هل ستنقلب حماس على نفسها؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
هل ستدخل "وثيقة الأسرى" الفلسطينيين تاريخ فلسطين والشرق الأوسط على أنها المبادرة التاريخية التي دشنت بداية تعافي النخبة الإسلامية الفلسطينية من هذيانها الجهادي المزمن؟ هل ستقطع الطريق على الحرب الأهلية الفلسطينية الكارثية التي تلوح في الأفق؟ وفي نفس الوقت هل ستفتح الطريق إلى حل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، لب النزاع العربي الإسرائيلي؟ وهل ستضع العشرون يوماً، التي استغرقها النقاش في الوثيقة ، في سجن داريم الإسرائيلي، بين ممثلي فتح،حماس، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، والجهاد الإسلامي، حجر الأساس لبناء شرق أوسط مسالم يكرس موارده الاقتصادية والبشرية لصناعة الحياة بدلاً من إهدارها في صناعة الموت، كما فعل الشرق الأوسط كثيراً وغالباً في تاريخه وخاصة منذ أول حرب عربية إسرائيلية سنة 1948؟ في السيناريو المتفائل الجواب هو ربما .
ماذا في وثيقة الأسرى؟ ما طالبت به فتح، منظمة التحرير الفلسطينية، الرئيس محمود عباس، الدبلوماسية الإقليمية والدولية والرباعية، حماس غداة فوزها في التشريعيات الفلسطينية منذ ستة شهور:الاعتراف بإسرائيل: الاعتراف بالاتفاقات التي وقعتها منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية مع إسرائيل منذ أوسلو ومع الرباعية، ترك العنف [= الجهاد] إلى غير رجعة داخل حدود إسرائيل.
موافقة حماس - على الأقل بعض حماس الداخل - أخيراً على وثيقة الأسرى، مع تعديلات شكلية على الأرجح، بدا للمعلقين الغربيين ملتبساً ودون الحد الأدنى من المطالب الدولية من حكومة حماس. لكنه لا يبدو كذلك لمن يعرف الفقه الجهادي الإسلامي الذي يحرم ويجرم تنازل المسلم عن شبر واحد من أرض الإسلام، وأحرى إذا كانت أرض فلسطين المحملة برموز دينية قوية تسجن عقل المسلم في قمقم؛ولمن يعرف عمق التزام قادة حماس، المؤمنين السذج، بهذا الفقه الجهادي الذي وجه العقيدة العسكرية الإسلامية منذ 14 قرناً، وكان، بتهاونه بموازين القوى واتكاله على التدخل الرباني في التاريخ، سبب هزائم المسلمين في العصور الحديثة، منذ هزيمة المماليك أمام الحملة الفرنسية بقيادة نابليون في نهاية القرن الثامن عشر،إلى هزيمة الانتفاضة الفلسطينية الثانية أمام الجيش الإسرائيلي في مطلع القرن الحادى والعشرين بقيادة شارون.
قطيعة حماس مع الجهاد، إذا أكدتها المعاينة، ستكون حدثاً تاريخياً له قبل و بعد. تقيدت حماس حتى الآن بقيود الجهاد. مثلاً تقيدت بفقه الجهاد في اعتبار فلسطين "وقفاً إسلامياً على جميع المسلمين في العالم" بدلاً من اعتبارها وطناً لجميع الفلسطينيين، مسلمين ومسيحيين: "يخطأ من يثير قضية الوطن في هذا الموضوع، فالمسلم لا يرتبط بالأرض، ولكنه يرتبط بدينه. فأينما تحققت مبادئ الإسلام وُضمنت الحقوق الإسلامية فثمة وطن المسلم (...) ففكرة الوطنية كانت من أشد ما ابتلي به الإسلام في الحقبة الأخيرة" (لحسن اليوبي، الفتاوى الفقهية في أهم القضايا،ص 206، طبع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية (المغرب) 1998): كما تقيدت به في عرضها لـ "هدنة طويلة" على إسرائيل بعد هزيمة الانتفاضة:" أفتى الإمام ابن زكريا في صلح [هدنة] انعقد بين السلطان والعدو لمدة تزيد عن عشرين سنة بأنه غير ماض [= غير جائز] (...) وغاية ما يقع فيه الصلح بين المسلمين وعدوهم السنتان والثلاث (نفس المصدر) ص 241). وقد أخذت حماس في الهدنة بالقول الراجح. ولم تأخذ ، لحسن حظ الفلسطينيين ، بالقول المرجوح:"أما الفقيه ابن خجو فقد صنف عقد الهدنة أو الصلح مع الكافر ضمن البدع المحرمة" (نفس المصدر ص 242) التزام حماس بفقه الجهاد دفعها لانتخاب نتيناهو سنة 1995 وإسقاط شمعون بيريس الذي كان مشروعه إكمال المصالحة الإسرائيلية الفلسطينية وتوقيع السلام مع حافظ الأسد باعتراف هذا الأخير لوفد برئاسة عزمي بشارة، ودفعها ومازال للحيلولة دون تنفيذ السلطة الفلسطينية للشرط الأول من خارطة الطريق الذي ينص على إيقاف العنف ونزع سلاح الميليشيات للانتقال للمرحلة الثانية والثالثة: انسحاب جيش الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية.
توقيع حماس أخيراً لوثيقة الأسرى واعد، ما لم يقع حدث ليس في الحسبان، باحتمال تركها لفقه الجهاد وللجهاد ذاته الذي هو اليوم مرادف للإرهاب: النيل من المدنيين الأبرياء. شجع فقهاء الإرهاب من يوسف القرضاوي إلى راشد الغنوشي إرهاب حماس الأعمي عندما زعموا في فتواهم الشهيرة أنه "لا يوجد مدنيون في إسرائيل، فجميع سكانها جنود احتياط" يجب قتالهم وقتلهم بما في ذلك الأجنة في بطون أمهاتهم كما أفتى القرضاوي! الجنين عندما يكبر سيصبح بدوره فرداً في جيش الاحتياط الإسرائيلي!.
بالتوقيع على وثيقة الأسرى بدأت حماس تنتقل، بالقوة، من السياسة الشرعية إلى السياسة الوضعية، من القواعد الفقهية الجامدة إلى البرغماتية، من الهذيان الديني، الذي تجلى بكل فظاظة في ميثاقها، إلى الواقعية التي تتقيد بموازين القوة على الأرض بدلاً من التقيد بأقوال فقهاء الجهاد، من اعتبار فلسطين "وقفاً إسلامياً" إلى اعتبار القطاع والضفة وطناً صالحاً لقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، من التسمر في مبدأ اللذة الصبياني إلى التكيف مع مبدأ الواقع الراشد. إذا تحول انتقال حماس بالقوة إلى انتقال بالفعل من حماس الأمس الجهادية إلى حماس الغد التفاوضية فسيعني ذلك أن حماس تنصلت من هويتها، وانقلبت على نفسها بتغيير اتجاهها 180 درجة.
بالضبط صرح الجنرال عمر سليمان، بعد لقائه بقادة حماس في القاهرة غداة فوزهم في الانتخابات، بأنهم طلبوا مهلة ستة أشهر لإقناع قواعدهم بـ "تغيير اتجاههم 180 درجة" كما أكد رئيس المخابرات المصرية العامة. يبدو أن رجال حماس لم يخلفوا الميعاد. لكن من الصعب تصور مثل هذا الانتقال التاريخي من مجرة إلى مجرة أخرى بسهولة. الجهاد غدا طبيعة ثانية في قادة ومجاهدي حماس مثلما هو طبيعة ثانية في الحركات الإسلامية الجهادية الأخرى. فرضيتي أن مثل هذا الانتقال لن يحصل أكبر الظن، دون صراع داخلي، وربما انقسام حماس أو تفككها ...
أسرى حماس، بقيادة أحد مؤسسيها، النتشة، شاركوا في صياغة وثيقة الأسرى مع مروان البرغوثي وممثلي الفصائل المسلحة الأخرى، وزراء حماس وبرلمانيوها منهم من مازال غارقاً في هذيانه الجهادي المزمن، ومنهم من بدأوا يحاولون الانتقال من الهذيان إلى إعادة ربط العلاقة مع الواقع وقوانين الواقع، مجاهدو كتائب القسام، الذين استبطنوا غريزة الموت أخذاً وعطاءً، أي تحكمت فيهم الرغبة المميتة في أن يكونوا قتلة وقتلى، في حالة تمرد نصف معلن على محمود هنيه ... أما قادة حماس الخارج فينشدون واقفين النشيدين الوطنيين السوري والإيراني ... وهكذا فقيادة حماس خاضعة لضغوط قوية متضاربة. قيادة الخارج، رئيسها مشعل وبطانته، رهينة حزب الله، إيران وسورية فضلاً عن الإخوان المسلمين المصريين، الحركة الأم لحماس. مطالبة مرشد الإخوان المسلمين، محمد مهدي عاكف، الحكومة المصرية بطرح اتفاقيات كامب ديفيد للاستفتاء "وإذا صوت الشعب على إلغائها فستلغي" كما قال في تليفزيون "دريم" و(القدس العربي 13/6/2006) هي رسالة لمتشددي حماس ليصروا بدورهم على إلغاء اتفاقيات السلطة الوطنية الفلسطينية مع إسرائيل والقيام بفريضة الجهاد الذي شاءت إرادة الله أن يكون "ماضياً إلى قيام الساعة" كما يقول الفقه الإسلامي! الحركات الجهادية الأخرى لا تقل عن الإخوان المسلمين صباً للزيت على النار. رئيس "النهضة" التونسية راشد الغنوشي يطالب حماس بـ "انتفاضة ثالثة"،لن تكون أكبر الظن إلا اقتتالاً أهلياً بين الفلسطينيين، وهو بالضبط ما حاولت وثيقة الأسرى تفاديه ...
لكن التيار الذي يطالب حماس بترك الإرهاب والاعتراف بمبدأ الواقع أقوى بما لا يقاس من التيار الذي يحرضها على مواصلة الجهاد. حزب العدالة والتنمية الإسلامي التركي وحكومته طالبا على لسان رئيسهما ،طيب رجب أردوغان، حماس في رسالة مفتوحة بـ"التخلي عن أساليب الماضي" العقيمة، وبالاعتراف بإسرائيل وبجميع الاتفاقات التي أبرمتها السلطة الوطنية الفلسطينية معها وترك الجهاد."شيخ الإرهاب"،كما سماه الإعلام العالمي في حينه، حسن الترابي، نعي على حماس " قلة خبرتها السياسية" ودعاها للتحلي بالواقعية؛ جميع الفصائل الفلسطينية الممثلة في منظمة التحرير الفلسطينية ما فتئت تضغط على حماس في الاتجاه ذاته، الرئيس محمود عباس يوجه لها الإنذار تلو الإنذار لتغير اتجاهها من النقيض إلى النقيض. وكذلك تفعل مصر والأردن فضلاً عن الدبلوماسية الدولية ممثلة في الرباعية، وأخيراً 81 % من الشعب الفلسطيني الذين يناشدونها، في الاستطلاعات، بالاعتراف بإسرائيل والانصياع للإرادة الإقليمية والدولية عسى أن ترفع عنهم أوزار المحنة التي زجت بهم فيها، والحرب الأهلية التي وضعتهم على أبوابها. هذه الضغوط القوية المتناقضة على حماس لابد أن تكون لها تأثيراتها على إجماع حماس القديم على الجهاد الذي سيتصدع ولا شك. السؤال هو كيف ومتى؟
إذا تخلت، في السيناريو المتفائل، الاتجاهات الأقل هذياناً في حماس الداخل عن حماس الخارج وانخرطت في التيار الفلسطيني، والإقليمي والدولي العام المناضل من أجل حل تفاوضي للنزاع الفلسطيني- الإسرائيلي فسيكون ذلك سياسياً ورمزياً حدث الأحداث. في فلسطين عاش الجهاد أكثر أيامه - وربما آخر أيامه- هذياناً دموياً، وصفق غالبية المسلمين، نخبة وجمهوراً، في القارات الخمس لعمليات حماس الانتحارية ضد المدنيين الإسرائيليين، وجعلوا من حماس صنمهم المعبود، ومن الجهاد قوتهم النووية الضاربة ... وهكذا فاحتمال ترك حماس للجهاد سيكون صدمة صحية للوعي الإسلامي الجمعي المسكون بحديث: "ما ترك الجهادَ قوم إلا ذ ُلّ ُ"، وربما بداية النهاية للجهاد في أرض الإسلام الذي لن تبقي مصرة عليه - لكن إلى متى؟ - إلا قاعدة الشيخين المجاهدين د. أيمن الظواهرى، وأسامة بن لادن.