كتَّاب إيلاف

رسالة مفتوحة للسفير ريمون بعقليني في كندا

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
سعادة السفير ريمون
تحيَّة مغتربة طيِّبة،
قد تتساءل، ولك الحقُّ فيه، لِمَ اخترت أن أخاطبك برسالة تُنشر قبل أن أطلعك عليها! أو لماذا أخترت الكتابة بدلاً من إبلاغك ما أريد مهاتفة أو مجالسة، ومكتبك في السفارة مشرَّعُ الأبواب، ولا يقتصر على قلَّة تختارها، أو نخبة تأنس إليها، ولا هو عنِّي ببعيد!
لا مِراء في أنَّ المراسلات الخاصَّة يكون للذاتيَّة الحيِّز الأكبر في جوزها، الذي قد ينفي آنذاك الموضوعيَّة عند غير صاحبها، فتفقد القصد منها، أو تقتصد فيه. ولأنَّني لم أشأ ذاك، رأيتني أختار مساجلة أدبيَّة، تليق بمن هي له، وإن كانت تقصر عمَّا هو فيه. هذا من جانب، أمَّا مبعث ما أنا عليه، فهو إضاءة شمعة قد تخفِّف من ظلام فاعل أو مفتَعلٍ، ويوجب حقًّا كي لا يُغمط، وعزمًا كي لا يُثبط، وعملاً كي لا يُحبط.
لو يقتصر التساؤل على كون الرسالة مفتوحة لهان الأمر، ولجنَّبت نفسي مغبَّة الولوج في شأن أرى الاحتفاظ به طيَّ الكتمان، لأنَّ في إفشائه ما يحمِّلني مغبَّةً لا قِبَلَ لي في تبعاتها، ولا حول لي في تجنَّبها. وقبل أن أُفاتحَ في سبب توقيتها، أقول: كان حريًّا برسالتي هذه أن تُكتب لك، سواء شاركك فيها القرَّاء أم خُصِصت بها، قبل ثلاث سنوات وبضعة شهور.
نعم، سبب الكتابة هو الاستجابة لصوت الحقِّ الذي لا جَرَمَ أنَّه تلبية لنداء الضمير ولو أنَّه جاء متأخِّرًا، ووفاء لسفير رمته سهام الخصوم أملاً في إسكاته أو الإجهاز عليه دبلوماسيًّا كي يكون عبرة لمن يجرؤ على قول كلمة حقٍّ في غير ما يريدون. وما زاد في الغُبن هو أنَّك وقفت وحيدًا ـ ووجهُك وضَّاحٌ وثغرُك باسمُ ـ تواجه السهام وكأنَّنا عنك غرباء أو أنَّ شأنك غير ذي صلة بنا مع أنَّه لولا همُّ الوطن وشأن أهله لكنت جنَّبت نفسك مغبَّاته. ولكن أنَّى لك ذلك! وأنت مَن يمثِّل لبنان الضمير، لبنان الذي يرتفع فوق العصبيَّة والطائفيَّة، لبنان المثل والأمل، لبنان الواجب قبل الحقوق. وقبل أن أسترسل في جولة مع النفس مرسومة بما يمليه الفكر، دعني أشارك القارئ فيما حضَّني على الكتابة برسالة مفتوحة لك يطالعها وكأنَّها موجهَّة له.
منذ بدايات الستيِّنيَّات من القرن الماضي، اخترت لنفسي مهنة الكتابة والصحافة في كندا. وهذه المهنة، كما تعلم، تجلب المتاعب لصاحبها، ليس من الآخرين فقط، بل من نفسه عندما يعلمه الضمير أنَّه تقاعس عن قول كلمة حقٍّ كان حريًّا به أن يقولها، أو عندما يتساهل في واجبٍ يجدر به أن يتمَّه ولو كره الشامتون. لذا، دأبت ما وسعني أن أقوم لواجبي فيما نذرت له نفسي.
آنذاك، لم تكن سفاراتنا العربيَّة بعددها كما هي عليه الآن. ومع ذلك، كنَّا وما نزال عين الرقيب نكتب مقدِّرين عملاً يؤدِّيه السفير، ونرى فيه منفعة للوطن وتثبيتًا للعلاقات الثنائيَّة بين بلده وكندا. ولم نتقاعس في غير هذا لو بدر منه غير ما نراه خليقًا به. ففي غضون عقودٍ أربعة أو ينوف، عاصرت كلَّ السفراء العرب، ولا سيَّما اللبنانيًُّون. وكتبت عمَّا يوجب ذلك عنهم. وللحقِّ أقول، كانوا في جلُّهم مثالاً للبنان وإن لم يدانوك فيما سأورد. ولأنَّك الموضوع في رسالتي، سأعرض عن ذكرهم هنا، ذكرهم الله بالخير.
على ما أعتقد، إن لم تخنِّي الذاكرة، لم ترَ أوتاوا سفيرًا للبنان أجمعت الجالية اللبنانيَّة عليه، وهذا الأولى والأهمُّ، والجاليات العربيَّة كذلك، وعلى الالتفاف حوله بتقديرٍ وثقة واحترام وإكبارٍ كما هو الحال مع السفير ريمون بعقليني. فقد كان لكلِّ الطوائف اللبنانيَّة على تعدِّدها، ولكلِّ الجمعيَّات اللبنانيَّة على كثرتها واختلافها، وخلافها أحيانًا، لبنان العقل والضمير، لبنان المحبَّة والمستقبل الذي يسمو على الجراح، ويتخطَّى الواقع ليرسم المستقبل الذي إمَّا أنَّه كان غائبًا عن بصيرة بعضهم أو غائمًا في بصر آخرين. كان في الكنيسة يشبه القدَّيسين، وكان بين المسلمين من المصلحين الصدِّيقين، وفي أهل البيت من الخلَّص المصطفين. لم يجامل ولم يحابِ. كان ثابتًا على ثوابت إيمانه، وكان مخلصًا في دعواه، صادقًا في مراده، وأمينًا على مسؤوليَّته، قمينًا بها. فلا غرابة أن أجمعوا عليه، وكلٌّ يدَّعيه. ولأنَّ إرضاء الناس غاية لا تدرك، مع أنَّ السفير ريمون كاد، فلا غرابة أن تُثار حفيظة نفرٍ شطَّ، وقلَّة راحت من خارج السرب ترفع الصوت ليرجع الصدى إليها متحشرجًا في ارتداده، وكليلاً في نِداه، ويبسًا في نَداه. فهؤلاء نفرٌ لا يجرمنَّنا شنآنهم. وقد تتنوَّع أصواتهم وتختلف، ولكنَّهم كعيسو لا يستطيعون تغيير جلودهم. وكما عهدتك، لم تأبه بما يقولون، وهيهاتَ لهم أن يفعلوا! واستمَّر عطاؤك، وهم خلفك يلهثون. ولسان حالك يقول:
وَأََكْثَرُ نِسْيَانِي لِمَا لا يُهِمَّنِيوَإِنِّـي لِمَا أُعْنَى بِهِ لَذَكُورُ
أمَّا ما أنا واثق به، فهو استمرار عطائك ودأبك فيما نذرت له نفسك ووقفت له حياتك أديبًا أريبًا، وإنسانًا خلوقًا ودبلوماسيًّا يستحقُّ الثناء وإن لم يطلبه، والتقدير وإن لم يسعَ إليه. لذا، رسالتي هذه التي كان يجب أن تكون، كما ذكرتُ، قبل الآن بسنوات، ولمَّا يمض على تسنُّمك السفارة سنتان ونصف السنة آنذاك، فكان لوجودك حضورًا فاعلاً وعملاً دؤوبًا، أكسب الدبلوماسيَّة العربيَّة إيجابيَّة وانتعاشًا زادنا نحن المغتربين أملاً في جدوى سفاراتنا وحضور سفرائنا. كانت، لأنَّك كنت حديث الصحافة الكنديَّة، وجام غضب منظَّمة "بناي بريث" الصهيونيَّة، والكونغرس اليهودي الكندي. لقد نقموا عليك وألحُّوا في طلبِّهم من الخارجيَّة كي تسحب كندا أوراق اعتمادك كسفير لديها، لأنَّك لم تعد تُحتمل، ومن الصعب أو العبث الحدُّ من نشاطك أو لجمه. طالبوا الخارجيَّة بتوجيه اللوم لك. طالبوا بتحذيرك من متابعة ما لم يريدوه أو يسيغوه، فكانت عاصفتهم التي أخمدها اتِّزانك ونبلك، وتخطَّتها معرفة ما أنت فاعل، وأداء ما يوجبه حقُّك كسفير، وما يمليه عليك الضمير.
نعم، لقد واجهتها وحيدًا، لم تطلب المدد من أحد، ونحن لم نؤآزرك كما يجب. وهنا، أراني بعد كلِّ تلك السنوات، أعود للذات، وأوجبها ما لم تؤدِّه في إبَّانه، وأمياز بينك وبين نفرٍ لا هم في العير ولا في النفير، فأربأ بنفسي أن أقرنهم بك، أو أماثلهم بأعمالك. فقد خططت لنفسك سابقة لم نرها من سفير قبلك، وأغلب الظنِّ أنَّها لن تكون لسفير بعدك.
ولأنَّ التشبُّه بالرجال فلاح، ها أنا أخطُّ لنفسي سابقة لم اعتدها من قبل. فطوال عملي في الصحافة والكتابة لم أخاطب سفيرًا عربيًّا كما جاء في رسالتي هذه لك، وهو بعد بين ظهرانينا، ولكم نودُّ أن يطول وجودك على رأس السفارة في أوتاوا لنسير على درب الواجب معًا. كنت أكتب بعد أن يغادر السفير حتَّى لا تكون الكتابة محاباة أو زلفى، وحتَّى تكون الموضوعيَّة القصد والمعنى. أمَّا رسالتي المفتوحة هذه لك، فهي ما يمليه الضمير، ولتترك في نفس صاحبها ما يتوقَّعه كاتبها، أن نكون نحن المغتربين جديرين بسفراء أكفاء صنوك، يضحون القدوة والمثل. وهنا أراني أشفق على مَن سيكون لك الخلف في السفارة لأنَّك أوسعت المجال، وأثقلت الحمل، ولكن نرجو أن يكون لريمون أندادٌ، وهذا ليس بغريب عن لبنان.
ختامًا، سعادة السفير، أتذكر ما قال السفير الإسرائيلي؟ إنَّك أنت والسفير السعودي د. محمَّد الحسيني والسفير السوري جميل صقر لا تبدون الودَّ تجاهه وتتجاهلون وجوده. أليس ذلك ما أنت تريد! نعم. وأعلم ذلك. فلك محبَّتنا وإن لم نبدها، وليت سفراءنا كلَّهم ريمون. أرجو أنَّني بلَغتُ الأرب، وبلَّغتُ القصد والسبب، وأضأت شمعة يرون في قبسها نورًا يهديهم سواء السبيل.
أحمد عيد مراد
رئيس المركز العربي الكندي للثقافة والإعلام، عضو مجلس إدارة نادي الصحافة الوطني الكندي
editormurad@rogers.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف