الجيش العربي الباسل؟!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
البلاغة الخطابيّة شيء والحقيقة شيء آخر، وشتّان ما بينهما. بل وبوسعنا أن نقول إنّه وبقدر ما تجنح البلاغة الخطابيّة العربيّة إلى استخدام الألفاظ والمصطلحات الكبيرة، بقدر ما تكون الحقيقة على أرض الواقع هي خلاف ذلك تمامًا. كذا هي الحال في الثّقافة العربيّة منذ الجاهليّة الجهلاء وحتّى عصرنا الحاضر. وأكثر ما تبرز هذه الحالة في الأنظمة الاستبداديّة، وعلى رأسها نظام البعث، وعلى وجه الخصوص ذلك البعث الّذي لا زال يجثم على صدر الشّعب السّوري منذ عقود.
الأنظمة القومويّة العروبيّة، هي أنظمة شعبويّة ليس إلاّ. ولكونها كذلك فهي تجنح إلى التّهييج العاطفي، إذ أنّها لا تملك رصيدًا آخر غير الكلام، وعلى الكلام "ما فيش جمرك"، كما تقول العامّة. لا شكّ أنّ الكثيرين الكثيرين من العرب لا زالوا يتذكّرون خطب عبد النّاصر الجوفاء الّتي أسّست لهذه الحال العربيّة العقيمة. ومع أنّ هذا النّوع من الخطابة يعجّ بكلّ ما لذّ وطاب من مفردات الكفاح والنّضال، والعروبة وشحذ الهمم، إلاّ أنّ هذا النّوع من الخطابة يستند في الحقيقة إلى ركيزة أساسيّة تتمثّل في احتقار العرب والعروبة أصلاً. بكلمات أخرى، إنّ هذا النّوع من البلاغة الخطابيّة يرى في العرب والعروبة وعاءً واسعًا فارغًا، يتصادى فيه هذا الزّعيق الخطابي، ثمّ يرجع صدى هذا الزّعيق من الوعاء الفارغ إلى الزّعيم الواحد الأوحد، فينتشي هذا الأخير بصدى صوته العائد إليه، مثلما يركن شعب السّامعين المطبّلين إلى الخمول الذّهني.
***
ولكي لا يبقى الكلام مُبهمًا، تعالوا بنا نقوم بجردة حسابات بسيطة تُثبتُ ما نرمي إليه في هذه العجالة. فلو نظرنا إلى ما فعلته السّياسة السورية في العقود الأخيرة، على سبيل المثال، لوصلنا إلى قناعة تامّة بأنّ سورية هذه لم تقم بشيء على الإطلاق. فخلال كلّ هذه العقود، لم تبادر زعامات هذا "القطر"، كما يلهج بذلك لسان "رفاق" البعث، إلى صنع أيّ شيء على مسرح المنطقة، أحربًا كان ذلك الصّنيع أم سلامًا. السّياسات السّوريّة لا تبادر إلى شيء، إنّما هي تقوم بوظيفة التّابع الّذي ينضمّ إلى مبادرين آخرين، فإن ربح المبادر الآخر تتنطّح الزّعامات السوريّة إلى مشاركته في الأرباح، وإنْ مُني بالخسارة يكيلون له الاتّهامات، أو أنّهم يجترحون اصطلاحات جديدة من سلّة البلادة العربيّة لذرّ الرّماد في عيون النّاس.
والأمثلة على هذه "الحنكة" العروبيّة كثيرة. فحين تمّ العدوان الثّلاثي على مصر في العام 56 غداة ثورة يوليو، لم تحرّك سورية "العروبة" ساكنًا على سبيل المثال. لقد انضمت سورية، بصفتها تابعًا كالعادة، بعد مرور عقد من الزّمان إلى عبد النّاصر بعد أن بادر هذا الأخير إلى إغلاق مضائق تيران، فنشبت حرب حزيران 67، وكانت الهزيمة الكبرى خلال ستّة أيّام لا غير. وهكذا سرعان ما اجترحت بلاغة البلادة العربيّة مصطلح النّكسة الّذي شكّل نوعًا من الأفيون الثّقافي في عقول البشر من العرب، وخير دليل على هذا الأفيون هو كلّ ذلك الفيض من الإفرازات الشّعريّة العروبيّة والـ"مقاومة" الّتي نضحت به قرائح شعراء القبائل، فعاشت بطونها وأفخاذها ردحًا من الزّمن على هذا المخدّر.
ثمّ جاء العام 73، فانضمّ "فرسان" العروبة مرّة أخرى إلى مبادرة الحرب الّتي عمل عليها السّادات. ورغم المفاجأة الكبرى للجيش الإسرائيلي في تلك الحرب، ورغم أنّ القوّات السوريّة بدبّاباتها قد وصلت إلى نهر الأردن، إلاّ أنّ رياح الحرب جرت في نهاية الأمر بغير ما اشتهت سفن "مراهقي" العروبة، فانكفأت القوّات السوريّة على أعقابها، وعادت القهقرى. ومرّة أخرى خرج علينا الإعلام العروبي بشعارات النّصر، وحرب تشرين التّحريريّة إلى آخر كلّ تلك الشّعارات الرنّانة. لا يخفى على أحد أنّ هضبة الجولان لا زالت محتلّة من قبل إسرائيل حتّى هذه اللّحظة، فعن أيّ حرب تحريريّة يتحدّثون؟ وحتّى مدينة القنيطرة السوريّة فقد أعادتها إسرائيل إلى سوريّة إثر اتّفاق فضّ الاشتباك بين القوّات الإسرائيلية والسوريّة مع وقف النّار، ولم تحرّرها القوّات السوريّة، بعكس الادّعاءات العروبيّة. ومنذ ذلك الاتّفاق، أي منذ انتهاء حرب 73، لم يُطلق "فرسان العروبة" طلقة واحدة على جبهة الجولان بهدف تحريره من الاحتلال الإسرائيلي. وبعد أن جنح السّادات إلى مبادرته السّلميّة مع إسرائيل، كالت عليه أبواق هذا البعث ممّا تنضح به جعبتها من تهم الخيانة الجاهزة، لكلّ شاردة وواردة.
أمّا عندما غزت إسرائيل جنوب لبنان في منتصف السّبعينات فلم يُحرّك نظام البعث هذا ساكنًا، وعندما احتلّت إسرائيل بيروت في بداية الثّمانيات لم يحرّك نظام البعث ساكنًا مرّة أخرى، بل عملت على سحب قوّاتها والابتعاد عن مسرح المعارك، بخلاف شعارات "الأمّة العربيّة الواحدة ذات الرّسالة الخالدة"، وكلّ تلك المصطلحات الّتي يمكن أن نُطلق عليها "الأفيون البلاغي" العروبي.
ورغم شعارات العروبة الطنّانة هذه، فقد انضمت القوّات السوريّة "الباسلة"، بصفتها تابعًا مرّة أخرى، إلى قوى "الاستعمار"، كما وسموها من قبلُ، في حرب "تحرير الكويت" من نزوات سفّاح العراق الّذي وُضع في الكلبشات أخيرًا. لقد أرسل البعث "العروبي" جيشه مساندة للقوّات "الاستعماريّة" من أجل تحرير الكويت شعارًا، ليس إلاّ. إذ أنّ جهود هذا البعث كانت منصبّة على ابتلاع لبنان ولاستمالة أميركا لهذا الغرض من جهة، ولتملّقها من أجل إعادة الجولان من جهة أخرى. وفوق كلّ ذلك، دأب هذا البعث على العبث بلبنان وإبقائه في حالة هلاميّة، وحالة وسطيّة هي "حالة الدّولة واللاّ-دولة في آن معًا"، رصيدًا له في حال لم ينجح في لعبته هذه. فمن جهة، لا يوجد اعتراف سوري بلبنان كدولة مستقلّة، ولا يوجد تبادر سفراء بين الدّولتين كرمز لهذا الاعتراف، ومن الجهة الأخرى، حاول البعث السّوري ذاته أن يلعب على عواطف الطّوائف اللّبنانيّة ويحرّك خيوط الدّمى الفاعلة فيه لأغراضه. إذ أنّ هذا البعث "الباسل" على استعداد أن يلعب لعبة الحرب مع إسرائيل عبر الحدود اللّبنانيّة، وعبر الدّمى اللّبنانيّة فقط. بل أكثر من ذلك، إنّه مستعدّ أن يحارب إسرائيل حتّى آخر قطرة دم لبنانيّة، بينما تبقى جبهة الجولان السّوريّة هادئة كلّ هذه العقود. وهكذا أحكم البعث العروبي قبضته على لبنان من خلال مخابراته والمليشيات ذات الأجندات غير اللّبنانيّة أصلاً. هل كانت كلّ هذه الخطوات السوريّة فهلوة بعثيّة عروبيّة مرّة أخرى؟ ربّما.
***
والآن، وبعد أن جرجر هذا البعث تقريبًا كلّ أذياله من لبنان، وما دامت عيون المجتمع الدّولي على لبنان بعد مسلسل الاغتيالات والتّحقيقات الدوليّة، فإنّ البعث ذاته بدأ يبحث عن مسرح آخر ينصب بها أحابيله. والمسرح الجديد لهذه اللّعبة هو المسرح الفلسطيني، وربّما الأردني كذلك. وهو إنّما يقوم بذلك من أجل خلط أوراق اللّعب في المنطقة من جديد، لكي يُشغل العالم بقضايا ملحّة مستجدّة، ويُبعد الأنظار عنه وعن ممارساته الاستبداديّة تجاه الشّعب السّوري أوّلاً، والإفلات من استحقاقات التّحقيق الدّولي، من أجل بقائه القبلي في الحكم. وفوق كلّ ذلك، فهو يقوم بهذه اللّعبة من أجل أن تلعب هذه المرّة جهات فلسطينيّة كحماس وغيرها هذه اللعبة الّتي لعبها ويلعبها حزب الله اللّبناني، وكلّ ذلك دون أن يحرّك البعث السّوري ساكنًا على جبهة الجولان طوال هذه العقود.
قد يكون من حقّ رافعي راية البعث هذه، والمولعين بأيديولوجيته العنصريّة البليدة، ونواياه اللّئيمة، أن يعتبروا هذه الممارسات البعثيّة نوعًا من الحنكة السّياسيّة، أو شكلاً من أشكال الفهلوة البعثيّة. غير أنّه وفي الآن ذاته لا مناص من القول صراحةً إنّ المسؤوليّة تقع أيضًا على كاهل كلّ تلك القيادات والزّعامات لدى شرائح واسعة من اللبنانيّين والفلسطينيّين والأردنيّين وغيرهم من العرب، والّتي أقلّ ما يمكن أن يُقال عنها إنّها تتّسم بالغباء التّامّ، وذلك لسماحها لمثل هذه الفهلوات البعثيّة أن تعيث بأهلها وبأوطانها دمارًا وفسادًا، مثلما عاثت وتعيث هذه الطغمة القبليّة ومنذ عقود فسادًا ودمارًا في صفوف الشّعب السّوري المنكوب بها.
هذه هي الحقيقة، وإن كان لديكم تفسير آخر، هيّا أرشدونا!