كتَّاب إيلاف

شيء عن مجزرة الجسور بغزة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

الجسور كائنات نبيلة، بل هي أنبلُ المعمار. بناها بشر نبلاء، من أجل غاية نبيلة. لكي تصل بين جهتين أو ضفتيْن. لكي يعبر البشر عليها، فتُلغى بينهم العوائق من كل نوع: طبوغرافية ونفسية. لذلك، أنا أحب الجسور، وأحب زيارتها في أي بلد أسافر إليه. وحين لا أزورها فيزيائياً، أقرأ عنها أدبياً. فعلت ذلك من قديم، وما زلت أفعله بشغف لا يخفُت.
واليوم، في الثامنة صباحاً، بعد ليلة رهيبة من الحرّ والبعوض والظلام الدامس _ حيث دمّرت إسرائيل محطة الكهرباء الوحيدة في غزة، كنت بجوار جسر سكة الحديد بغزة. رأيت هذا الجسر الرومنطيقي الجميل، الذي قيل إن الإنكليز بنوه، قبل سبعة عقود، والذي كان مخصصاً لكي يعبر عليه القطار، من مصر، إلى شمال فلسطين، فلبنان _ رأيته مهدّماً، مقصوفاً بثلاثة صواريخ إسرائيلية، فصلته إلى شلويْن. شعرت بأني أمام كائن حيّ، بُقرت بطنه، وفُصلَ نصفه العلوي عن نصفه السفلي.
هذا الجسر التاريخي، الواقع في منطقة كثيفة الأشجار، فوق مسيل طويل وعريض، تكاد تجفّ مياهه في الصيف، وتهدر في الشتاء، والذي لم يلتفت إليه أحد من قبل، سوى بأقل القليل _ ها هي طائرات الإف 16 تدمّره، للمرة الأولى منذ بُنيَ على يد المستعمر الإنكليزي. لم تدمّره هو فقط، بل دمّرت الجسر الكبير المحاذي له، والواصل بين غزة وخان يونس: جسر صلاح الدين. الجسر الذي بناه المصريون، أيضاً، قبل عقود طويلة من الزمن. ولم تكتف إسرائيل بذلك، بل دمّرت أيضاً، جسرَ الساحل، على شاطئ بحر غزة، والذي بناه الفلسطينيون حديثاً، بعد تشكيل جسم السلطة.
ثلاثة جسور إذن، هدمتها دولة الاحتلال، صباح هذا اليوم الكئيب: الأربعاء 28 / 6 / 2006. بما يعني أن لا جسور في قطاع غزة الآن. فهذه هي أكبر وأشهر الجسور لدينا. والسؤال: لمَ تحديداً تمّ استهداف هذه الجسور، الآن، والآن فقط؟ ولمَ لم تفعل ذلك من قبل، أي طوال سنوات احتلالها البغيض للقطاع؟ تتذرع إسرائيل بالقول: لكي لا يعبر عليها خاطفو الجندي الأسير جلعاد شاليت. مبرر مضحك هو دون ريب. فخاطفو الجندي، لديهم بالتأكيد طرق ومسارب، وليسوا بحاجة أبداً إلى الجسور المكشوفة تحت بصر كاميرات الطائرات الحربية المتطورة.
ما يؤلم هو أنني رأيت أشلاء الجسور الثلاثة، صبيحة هذا اليوم. ويا ليتني ما رأيت! طبعاً يبدو هذا ترفاً شعورياً أمام ما ينتظرنا من أهوال ومجازر في القريب العاجل. فالقطاع محاصر، براً وبحراً وجواً، وكل سكانه ينتظرون أقدارهم، عزلاً عراةً إلا من حوائط بيوتهم. لكني مع ذلك، سأكتب عن الجسور المهدمة، لأنها تلامس عندي شجناً خاصاً، أخذتهُ من الأدب وقراءة الأدب. وأذكر يومَ قصفَ الكرواتيون جسرَ [ موستر ] رمز البوسنيين الوطني، في قلب العاصمة سراييفو، أنني تألمت أيضاً، فقد تذكّرت عنوان الرواية الشهيرة [ جسر على نهر درينا، للروائي اليوغسلافي العالمي، إيفو أَندريتش ]. يومها رأيت القصف عبر شاشة التلفزيون، فعدت في الليل، إلى هذه الرواية الجميلة، وقرأتها من جديد، على سبيل العزاء الشخصي ربما، وتأكيداً، ولو لنفسي على الأقل، بأن " الجسور"، مطلق الجسور، حتى لو تمّ هدمها، فهي لا تموت!
أعرف، ومن خلال مقالة للكاتب النبيل، وداعية السلام الإسرائيلي، نصيرنا ونصير الإنسانية المعذبة، أوري أفنيري، أن جسر موستر، تمت إعادة بنائه، بتمويل أوروبي، بنفس شكله السابق، وقوسه الحجري المميّز. لكني لا أعرف ما هو مصير جسورنا الصغيرة المتواضعة قياساً لذلك الجسر: هل يُعاد بناؤها، أم تظل لشهور وربما لسنوات، مهملة كئيبة!
ثلاثة جسور في يوم واحد. إنها مجزرة الجسور إذاً! مجزرة ارتكبها سلاح الطيران الإسرائيلي، دون أي سبب حقيقي. فقط لكي يقول لنا إنه قادر وفاجر. وكأننا لا نعرف هذه الحقيقة على جلودنا من قبل! حسناً يا عجيبة الجبروت الإسرائيلي. فلتفعل ما تشاء، فلا أحد من سكان كوكبنا، بقادر على ردّك الآن. وكل ما نريده منك، أن ترفق بنا قليلاً، وألا تتمادى، كما هو شأنك وشأن تاريخك الفظيع. إننا محاصرون وإلى أمد غير معلوم. ومع ذلك، نحن السكان المدنيون العزل، ضحايا كل صراع، نقول لكَ، بأننا جميعاً تقريباً، أو جزء كبير منا، نتمنى عودة الجندي المأسور سالماً إلى أهله. فليس مثل مَن جرب موتَ الأبناء، يكون حريصاً على عودة كل أبن إلى حضن أمه وأبيه. لكننا بالمقابل، نرجو من دولة الاحتلال، أن تتصرّف بحكمة، وأن تترك وقتاً للمفاوضات. فلن يفيدها ولن يفيدنا نحن بالأخصّ، أن تترك العنان لجنونها العسكري، فتهدم المعبد على رؤوس ساكنيه. إن كل سكان قطاع غزة، المليون ونصف المليون بشراً، يتمنون نهاية معقولة نسبياً، لهذه الأزمة المفاجئة. فهم شبعوا من الدم والمآسي. ولا يريدون مزيداً من ذلك، لا لهم ولا لغيرهم. فهل تتعقّل دولة إسرائيل، وهل تتصرف بحكمة، لم تكن، تاريخياً، معروفةً عنها؟ نأمل هذا، بل ونصرّ عليه، وإن كانت قلوبنا وعقولنا شكاكة ومرتابة!
أما الجسور الغزية، فأقول لها وداعاً، وأقول لسنواتي الشخصية ولذكرياتي الحميمة عنها، وبالقرب منها، وداعاً أيضاً. وداعاً، ولو إلى حين. وإلى أن يأتي ذلك " الحين " حين التعمير وإعادة البناء، فسأعود، مرة أخرى، لرواية إيفو أندريتش، وسأقرؤها من جديد. ذلك أن لا روايات فلسطينية عن " الجسور " حتى هذه اللحظة. وذلك لأن " الجسر"، هو بطل هذه الرواية الحقيقي، والشخصية الرئيسية في هذا الكتاب، كما يخبرنا المترجم العظيم، المرحوم سامي الدروبي: رجل صناعة الترجمة الثقيلة في وطننا العربي. هذا طبعاً، إن كانت ثمة كهرباء، في هذه الليلة. فإسرائيل، تعاقبنا وتحرمنا، حتى من نور الكهرباء في الليالي، بعد أن حوّلت نهاراتنا إلى ظلام نفسي دامس.. وإلى شيء أشبه ب الجحيم.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف