المخططات الواسعة لفصـل القبـط عن المسـلمين
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
نشرت صحيفة قومية مصرية كبرى بتاريخ 29 مايو تحقيقا لمراسلها في باريس حول العمل العلمي الضخم لتجميع كل مراسلات نابليون في مجلدات يخص كلٌ منها مرحلة من حياته الحافلة، وإن كانت قصيرة إذ دامت rlm;52rlm; عاما فقطrlm;. المجلد الثاني، الذي يقع في 1270 صفحة وعنوانه "حملة مصر ومقدماتها"، صدر في مارس 2005 ويشمل 2550 رسالة تغطي الفترة من يناير 1798 إلى آخر ديسمبر 1799. والمعروف أن نابليون قد دخل الاسكندرية على رأس الحملة الفرنسية في 2 يوليو 1798 وغادرها سرا، مع مجموعة صغيرة من المقربين، في 23 أغسطس 1799 بعد أن أدرك أن ما يجري في فرنسا أهم بكثير بالنسبة لمستقبله السياسي. وقد وصل باريس في 16 أكتوبر، وبعد أقل من شهرين، أصبح مساشارا (قنصلا) أول في مجلس حكم ثلاثي الأعضاء. ويغطي المجلد الثالث الذي صدر في أبريل 2006 الفترة من يناير 1800 حتى نهاية 1801.
هذه الوثائق تمثل كنوزا هائلة تستحق جهود الغوص فيها بحثا عن معلومات واتجاهات وأفكار ودروس، حتى لو بدا ذلك ابتعادا عن الحاضر، وقد تكون لنا عودة إليها.
***
التحقيق الصحفي المذكور لا يخلو من معلومات صحيحة... بل منها ما هو أيضا شائق ومفيد!! لكن كان من اللافت للنظر هذه الفقرة:
[(..) وتكشف الوثائق عن وجود مراسلات بين المعلم يعقوب قائد كتيبة الأقباط وجرجس الجوهري أحد أعيان أقباط مصرrlm;، وهي خطيرة لأنها تكشف عن مخططات واسعة المدي للفصل بين أقباط مصر ومسلميهاrlm; (rlm;الرسالة رقم rlm;3872rlm; بتاريخ rlm;7rlm; ديسمبر rlm;1798)].rlm;
ياللهول!
ها هم القبط منذ أكثر من قرنين يسعون "للاستقواء" بالأجنبي ورسم المخططات الواسعة المدى مع أعداء الوطن بهدف الفصل بين أقباط مصر ومسلميها وشق الوحدة الوطنية.
نظرا لخطورة مثل هذه العبارة الملغومة رجعنا بالتفصيل إلى وثائق المجلد الثاني. وسنحاول هنا (فيما عدا السهو نظرا لغزارة المعلومات وتشعبها) معالجة الموضوع عن طريق الرد على عدد من التساؤلات:
***
السؤال الأول: ما هو موقف الأطراف المختلفة من الحملة الفرنسية، ومن كان يقاومها؟
الواضح أن عدو نابليون الرئيسي كان الانجليز؛ وقد قام هؤلاء بتحطيم أسطوله في معركة أبو قير البحرية في أول أغسطسن بعد أقل من شهر من دخوله الإسكندرية، وقاموا بتأليب الباب العالي (الامبراطورية العثمانية) ضده وكذلك قاموا بتأليب المماليك بداخل البلاد. وهناك أسباب كثرة وراء كل ذلك من بينها المنافسة التقليدية داخل أوروبا بين القوتين، والمخاوف من تأثير الحملة على الطريق إلى الهند، وكذلك التوجس بصفة عامة من مطامع الجنرال الفرنسي الطموح في الشرق.
أما في الداخل، فالعدو الرئيسي كان المماليك الذين قاوموا الحملة الفرنسية بشراسة وعنف شديد. ولا غرو في ذلك، لأن هؤلاء الذين كانوا قد استُجلِبوا كخدم وعبيد وجنود مرتزقة على يد حكامٍ مسلمين لا يثقون بعضهم في البعض، وصل الأمر بهم إلى الاستيلاء على الحكم (الفعلي على الأقل)، في سابقة يندر لها مثيل في تاريخ العالم. وإذ أصبحت مصر عزبة وتكية منهوبة لهم، لا يمكن لعاقل تصور تنازلهم بسهولة عنها. وقد أعلن نابليون مرارا وتكرارا في رسائله للشعب وزعمائه من علماء الدين وكبار التجار وكذلك في رسائله للباب العالي، أن هدف حملته هو تأديب المماليك. وبعد انتصار الفرنسيين الأولي واستيلائهم على مصر هربت مجموعتان رئيسيتان من المماليك؛ الواحدة بزعامة مراد بك رحلت جنوبا في الصعيد وطوردت حتى أسوان؛ والأخرى بزعامة إبراهيم بك ذهبت للشرقية ثم إلى غزة وفلسطين واستعانت بالحاكم العثماني هناك. وقد نجحت الحملة الفرنسية في كسر شوكتهم إلى حد بعيد. ولا بد أن نذكر هنا أن ما بدأه نابليون أكمله بعده محمد على، إذ كان التخلص من المماليك شرطا لازما لمشروع إقامة دولة حديثة في مصر.
العدو الداخلي الثاني لنابليون كان "العرب". وهم قبائل من البدو يعيشون في مناطق خاصة بهم، مثل شرق الدلتا وحافة الوادي في الصعيد، ولا يختلطون بالأهالي إلا أثناء ممارساتهم لهوايتهم المفضلة من عمليات سلب ونهب وقتل وأخذ رهائن. وقد حاربوا نابليون بشراسة، ولكنه نجح في كسر شوكتهم، وفي أحيان كثيرة في استمالتهم وشرائهم عن طريق المال أو استخدامهم للمساعدة في نقل الرسائل والتجسس، خصوصا عندما بدأ حملته إلى فلسطين لمطاردة ابراهيم بك.
لم يقم العثمانلية، ممثلو دولة الخلافة التي تتبعها مصر، بمقاومة تذكر نظرا لانعدام الأوامر الآتية من الآستانة (اسطنبول)، بسبب ضعف وتخبط الدولة. وعلى أي حال لم يعاملهم نابليون كأعداء، بل بالعكس تحاشى بكل وسيلة الاحتكاك بهم وحاول استمالتهم داخليا، وكذلك خارجيا عبر رسائل متكررة إلى رئيس الوزراء التركي. وعندما قاموا أخيرا بحملة بحرية وعملية إنزال في أبوقير، انتصر عليهم نابليون انتصارا ساحقا في 25 يوليو 1799.
أما الشعب المصري بكافة فئاته فمن الواضح أنه، بصفة عامة، وإن لم يرحب بنابليون فعلى الأقل لم يقاومه بصورة تذكر. فلا شك أن الغالبية، حتى وإن كانوا قد فوجئوا بغزو من الفرنجة، إلا أنهم قد رأوا فيه فرصة للتخلص من المماليك والعثمانيين على حد سواء. ومحاولات بعض المُحدَثين خلع على مافعله المماليك أو البدو الأعراب أوصافَ "المقاومة الشعبية للغزو الخارجي" لا تختلف كثيرا عن محاولات خلع نفس الأوصاف على أفعال الزرقاويين وأمثالهم بالعراق. وحتى مع اختلاف الدوافع (الجشع عند البعض، والهوس الديني عند الآخر) فلكي يصبح أمرٌ ما "وطنيا"، ينبغي أن يتحلى بصفات أكثرها بداهة أن يكون عملا في صالح "الوطن" و "المواطنين".
ومن ناحيته حاول نابليون بكل وسيلة استمالة الشعب وزعمائه، خاصة رجال الدين وكبار التجار. وهناك العديد من الرسائل التي تبين تعاون هؤلاء معه. (قد نعود لكل ذلك ولثورتي القاهرة في مقال آخر).
السؤال الثاني: ماذا كانت أوضاع الأقباط وطبيعة العلاقة بينهم وبين والمسلمين عند دخول نابليون؟
يقول نابليون في رسالته إلى المعلم جرجس الجوهري رقم 3872 بتاريخ 7 ديسمبر 1798: [(..) بعد اليوم لن تكون (الأمة القبطية) محتقرة؛ وعندما تسمح الظروف، وهو ما أتوقع ألا يكون بعيدا، سوف أعطيها الحق في ممارسة طقوس العبادة بصورة علنية، كما هو مألوف في أوروبا، بين أتباع كل معتقد. سوف أعاقب بشدة القرى التي اغتيل فيها أقباط أثناء عمليات تمرد. واعتبارا من اليوم يمكنكم إخبارهم (الأقباط) أنني أصرح لهم بحمل السلاح، وركوب البغال أو الخيل، ولبس العمائم وارتداء الملابس بالطريقة التي تحلو لهم (..)].
الواضح من هذه الكلام أن الأقباط كانوا يعيشون آنذاك تحت الوضعية الهمجية الحقيرة التي يُطلَق عليها "الذمية" حيث ليس لهم الحق في ممارسة طقوس عبادتهم بصورة علنية، وحيث يتعرضون لاعتداءات وحشية بدون ذنب، وحيث يُحظر عليهم حمل السلاح وركوب الخيل والبغال ولبس العمائم؛ إلى آخر قائمة القيود الإذلالية الواردة في العهدة العمرية، والتي أُخضِع الأقباط لها منذ دخول العرب.
ومن ناحية أخرى نجد أن المماليك (كما يقول محررو المجلد في حاشية نفس الوثيقة) كانوا لا يَأتمِنون على إدارة الأملاك الخاصة والعامة سوى الأقباط، ولذلك كان مباشرو الضرائب ـ بصفة عامة ـ منهم. ولا بد من التنويه أن دور هؤلاء كان ينحصر في النواحي الإدارية من تقدير ضرائب وحفظ سجلات ومتابعة التحصيل؛ بينما كانت عملية التحصيل الفعلية يقوم بها الملتزمون (عادة من المماليك) الذين كانوا يُحَصلون مبالغ أكثر من المفروض (أحيانا ثلاثة أو أربعة أضعاف) ويحتفظون لأنفسهم بما يزيد عما يورد لخزينة الدولة.
ويبين ما سبق أن الأقباط كانوا يعيشون في ازدواجية غريبة الشأن: فمن ناحية يخضعون لإذلال الذمية، ومن ناحية يقوم بعض الأفراد منهم بأدوار (غالبا مهنية) في خدمة الحكام. ولا يملك المرء سوى ملاحظة أن هذه الظاهرة استمرت دائما، ومازالت ...
السؤال الثالث: هل تغيرت أوضاع الأقباط أثناء وجود الحملة الفرنسية؟
بالرغم من العبارة السابق ذكرها في رسالة نابليون للمعلم الجوهري والتي يقول له فيها أنه "يمكنه إخبار الأقباط" بالسماح لهم بممارسة بعض المظاهر الآدمية؛ لكن الحقيقة، في الواقع، هي التالي:
ـ لم يقل نابليون في رسالته أن للأقباط الحق "فورا" في ممارسة طقوس العبادة بصورة علنية، بل فقط أنه سيعطيهم هذا الحق "عندما تسمح الظروف، وهو ما أتوقع ألا يكون بعيدا". فإحداث مثل هذه التغييرات، حتى وإن كانت بديهية، في أمة لازالت تعيش في غياهيب الظلمات ، يشبه الدخول إلى جحر أفاعي، بينما الهدف الأهم بالنسبة له هو نجاح الحملة واستقرار الحكم واستتباب الأمن.
ـ في نفس الرسالة نجد نابليون يعيب على الأقباط ضعف مساندتهم للحملة الفرنسية مقارنة بغيرهم من المصريين: [(..) لا يمكنني أن أخفي عليكم أنني، في الواقع، أشكو من قلة الحماسة التي أظهرها الكثيرون (من الأقباط). فبينما يأتي إلي كل يوم كبار الشيوخ ليكشفوا لي كنوز المماليك، كيف إذن أن أولئك الذين كانوا الوكلاء الرئيسيين القائمين على (تلك الكنوز) لا يفعلون شيئا لمساعدتي على اكتشافها (..)].
ـ لم نجد رسالة واحدة يأمر فيها نابليون بصفة رسمية من قواده أو من حكام الأقاليم بأي تغيير يتعلق بالأقباط، وبالتالي فإن ما قاله في رسالته هذه هو فقط من قبيل إبداء النيات الطيبة.
ـ استمر نابليون في استخدام الأقباط كمباشري ضرائب كما كان الحال أيام المماليك. وبعد تعيين المعلم الجوهري مباشرا عاما على مصر (وهو الذي كان يقوم بدور شبيه مع كبار المماليك قبل الحملة) قام بتعيين ثلاثة على إقاليم الجيزة ومنوف والمنصورة (رسالة 2698 بتاريخ 31 يوليو 1798 إلى الجوهري)، وكذلك خمسة على الاسكندرية ورشيد ودمياط وأطفيح والشرقية ( رسالة 2725 بتاريخ 2 أغسطس 1798ـ إلى الجنرال بيرثييه رئيس أركان الحرب) وعين المعلم يعقوب مباشرا على بني سويف والفيوم.
ـ استمر نابليون في فرض ضرائب خاصة وإضافية على "الأقباط" كفئة، كما هو واضح مثلا من الرسالة 2753 ـ بتاريخ 3 أغسطس 1798 الموجهة إلى المعلم الجوهري حيث يطلب منه [(..) أن يكلف كلا من المعلم ملطي وأنفورني وحنين وفادوس بتحصيل المبلغ الذي طلبتُه من الأمة القبطية. وألاحظ مع الأسف أنه مازال يتبقى 50 ألف تالاري متأخرات؛ وأريد أن يتم إيداعها في ظرف خمسة أيام في خزينة الجيش]. وإن كان قد أضاف عبارة: [يمكنكم طمأنة الأقباط بأنني سأضعهم في مكانة لائقة عندما تسمح الظروف]، إلا أنه من الواضح أنها ليست أكثر من محاولة استمالة أو مجاملة. وفي الرسالة رقم 3294 بتاريخ 21 سبتمبر ـ إلى بوسييلج، مدير الشئون الإدارية والمالية للجيش (ومصر)، يُذَكره بمتأخرات من تجار الحرير الدمشقي قدرها 8,300 تالاري، وتجار القهوة (32,000) والأقباط (1,000) وزوجات المماليك الهاربين (24,000). ويطلب الإسراع في الدفع. (التولاري عملة فضية من جنوا، كان استعمالها منتشرا آنذاك، وكانت تساوي 5,28 فرنك فرنسي).
ـ لم يقم نابليون حتى بإلغاء "الجزية" المفروضة على الأقباط، إذ نجد في ملخص ميزانية الدولة الذي قامت به الإدارة الفرنسية للبلاد كما أورده محررو المجلد، بندا خاصا "للضرائب على غير المسلمين" إلى جانب ضرائب الأرض والتجارة والصناعة والجمارك.
ـ لم يتورع نابليون عن وصف الأقباط بما لا يليق في إحدى الرسائل. فقد اشتكى حاكم الشرقية الجنرال رينييه من تصرفات مباشر الضرائب القبطي في الإقليم، المدعو فلتاؤوس، فرد عليه نابليون (رسالة 3130 ـ 10 سبتمبر 1798) قائلا: [أبلغتُ المباشرَ العام على الضرائب (الجوهري) بأنك لم تكن راضيا على الإطلاق عن (المباشرين) الأقباط. إنهم أناس لئام في البلاد، ولكن ينبغي مراعاتهم لأنهم الوحيدون الذين في يدهم مجمل الإدارة للبلاد. لقد حصُلتُ منهم على سجلات هائلة حول قيمة الضرائب المفروضة].
ـ بالطبع كل ما ذكرناه لا يغير من حقيقة الزلزال الهائل الذي أحدثته الحملة الفرنسية في مصر والتي بدأت آثارها من كافة النواحي تتضح خصوصا بعد انتهائها وبدء حكم محمد على.
السؤال الرابع: ماذا عن الرسائل بين يعقوب والجوهري؟
بمراجعة الوثائق حتى نهاية 1799 لم نجد أي معلومات مباشرة بشأن رسائل متبادلة بين المعلم يعقوب والمعلم جرجس الجوهري. وإن كان يمكن عن طريق التخمين الزعم بأن شخصا ما، كالمعلم يعقوب أو غيره، قد بعث إلى نابليون عبر المعلم الجوهري، باعتباره أعلى الأقباط وظيفيا، رسالة بشأن أحوال الأقباط في البلاد؛ وهي التي قام بالرد عليها في الرسالة التي ناقشناها أعلاه، وهي الوحيدة التي رأينا فيها كلاما يتعلق بأوضاع الأقباط بصفة عامة.
بل إن المعلم يعقوب شخصيا لم يُذكر إلا في رسالة واحدة من نابليون، وبصورة غير مباشرة (وثيقة 2875 بتاريخ 20 أغسطس 1798 إلى بوسييلج) يقول فيها: [أرجو تعيين مباشر ضرائب قبطي (1) وموظف فرنسي في كل من أقاليم بني سويف والفيوم ليذهبا هناك مع الجنرال ديزيه الذي سيغادر غدا.
وتذكر الحاشية (1) من لجنة التحرير أن المُعني به هو: "يعقوب؛ وهو الذي سيبدأ بهذا سجلا لامعا في مساعدة الفرنسيين"].
وواضح من هذا أن يعقوب كان عندئذ مجرد مباشر ضرائب مثل غيره. ولا ننوي هنا مناقشة ما فعله الرجل، فهذا مبحث آخر يحتاج لمصادر ومراجع أخرى. وهناك من النظريات ما تذهب إلى أنه كان صاحب مشروع وطني تحصل بمقتضاه مصر، بمساعدة من القوى العظمى في وقته، على استقلالها من الدولة العثمانية وتتخلص من سطوة المماليك. وهذا بالضبط ما حاول محمد على القيام به بعد ذلك بسنوات قليلة.
وعلى أي حال فإن دور يعقوب الحقيقي بدأ بعد رحيل نابليون، أثناء فترة قيادة كليبير؛ كما يقول عنه فهرس الشخصيات في نهاية المجلد: [يعقوب الصعيدي (1803ـ1747): قبطي، مباشر ضرائب لدى زعماء المماليك قبل وصول الفرنسيين، يضع نفسه في خدمتهم ويصبح منظما لمالية حملة ديزييه في مصر العليا (الصعيد)، لاعبا، من ناحية أخرى، دورا كبيرا في تشكيل قسم معلومات للفرقة. وعندما أصبح كليبر قائدا عاما، عينه قائدا للكتيبة القبطية، بعد التمرد الثاني بالقاهرة]. وبالتالي فإن رسائل نابليون أثناء وجوده في مصر لا يمكن أن تعكس مثل هذا الدور.
السؤال الخامس: ماذا عن "المخططات واسعة المدي للفصل بين أقباط مصر ومسلميها"rlm;؟
فلنعد إلى نص رسالة نابليون إلى المعلم الجوهري التي عرضنا أجزاء منها أعلاه:
[تسلمت، أيها السيد، الخطاب الذي وجهَته الأمةُ القبطية إلىّ. سوف يسعدني أن أحميها. بعد اليوم لن تكون محتقرة؛ وعندما تسمح الظروف، وهو ما أتوقع ألا يكون بعيدا، (...الخ الفقرة السابق ذكرها).
لكن، إذا كنتُ أُحسن الصنيع، وإذا كان عليّ أن أعيد للأمة القبطية الكرامة والحقوق التي لا يمكن فصلها عن الإنسان، والتي كانت قد فقدتها، فإنه لديّ الحق بدون شك في أن أطالب أبناءها بالكثير من الحماسة والإخلاص في خدمة الجمهورية (الفرنسية).
لكن لا يمكنني أن أخفي عليكم أنني، في الواقع، أشكو من قلة الحماسة التي أظهرها الكثيرون (من الأقباط). بينما يأتي إلي كل يوم كبار الشيوخ ليكشفوا لي كنوز المماليك، كيف إذن أن أولئك الذين كانوا الوكلاء الرئيسيين القائمين على (تلك الكنوز) لا يفعلون شيئا لمساعدتي على اكتشافها؟
أنوه ببطريرككم، الذي أعرف فضائله وحسن نواياه. أنوه بحماستكم ومساعدتكم وأتمنى أيضا أن اُمتَدَح من الأمة القبطية كلها (..)].
لا نعلم إن كان عرض نابليون "بحماية" الأقباط من عندياته، أو جاء بناء على طلب في الرسالة الموجهة إليه، غالبا يشير إلى حماية أمنية أثناء الفوضى الحادثة، خاصة وأنهم عزل من السلاح بحكم الذمية. لكن المهم إدراك: أولا، أن الأقباط، كما هو ثابت على مدى التاريخ، لم يحدث أن طلبوا أو قبلوا حماية دولة أجنبية؛ وثانيا أن نابليون، كما أوضحنا أعلاه، لم يفعل شيئا على سبيل تغيير أوضاع الأقباط نحو الأفضل؛ وثالثا، وهو الأهم، فإن مطالب الأقباط الحقيقية، التي من الواضح أن نابليون قد كررها في رسالته، كانت لا تزيد عن ألا يكونوا محتقرين وأن "تعود لهم الكرامة والحقوق التي لا يمكن فصلها عن الإنسان".
لماذا يجد البعض في هذه الأمور البسيطة "مخططا واسع المدى للفصل بين الأقباط والمسلمين"؟ وهل العلاقة الوحيدة الممكنة بينهما تدور حول "الحذاء": أحد الطرفين يرتديه، والآخر تكون رقبته تحته؟ ولماذا ـ بهذه المناسبة ـ مازال الأقباط بعد قرنين من الزمان يطالبون بحقوق بديهية؟ بل إنه عند أخذ الخلفية السياسية والحقوقإنسانية العالمية في الاعتبار، فكيف إن أوضاعهم اليوم لا تختلف كثيرا عما كانت عليه أيام المماليك؟
***
قد يقول قائل ما الداعي لإضاعة الوقت والجهد في الرد على عبارة مسمومة في تحقيق صحفي، توجد مثيلاتها كل يوم؛ وما هو الجديد الذي أتينا به في هذا المقال، أكثر من إثبات القاعدة الذهبية الأولى بشأن الإعلام المصري وهي أنه "إعلام كاذب إلى أن يثبت العكس"، والقاعدة الثانية وهي أنه "إعلام مغرض إلى أن يثبت العكس" (بغض النظر عن استثناءات باهرة؛ ولكنها لا تنفي، بل تثبت، القاعدة)؟
الجديد، الذي ليس بجديد في الواقع، هو أنها دليلٌ آخر على استشراء الطالبانية في مصر لدرجة اختراق مفاصل الذهن والنفس والروح وحتى النخاع.