وواقعية ووطنية. وكان يسعى إلى ارضاء الجماهير الخفيرة المتشنجة أكثر من ارضائه لعقل مصر. وكان يحقق للجماهير ما تريد وتطلب، لا ما تحتاج اليه. ومن هنا كثرت سقطاته، وتعثرت خطواته، وأحبه الناس بقلوبهم وعواطفهم لا بعقولهم وحساباتهم.
-2-
لا نريد للرئيس علي عبد الله صالح أن يكرر التراجيديا الناصرية.
عليه أن يكون صلباً أمام عواطف الشارع اليمني، ويضرب مثالاً حياً للزعماء اليمنيين الذين سيحكمون بعده، وكذلك للزعماء العرب المتمسكين بكراسيهم وعروشهم لأسباب كثيرة منها - كما يقول إعلامهم - لمنع انتشار الفوضى في بلدانهم بعد أن يبتعدوا عن الحكم، ومنها أن الجماهير المخلصة تريدهم، ومنها أن الوطن يعدّهم من الآباء المؤسسين، ومنها أن الله خلقهم وكسر القالب بعدهم. فلا يوجد في البلاد التي تعدادها أكثر من سبعين مليوناً مثلاً غيرهم يستأهل الحكم ويقدر على مشقاته، حتى أن بعض الحكام في العالم العربي الذي أمضوا في الحكم عشرات السنين ليس لهم نواباً يتولون الحكم من بعدهم، فيما لو زارهم ملك الموت عزرائيل يوماً وقال لهم : شرّفونا!
نعم، لا نريد للرئيس العتيد علي عبد الله صالح أن يسير على طريق الأصحاب والأحباب من الحكام العرب المعاصرين والمناضلين الذين استولوا على الأوطان وما عليها من أنعام بالأونطة والحيلة والاستلاب، وحوّلوها إلى مزارع وعِزب لهم ولابنائهم من بعدهم. لذا، فخطوة الرئيس اليمني لن تكون بالخطوة الحكيمة في رأي كل الحكام الجمهوريين العرب، لأنها تكسر القاعدة، وتحرم أصحاب المزارع والعِزب من استمرار امتلاكهم، هم وأولادهم للوطن وما عليه من أنعام. فقد ناشد الرئيس معمر القذافي الرئيس علي عبدالله صالح النزول عند رغبة الشعب اليمني، وإعادة ترشيح نفسه في الانتخابات الرئاسية القادمة ، مؤكداً أن اليمنيين والأمة العربية بحاجة إليه، باعتباره أحد الزعماء الذين تعول عليهم الأمة. وقال القذافي في اتصال هاتفي أجراه مع صالح، أن هذه المعركة لا ينبغي الانسحاب منها، وانه يضم صوته إلى صوت الشعب اليمني في مطالبته الرئيس صالح بالعدول عن رغبته، بعدم ترشيح نفسه في الانتخابات الرئاسية القادمة.
ولم يقتصر هذا النداء وهذه الرغبة على الحكام العرب فقط، بل تعداه إلى المثقفين العرب. فقد أشار الكاتب اللبناني فيصل جلول الذي رافق الرئيس صالح في جولته الأخيرة إلى بعض المحافظات اليمنية أن ما يمكن أن يثني الرئيس صالح عن قراره هو إجماع كافة القوى السياسية في الساحة على ترشيحه للانتخابات الرئاسية القادمة وهو ما ذهب إليه كثير من السياسيين بما فيهم المقربون من الرئيس صالح، حسب قول جلول. ولكن على الرئيس اليمني أن لا ينصت وألا يستمع لأصحاب مزارع الأنعام، الذين يحرصون بهذا التحفيز وبهذا الحث على الاحتفاظ بمزارعهم والتنعّم فيها وبها.
على الرئيس صالح أن يكسر القاعدة، ويكسر احتكار السلطة. فجورج واشنطن مؤسس الولايات المتحدة الأمريكية وبطل الاستقلال، أصرَّ عليه مواطنوه أن يكون رئيساً مدى الحياة بعد ولايته الثانية أو يحكم على الأقل ولاية ثالثة وفاءً له واعتزازاً بانجازاته التاريخية، باعتباره بطل الاستقلال والأب الروحي للشعب الأمريكي، ولكنه رفض ذلك رفضاً باتاً ، وعارض عواطف شعبه، ورغبات والتماسات الكونجرس الأمريكي، لكي لا يكون سابقة سياسية سيئة، ومثالاً يحتذى في المستقبل لمن سيأتي بعده من الرؤوساء، ولم يرقَّ قلبه لكل هؤلاء، لأنه حرص على مستقبل أمريكا أكثر من حرصه على كرسي الحكم. وهؤلاء هم العظماء في التاريخ البشري.
-3-
نعم، الرئيس اليمني علي عبد الله صالح رئيس عربي متميز بين الحكام العرب. وهو رغم أنه جاء من المؤسسة العسكرية كمعظم الحكام العرب الجمهوريين، بعد أن عاشت اليمن قبل عام 1978، حالة من الانفلات الامني الكامل والفراغ السياسي، ووصلت الاوضاع الى حد، كان معه اليأس قد دب في نفوس اليمنيين الذين كانوا قد فقدوا الامل، وكانوا يترقبون حرباً أهلية شاملة تأكل الاخضر واليابس .
إلا أن حُكمه تميز بتحقيق انجازات وطنية مختلفة، وإن كانت له أخطاؤه الكبرى من حيث التسيب والفساد ونهب المال العام وانتفاع المحاسيب والأقارب من الفرص المالية التي اتاحتها لهم دولة الرئيس صالح. وكلام المعارضة اليمنية وبياناتها في هذا الشأن كثيرة وصحيحة في معظم ما احتوت من اتهامات واشارات وبيانات. وهذه الأمراض هي الأمراض التقليدية لدول العالم الثالث ومنها الدول العربية، وعلى الأخص دولة اليمن. فلا دولة من دول العالم الثالث تخلو من مثل هذه الأمراض الفتاكة، ثورية كانت أم رجعية، ملكية أو أميرية كانت أم جمهورية.
إلا أن للرئيس صالح ايجابيات كثيرة. فهو حاكم لبلد متخلف اقتصادياً واجتماعياً ودينياً كذلك، حيث أن ثمانين بالمائة من الشعب اليمني من السلفيين المتشددين ذوي الأوداج المنفوخة بالقات (تنفق اليمن على زراعة وشراء القات أكثر من 2 مليار دولار سنوياً)، وما زالت الأمية الأمية منتشرة في اليمن بنسبة 60% والبطالة بنسبة 50% ، وما زالت المرأة اليمنية في سجنها الاجتماعي والثقافي والسياسي وإن يكن اصرار الرئيس صالح على عدم الترشح لفترة رئاسية قادمة سوف تتيح المجال للنساء للترشح ومنهن سُميّة علي رجاء، وهي مخرجة تلفزيونية بارزة وترأس المنتدى الثقافي اليمني الفرنسي، ولكنها تقيم في باريس. ولو كانت تقيم في صنعاء لتصدى لها زعيم الأصولية اليمنية عبد المجيد الزنداني، وقال لها: "مكانك تُحمدي". ورغم الطابع القبلي الطاغي في اليمن إلا أن الرئيس صالح انتهج في السياسة اليمنية والعربية بعد ذلك، ما عُرف بـ "مدرسة التسامح". فهو لم يعتقل خصماً، ولم يقتل منافساً، ولم يعزل معارضاً. وهو يرى أن الذي يستخدم العنف هو الضعيف، وان الذي يستخدم القوة هو الجبان لان القوي لا يتآمر.
والرئيس صالح هو الذي بادر الى اصدار قرار عفو عام، شمل جميع المتورطين في اعمال الفوضى والتخريب التي شهدتها اليمن، حتى ان اولئك الذين تورطوا في مؤامرة الانقلاب الفاشلة شملهم هذا القرار. وبالتالي، فقد استطاع الرئيس صالح، ان يضع حداً لأعمال العنف والصراعات والفوضى التي كانت سائدة في اليمن ولهذه الغاية، عمل على تشكيل لجنة حوار وطني ضمت ممثلين عن مختلف القوى والتيارات والفعاليات والسياسية والاجتماعية في الساحة اليمنية، وتوصلت هذه اللجنة الى صياغة وثيقة وطنية وافقت عليها جميع الاطراف، وسميت " الميثاق الوطني ". وقد عقد على اثر ذلك مؤتمر عام تم انتخاب اعضائه من قبل المواطنين، على مستوى المناطق اليمنية. كذلك شاركوا في استفتاء على مشروع الميثاق الوطني. وكان لذلك المؤتمر الذي استمر كتنظيم، اطلق عليه المؤتمر الشعبي العام، وضم في صفوفه جميع الاطراف السياسية والتيارات الحزبية، أن أقر الوثيقة. وهذا التنظيم هو الحزب الحاكم حالياً في اليمن. اما الاحزاب القائمة في الساحة اليمنية فقد كانت جميعها منضوية فيه، قبل ان تعلن عن نفسها وتتشكل كاحزاب مستقلة بعد قيام الوحدة اليمنية .
والرئيس صالح هو بطل الوحدة اليمنية بين الشمال والجنوب التي حققها في 1990. وهو الذى سعى إلى تأسيس الأحزاب السياسية والحياة السياسية التعددية بعد تحقيق الوحدة اليمنية مباشرة. وكان بهذا يهيء الساحة السياسية اليمنية لظهور زعامات جديدة تتداول السلطة. ولكن الشعب اليمني كسول ومتخاذل وسلبي واتكالي، كباقي الشعوب العربية تجاه تحضير زعامات سياسية مستقبلية. لذا فأكثر الشعوب العربية هناء وراحة بال هي الشعوب التي تحكمها نظم ملكية وأميرية يتم فيها تداول السلطة تلقائياً دون الحاجة إلى البحث عن قائد جديد. وقد عرفت هذه الحقيقة الحلوة المرة بعض الأنظمة العربية الجمهورية في دمشق والقاهرة وطرابلس الغرب وغيرها، فمنها من ورّث أبناءه ومنها من ينتظر، وما بدلوا تبديلا.
كذلك، فإن الرئيس صالح، فور تسلمه سلطاته، سارع الى اغلاق السجون والمعتقلات السياسية، ولم تعرف اليمن في عهده معتقلات من هذا النوع حتى انه، في عهد الوحدة، وتحديداً بعد انتهاء الحرب التي شهدتها اليمن في منتصف عام 1994 ، تولى بنفسه الاشراف المباشر على تهديم معتقل (فتح) بعدن، وهو اشهر المعتقلات السياسية التي عرفها ما كان يسمى بجنوب اليمن في مرحلة ما قبل قيام الوحدة، بحيث تحول ذلك المعتقل بعد اعادة بنائه الى مدرسة ابتدائية، وروضة للطفولة.
والرئيس صالح يحكم شعباً عاطفياً جاهلاً وتائهاً. لذا، فهو يبحث عن أب له فلا يجد بين العشرين مليون من عدد سكان اليمن إلا الرئيس صالح. وهذا ما قاله الشيخ ياسر العواضي، رئيس دائرة المنظمات الجماهيرية بحزب المؤتمر الشعبي الحاكم ، من أن ترشيح الرئيس وإثنائه عن قراره ليس حباً فيه، ولكن خوفاً على مصلحة البلد ومصلحة الأجيال القادمة. وقال : "نريد من الرئيس خلال فترة الرئاسة القادمة أن يهيئ اليمن لتداول السلطة سلمياً . مضيفاً أن قرار الرئيس فردي، ويجب ألا يستمر عليه وعلينا أن تثنيه عنه".
وهكذا يريد الشعب اليمني من الرئيس أن يهيء ويصنع له زعماء جدد يخلفونه، وكأنهم يوحون له بأن يرشح خليفة له من بين ابنائه أو خلصائه من الحزب حيث أن الشعب غير قادر على التقدم بزعيم وقائد.
وهذا الشعب التائه هو الذي يبكي على فراق الرئيس صالح الآن كما يصوّر لنا إعلام حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم وقيادات أحزاب المجلس الوطني للمعارضة ومشايخ القبائل وقادة القوات المسلحة والأمن وجميع شرائح المجتمع وفئاته المختلفة الذين خرجوا في مظاهرات عارمة خلال الأيام الماضية.
ولكن ماذا لو رحل الرئيس صالح إلى الرفيق الأعلى فجأة اليوم أو غداً؟
وماذا لو اغتال أحدهم الرئيس صالح كما حاولوا في الماضي عدة مرات؟
ما هو مصير اليمن؟
ألم يحسب القادة السياسيون حساباً لمثل هذا اليوم الأسود؟
وهل يصبح الرئيس صالح رئيساً آخر حتى الموت رغم أنفه، ونزولاً عند رغبة شعبه اليتيم، الذي لا يجد في اليمن السعيد في الماضي التعيس في الحاضر أباً وقائداً ورئيساً غير صالح، كما لم تجد الشعوب العربية الأخرى آباء وقادة ورؤوساء غير الموجودين الآن؟
يا للخيبة!