لماذا تخيفهم محاكمة صدام حسين؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
إذا كانت جميع الأمور في العراق هذه الأيام تسير نحو فوضى دامية، فان هناك قضية واحدة، على الأقل، تسير بشكل جيد، وتستحق أن يتم التعويل عليها، بتفاؤل، في بناء دولة القانون والمؤسسات وهي، محاكمة الرئيس السابق صدام حسين، الجارية منذ أشهر. فقد أضحت هذه المحاكمة مدرسة يتدرب عبر وقائعها العراقيون على الصبر والتجلد وسعة الصدر وكظم الغيظ وتحمل المسؤولية وعدم الانجرار وراء الأهواء والعواطف الشخصية، وتحمل مشقة سماع الرأي المغاير، حتى لو كانت مرارة هذا الرأي بمرارة العلقم.
الحق، أن محاكمة صدام وما يدور فيها من وقائع، تكشف لنا وجود عراقين. الأول ما تريد بنائه المحكمة : عراق يستنطق الماضي، ليس بروح الثأر والانتقام والاستئصال، وإنما بروح العدل والإنصاف وإحقاق الحق، وتشخيص من هو الجلاد ومن هو الضحية، ومتى وكيف يصبح الجلاد جلادا ويصبح الضحية ضحية.
أما العراق الأخر فهو الذي نجده هذه الأيام خارج المحكمة، ذاك الذي ما يزال يعتمد شريعة الغاب قانونا له، ويتوسل العنف طريقا لحل الخلافات، ويتم فيه خلط الأمور، وتختلط على أرضه دماء الجلادين والضحايا، فيتساوى الجلاد مع الضحية، وتضيع الفوارق بينهما.
ولهذا العراق الثاني ينتمي، بالتأكيد، أولائك الذين لا يريدون للمحاكمة أن تستمر، وهم الذين اغتالوا محامي الدفاع عن صدام، خميس العبيدي، بغض النظر عن هويتهم الطائفية وأفكارهم السياسية. وإلا، فما هي الرسالة التي أراد إيصالها هولاء؟
إذا (نقول جيدا:إذا) كان هولاء الفاعلون ينتمون إلى الأحزاب الشيعية الحاكمة، وأقدموا على فعلتهم انتقاما للشيعة وثأرا لهم، فأنهم يريدون، أدركوا ذلك أم لم يدركوا، أن يحولوا بفعلتهم هذه، ( مقاتل الطالبين ) إلى كتاب رخيص للتسلية، ليس أكثر، ويحولوا ( مظلومية الشيعة ) إلى أهزوءة يتندر بها الناس في مجالسهم، ويسيئون لذكرى شهداء المقابر الجماعية ويبخسوا تضحيات الصدر والحكيم، ويعززوا رأي من يقول أن ضحايا الأمس الذين يحكمون عراق اليوم لا يختلفون كثيرا عن جلادي الأمس، مثلما أرادوا أن يؤكدوا صحة ما كان الحجاج يقوله عن العراقيين: "والله ما أرى أن أرد بني اللخناء إلى طاعتي إلا بالسيف".
وإذا ( مرة أخرى نقول: إذا ) كان الفاعلون من أنصار صدام حسين، وأرادوا أن يثبتوا بفعلتهم أن الأجواء الأمنية في العراق ليست صالحة لأجراء محاكمة صدام داخل العراق، وبالتالي لا بد من نقلها إلى الخارج أو تأجيلها، فأنهم نسوا ما قاله الجواهري:
"سيحاسبون فإن عرتهم سكتة من خيفة فستنطق الآثام".
هذه هي الغاية الكبرى من تطبيق القانون، في أي مكان وزمان: أن تنطق الآثام. ولكن الآثام، آثام "الآثمين" منا نحن العراقيين، لم تنطق طوال تاريخ العراق، كما ينبغي لها أن تنطق، وإنما يتم استنطاقها بالعنف. ففي كل انعطافة تاريخية شهدها العراق، كان أول شيء يفعله المنتصرون هو، أن يغسلوا أياديهم من كل أثم، بعد أن يكونوا قد قتلوا المتهم أو انتزعوا منه الاعترافات انتزاعا، واسكتوا الشاهد، وكتبوا التاريخ وفقا لرغباتهم، فيصبحوا وحدهم القديسين، وضحاياهم وحدهم الآثمين. ولعل الفعل "اعترف" وتصريفاته هو أكثر الأفعال شيوعا في أدبنا السياسي العراقي، بل وفي لغة تخاطبنا اليومية.
وهكذا، وعلى سبيل المثال ليس إلا، فأن "آثام" أولاءك الذين توعدهم الجواهري، لم يتح لها أن تنطق كما ينبغي لها أن تنطق، أي في ظل القانون، إما لأن جثث أصحابها سحلت في شوارع بغداد صبيحة 14 تموز 1958، أو لأن من بقى منهم حيا نطق بما لا يريده، خوفا من "الحبل" ومن "ثقافة الحبل" التي كان الجواهري نفسه، يا للمفارقة، يبشر بها في قصائده :
" فضيق الحبل وأشدد من خناقهم فربما كان في إرخائه ضرر".
وفي صبيحة 8 شباط 1963 أعلن "الأبرياء" البعثيون انتصارهم على "الآثمين" الشيوعيين والقاسميين، وأذاعوا أن : "المجرم والجلاد عبد الكريم قاسم والمجرم الجلاد فاضل المهداوي والقذر الشيوعي طه الشيخ أحمد قد سحلوا كالجرذان العفنة تحت أقدام شعبنا العظيم وقد دفنتهم جماهيرنا التي تناضل من أجل مجتمع اشتراكي تحت راية البعث العربي".
بالطبع، أن ما أذاعوه كذب صراح. ف"شعبنا العظيم" لم يكن حاضرا، ولا "جماهيرنا" كانت حاضرة. الذين كانوا حاضرين هم مجموعة من الضباط المحالين على المعاش. وهولاء الضباط هم "شعبنا العظيم" "وجماهيرنا". وهم لم يمهلوا قاسم سوى ثلاث عشر دقيقة، ثم أعدموه وصحبه على كراسي الموسيقيين في دار الإذاعة، ثم حدث الذي حدث ويعرفه الناس. لكن دعونا نتمعن من جديد في مفردات المنتصرين، وتحديدا عند مفردات "الشعب" و"الراية": " سحلوا كالجرذان تحت أقدام شعبنا العظيم ودفنتهم جماهيرنا تحت راية البعث العربي".
هنا، بالضبط، يكمن أصل بلاء العراقيين وهنا تكمن جرثومة خراب بلادهم. الخراب يبدأ عندما يجد هذا الفريق أو ذاك أن لديه قوة، عسكرية أو سياسية أو معنوية أو مهما كان نوعها، أكبر من الفريق الآخر الذي يختلف معه. ثم يبدأ القوي، استنادا على هذه القوة وحدها، برفع "راية" يطلق عليها اسم معين، ثم يحتكر الحديث باسم الشعب، ثم يمعن، تحت ظل هذه الراية وباسم الشعب، في قطع رؤوس ( الأعداء ). وهولاء (الأعداء) هم أبناء جلدته، بالطبع.
هنا، لا يصبح مهما أسم الراية ولا لونها، فاسمها يتغير مع تغير سياسة وأهداف ومرامي الجهة التي ترفعها. قد يكون اسمها راية البعث العربي، وقد يكون اسمها "راية مكافحة الامبريالية والرجعية" وقد يصبح اسمها "راية الطائفة المنصورة" وقد تطلق عليها تسمية "راية مكافحة النواصب" أو "راية مكافحة الروافض"، وقد يكون اسمها "راية مكافحة الشعوبية"، وقد تكتب على هذه الراية عبارة "لا اله إلا الله". فكلما أقترب أسم الراية من "المقدس"، كلما أصبحت "آثام" حاملي الراية قليلة، و"آثام" "أعدائهم" شنيعة.
وهكذا، يظل دولاب العذاب يدور، ويحصد رؤوس العراقيين في عمليات ثأر وثأر مضاد.
الآن، والآن فقط، توفرت فرصة من ذهب، قد لا يجود تاريخ العراق بمثلها: أن يقف "حاملو الرايات"، ليثبت كل منهم أن يده هي وحدها البيضاء وأيدي خصومه ملطخة بالآثام، مستظلين كلهم، هذه المرة، تحت راية واحدة هي، راية القانون. ( ألم يردد قاضي محكمة صدام أكثر من مرة أن المتهم هو وديعة بيد القضاء حتى تصدر النتيجة )؟
سيقول القائلون، وقد قالوا ذلك مرارا: ما العبرة في محاكمة صدام حسين بتهمة قتل مائة شخص أو أكثر من أهالي الدجيل، وها هي جثث العراقيين ترمى بالمئات في الشوارع، بعد حكمه؟ هذا قول حق يراد به باطلا. بل هو باطل كله. فلو أن صدام حسين أرسى خلال فترة حكمه، وهي فترة طويلة جدا، دولة القانون، لما آلت الأمور ما آلت إليه في هذه الأيام. عمليات التفخيخ وخطف الناس واغتيالهم وقتلهم التي نشهدها الآن، إنما تعلمها العراقيون من صدام حسين وحكمه.
ألم يخطف الدكتور ناصر الحاني وترمى جثته قرب قناة الجيش، بعد أيام من وصول صدام وحزبه إلى الحكم في 17 تموز 1968؟ ألم يخطف، بعد أشهر الشيوعي محمد الخضري وتلقى جثته في المكان نفسه؟ ألم تدس الدولة العراقية، في حقبة حكم صدام حسين، مفخخات في عمائم رجال دين وترسلهم للقائد الكوردي البرزاني، ليتم تفجيرها هناك؟ ألم يتم تفخيذ جسد الدكتور راجي التكريتي؟ وماذا عن إبادة عبد الخالق السامرائي ومحمد عايش ورفاقهما؟ وماذا عن "حفلات الرقص" التي كان يجبر على تأديتها في قصر النهاية، رئيس الوزراء الأسبق الفريق طاهر يحيى التكريتي وأركان حكمه؟ وماذا عن الأنفال؟ وماذا عن رمي العراقيين الكورد "الفيلية" على الحدود؟ وماذا عن عمليات اغتيال شباب أل الحكيم ومصرع زعيم عائلتهم في الخرطوم؟ وماذا عن اغتيال الصدرين؟ وماذا عن كواتم الصوت وفرق الموت التي كانت تجوب الآفاق؟
هذه كلها تطبيقات لشريعة الغاب، وهي ليست ممارسات لفرد واحد اسمه صدام حسين، بقدر ما هي ممارسات لعقلية سياسية ولمنهج وأسلوب في الحكم ولفلسفة في التعامل مع الآخرين ولرؤيا شاملة للحياة. ولهذا، فأن من مصلحة العدالة ودولة القانون أن تستمر محاكمة صدام ما شاء لها أن تستمر، وليحضرها من يشاء للدفاع عن صدام، في أجواء آمنة تكفلها السلطات الرسمية، وأن يسمح لصدام وأركان حكمه أن يدافعوا عن أنفسهم كما يشاءون. فالعبرة ليست في إعدام صدام حسين، بل العبرة في "إعدام" نهجه وأسلوبه وفلسفته في الحكم، حتى لا يظهر صداميون جدد يواصلون النهج نفسه ولكن تحت مسميات أخرى، وتحت ظل رايات جديدة.
وكم كانت ديمقراطية، وثاقبة البصيرة، وتستبق العصور وتتنبأ المستقبل، تلك الإعرابية التي أخبروها بموت الحجاج، فما كان منها إلا أن رفعت يديها إلى السماء ونادت ربها: اللهم أمته فأمت سنته، أي طريقته ونهجه وأسلوبه في حكم البلاد.
وكل من يمنع محاكمة صدام وأركان حكمه، أو يعرقل سيرها، إنما ينتصر لطغيان الحجاج، ولا يريد لدولة القانون والمؤسسات التي تمنت قيامها تلك الإعرابية في دعائها، أن تقام في العراق.