إلى متى ستظل مصر غائبة عن حركة حقوق الإنسان العالمية؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
شهد العالم فى الأسابيع الماضية إنجازات دولية هامة على طريق إدراك عالمية حقوق الإنسان، فقد بدأت فى يوم 19 يونيو فعاليات مجلس الأمم المتحدة الجديد لحقوق الإنسان Human Rights Council و الذى حل محل لجنة تلك المنظمة الخاصة بحقوق الإنسان و التى كان يعرف عنها عدم الفاعلية و كثرة التسييس، كما بدأ يوم 22 يونيو تفعيل البرتوكول الإختيارى OP-CAT الخاص بالإتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب CAT ،بالإضافة إلى إحتفال الصندوق التطوعى للتضامن مع ضحايا التعذيب والتابع للأمم المتحدة بالذكرى الخامسة والعشرون فى 26 يونيو باليوم العالمى للتضامن مع ضحايا التعذيب International Day in Support of Victims of Torture.
و الملاحظ فى كل هذه المناسبات المدعمة لحقوق الإنسان هو غياب مصر و دورها الريادى فى هذا المجال، و هى التى تتمتع بتاريخ دستورى عتيد يمتد لأكثر من قرن و مشاركة طويلة عبر تاريخ القانون الدولى كما نعرفه،حيث لعبت من خلال منظمة الأمم المتحدة دورا رئيسيا فى صياغة و تبنى الإعلان العالمى لحقوق الإنسان The Universal Declaration of Human Rights و الذى صدر عام 1948- الوثيقة الأخلاقية التى أرست حجر الأساس لما نعرفه الآن بالقانون الدولى لحقوق الإنسان. فلا مصر أصبحت عضوا بالمجلس الجديد، و لا هى من ضمن الدول التى صدقت على البرتوكول الإختيارى للإتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب، و لا أعطت مؤسسات الدولة و صحفها الإهتمام المناسب لضحايا التعذيب من خلال اليوم العالمى للتضامن معهم.
أما عن عدم تواجد مصر فى مجلس حقوق الإنسان بعد أن نسب إليها صوتا واحدا خلال إنتخابات العضوية فقد صرحت مسئولة بالخارجية المصرية عند سؤالى عن هذا الأمر بأن ذلك الصوت الواحد قد جاء عن طريق الخطأ حيث أن مصر لم ترشح نفسها لعضوية المجلس و ذلك بتنسيق مع الدول الأفريقية على أن ترشح مصر نفسها لعضوية لجنة الأمم المتحدة لبناء السلامPeace-building Committee فى الإنتخابات الأولى لهذه اللجنة الجديدة و التى فازت مصرفعلا بعضويتها.
و لا شك أن هناك إعتبارات ضرورية تتوقف عليها عملية الترشيح لعضوية المجلس مثل التناوب و التمثيل الجغرافى و قد تكون هناك دوافع إستراتيجية مثل تفضيل الدولة لعضوية لجنة عن أخرى لمزايا معينة، و لكن غياب مصر عن عضوية المجلس الجديد يمكن أن يعتبر كأحد المؤشرات فى إطار الإنسحاب التدريجى لمصر و الذى بدأ منذ عدة عقود ليس فقط من المشاركة فى قيادة الحركة الدولية لحقوق الإنسان بل حتى فى التفاعل الإيجابى معها حيث أن هذه المشاركة من الناحية المنطقية تتطلب وجود قاعدة شرعية وأخلاقية للدولة تسمح لها بأن تقوم بدور الداعية و الراعية و الحامية لحقوق الإنسان، علما بأن إنتخابات مجلس حقوق الإنسان كانت قد تزامنت مع حالة الإحباط العام الذى ساد المسرح السياسى فى مصر بعد تراجع الأمل فى دفع عملية الإصلاح إثر نتائج الإنتخابات الرئاسية و البرلمانية و حيث "عادت ريمة لعادتها القديمة" بمد الدولة لقانون الطوارئ و التنكيل بمرشحى المعارضة و الصحفيين و محاولتها السيطرة على السلطة القضائية.
و هناك العديد من المؤشرات الأخرى التى تؤكد هذا الإنسحاب و الذى كانت و مازالت مظاهره تأخذ أشكال عديدة و مناهضة لروح التعاون الدولى من أجل نصرة كرامة الإنسان:
1-الإعلان العام بخصوص دور الشريعة:
منذ التعديل الدستورى الذى جعل من الشريعة الإسلامية "المصدر الرئيسى" بدلا من" مصدر رئيسى" للتشريع صدقت مصر على عدة إتفاقيات دولية لحقوق الإنسان وأرفقت بجانب توقيعها إعلانا عاما General Declaration بما يفى بأن التصديق على الإتفاقية يشترط أن لا تتعارض موادها مع مبادئ الشريعة الإسلامية. و يشمل هذا الإعلان العام العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ICCPR والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ICESCR و اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة .CEDAW و يرى الخبراء القانونيون باللجنة المعنية بحقوق الإنسان Human Rights Committee (HRC) أن إقحام الشريعة يقوض المضمون القانونى normative content للحقوق مؤديا إلى إيجاد ثغرات قانونية قد تؤثر بشكل سلبى على إدراك حقوق الإنسان بشكل عام و حقوق الأقليات و المرأة بشكل خاص.
و قد إعترض بعض أعضاء HRC على هذا الإعلان لإحتوائه على مضمون "تحفظ عام مقنع و غير قانونى" لأنه يضع الإتفاقية رهنا للمناظرة حول مفاهيم الشريعة، و طالبت HRC فى توصياتها الأخيرة مصر رسميا "إما أن توضح مقصدها من هذا الإعلان أو تسحبه" .
-عدم التوقيع على البرتوكولات الإختيارية لإتفاقيات حقوق الإنسان الدولية
على الرغم من أن مصر قد وقعت و صدقت على معظم الإتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان فإن مشاركتها فى ربع القرن المنصرم لم تكن أبدا كاملة. فعلى سبيل المثال مصر لم تصدق على أى من البروتوكولات الإختيارية ICCPR-OP1 أو OP-CEDAW أو OP-CAT بما يسمح للفرد بأن يتقدم للجنة المتابعة الخاصة لكل من هذه الإتفاقيات بشكوى individual complaint فى حالة ثبات فشل الدولة فى توفير سبل فعالة للتظلم remedies effective legal على المستوى المحلى، و هو الشرط الأساسى الذى تطلب توافره هذه الآليات قبل أن تقبل البت فى أى شكوى. و سأتناول فى مقالات قادمة كل من هذه الإتفاقيات و البروتوكولات الإختيارية و آليات حقوق الإنسان و موقف مصر من كل منها كل على حدى بالتفصيل.
3- التأخير فى تقديم التقارير الدورية
و مظهر آخر من مظاهر الإنسحاب من حركة حقوق الإنسان العالمية هو التأخر فى تقديم التقارير التى تلتزم مصر بتقديمها إلى لجان المتابعة الخاصة بكل من إتفاقيات حقوق الإنسان كل فترة تحددها مادة معينة من كل إتفاقية. و قد أثارت عدد من لجان المتابعة لهذا الموضوع لدى الحكومة المصرية، و لا شك أن عدم الإلتزام بجدول أعمال لجان المتابعة يعطى إنطباعا بأن الدولة لا تشارك اللجنة المعنية الشعور بأهمية أعمالها.
4-ضعف مصداقية التقارير الدورية للجان المتابعة
وحتى عندما تقدم التقارير الدورية فهى تحتوى على معلومات مدونة بإيدى حكومية و بعيدة عن أى مشاركة من منظمات المجتمع المدنى المعنية بشئون حقوق الإنسان و التى تحث الأمم المتحدة الدول على إشراكها عند إعداد مثل هذه التقارير و لذا فغالبا ما تبدو التقارير الدورية التى تقدمها مصر مليئة بأساطير عن جهود و إنجازات الحكومة الضخمة من أجل تفعيل مواد الإتفاقيات الدولية على المستوى القومى و إدراك حقوق الإنسان فى مصر كما تبدوا هذه التقارير فى اغلبية الأمر متجاهلة لذكر العقبات التى تواجهها الدولة على طريق إدراك هذه الحقوق . و قد أدى هذا النمط من مدح النفس إلى إعتراض عدد من أعضاء لجان المتابعة معلنين أسفهم على ضعف أو عدم مصداقية التقاري ر مقارنة بما يأتى فى تقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية و ما يقرأ عنه العالم و يسمع به و يراه على الفضائيات من إنتهاكات لحقوق الإنسان فى مصر .
الخلاصة أن الإبتعاد عن حركة حقوق الإنسان الدولية ليس إستنتاجا خاطئا من عدم تواجد مصر بمجلس حقوق الإنسان الجديد بل هو ربما نتيجة لها مؤشرات عديدة يثبتها موضوعيا مدى ديناميكية أو إستاتيكية علاقة الدولة بالهيئات و اللجان الدولية المختصة بحماية حقوق الإنسان.
أما ما وراء هذه المؤشرات و النتائج السلبية فتقف مجموعة هائلة من الأسباب و التى تحتاج إلى بحث منفصل و مطول، أما إذا لخصت هذه الأسباب بشكل مبسط فسأرجع هذه الظاهرة إلى طبيعية الإتجاه التى تحولت مصر خلاله على مدار عدة عقود من دولة- على الرغم من مساوئها- كانت دولة مؤسسات تتمتع بقدر كبير من الديمقراطية قياسا بمعايير منتصف القرن العشرين حيث تعاونت فيها و تنافست القوى الوطنية تحت وطأة الإحتلال و ضده، إلى دولة تحكم بقانون الطوارئ الذى يحد من الحريات الأساسية بعدما توسعت فيها السلطة التنفيذية على حساب كل من السلطتين التشريعية و القضائية و توسعت فى السلطة التنفيذية الأجهزة الأمنية على حساب الأجهزة السياسية مما نتج عنه قمع المعارضة وإستئصال التعددية و كبت الصحافة و تهميش المجتمع المدنى وإستمرار إنتهاك حقوق الأقليات و المرأة.
و الإنسحاب عن حركة حقوق الإنسان الدولية يمكن إعتباره على أنه تهميش الدولة الإختيارى لذاتها على المسرح الدولى، و خطورة هذا التهميش الذاتى أن الدولة ككائن تصاب بنوع من الإكتئاب بحيث تختلط المؤشرات على النتائج على الأسباب حتى يبدو و كأنه يغذى كل منهم الآخر و قد تظل منغلقة على نفسها حتى تنهار و هى النهاية القصوى لهذا للإنسحاب. أما الإندماج و التفاعل الإيجابى والتعاون مع حركة حقوق الإنسان الدولية فهو يعطى الحوافز للدولة لبناء مؤسساتها و بالتالى إدراك حقوق الإنسان لمواطنيها مما يعزز من مكانتها الدولية.
و حيث أن عدم التصديق على OP-CAT هو آخر مؤشرات هذا الإنسحاب فسأخصص بقية هذه المقالة عن اليوم العالمى لدعم ضحايا التعذيب وموقف مصر القانونى و الأخلاقى فى إطار تفعيل هذا البروتوكول الإختيارى.
البرتوكول الإختيارى للإتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب
لم يكن عدم وجود إسم مصر ضمن الدول العشرين المصدقة على OP-CAT و الذى بدأ تفعيله يوم 22 يونيو مفاجأة لأحد و لا كان كذلك تجاهل الإعلام المصرى الواضح لليوم العالمى للتضامن مع ضحايا التعذيب إذ كيف تحتفل الدولة بمثل هذه المناسبة و قد إقترن إسم مصر بكلمة التعذيب خاصة فيما بعد 11 سبتمبر 2001
و لا شك أن جهود الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب قد منيت بضربة قاسمة لما إشتهرت به الإدارة الأمريكية الحالية من مغادرة من موقف الإدارات السابقة (و الذى كان يستنكر التعذيب -على الأقل نظريا) بإستخدام التعذيب كوسيلة لإنتزاع الإعتراف فى خضم ما تسميه بالحرب على الإرهاب. فبالإضافة إلى إستخدامه حاولت الإدارة الأمريكية إعادة تعريف معنى التعذيب فى حوارها مع الآليات الحقوقية بالأمم المتحدة و التى شجبت إقامة تلك الإدارة لسجن جوانتانامو و السجون الأخرى فى أوروبا الشرقية و الشرق الأوسط كما أدانت الأمم المتحدة و كذلك المنظمات الحقوقية العالمية الممارسات اللا إنسانية فى مثل هذه السجون، و إستنكرت الرحلات الجوية الأمريكية لترحيل مئات من السجناء و المشتبه فيهم دون محاكمة إلى دول حيث يتعرضون فيها للتعذيب. و طبقا لما يأتى على لسان منظمات حقوق الإنسان العالمية مثل منظمة العفو الدولية يقترن إسم مصر و سوريا و الأردن فى المحافل الدولية الآن كدول شريكة و منفذة فى هذه الممارسات الأمريكية الغير مشروعة و التى يطلق عليها rendition.
و هكذا فربما السبب فى عدم تطبيق CAT و عدم التصديق على OP-CAT من طرف الحكومة المصرية هو نفس السبب لموقف الإدارة الأمريكية و دول أخرى خوفا من تعرض مسئوليهم ليد العدالة الدولية. و لكن السؤال هو: هل تحمى الحكومة المصرية المتهمون بالتعذيب بالتستر عليهم رغما عن القانون؟ و إلى متى؟
فالتعذيب سواء على أيدى مسئولين حكوميين أو أفراد غيرلحكوميين هو جريمة يعاقب عليها القانون المصرى و يشجبها القانون الدولى لحقوق الإنسان، و هو من الجرائم التى لا يسقط حق ضحيتها فى مقاضاة الجانى مهما مضى من الزمن. و لذا فإن عدم قيام الحكومة المصرية بالتصديق على تفعيل البروتوكول الإختيارى الخاص بالإتفاقية الدولية ضد التعذيب (مصر صدقت على الإتفاقية فقط) لا يمكن أن يعنى شيئا عدا أنها تتستر على مرتكبى هذه الجريمة من مسئوليها .
إن تصديق مصر على OP-CAT يلزمها بأكثر مما تلتزم به كدولة مصدقة على CAT. ففى حين أن الإتفاقية تلزم مصر بأن تطبق موادها على المستوى القومى فالبروتوكول الإختيارى يسمح لكل من ضحايا التعذيب بأن يتقدم بشكوى ضد الدولة للجنة CAT إذا ما إستطاع أن يثبت أن الدولة لم توفر له سبيل للتظلم. و هكذا فإن الغرض من البروتوكول الإختيارى و فتح باب الشكوى للضحية إذا لم تتاح لها العدالة فى بلادها هو دفع الدولة للعمل فى التو على تطبيق القانون على المستوى المحلى. إذا فالفائز من التصديق على البروتوكول الإختيارى هو الفرد و و الدولة التى تحافظ على كرامة الفرد.
و بمناسبة العام الخامس و العشرون لليوم العالمى للتضامن مع ضحايا التعذيب أطلق الصندوق التطوعى للتضامن مع ضحايا التعذيب كتابا جديدا عن التعذيب و ضحايا التعذيب إسمه Years Rebuilding Lives25 و هو يتحدث عن إنجازات هذا الصندوق من خلال القيام بمشاريع على مدار ربع قرن تهدف إلى إعادة بناء حياة ضحايا التعذيب. ويتناول الكتاب قصص لبعض هؤلاء الضحايا و عن تجاربهم أثناء و بعد التعذيب. و نجد أن العامل المشترك بين أبطال هذه القصص و الذين طبقا للكتاب قد أتو من 5 بلاد مختلفة أنه بالإضافة إلى الأثار التى تركها التعذيب على أبدانهم فهناك الآثار النفسية psychological effects التى تستمر معهم منغصة عليهم معيشتهم طوال حياتهم.
و بناء حياة ضحايا التعذيب يبدأ أولا بتوفير الدولة لوسائل التظلم لهم حتى تتحقق لهم العدالة و تعترف الدولة بآدميتهم التى أهدرت و تعاقب المسئول أو المسئولين عن تعذيبهم. و من النتائج البدنية و النفسية للتعذيب هو عجز الضحايا عن ممارسة حياتهم الطبيعية حيث قد تختلف قدرتهم على الحركة أو التحدث إو التذكر أو التفكير أو النوم إلى غير ذلك عن ما كانت عليه حياتهم من قبل مما يؤثر على حياتهم الأسرية و مكسب رزقهم إلى آخره. و لذا فإن الدولة ملزمة بمحض القانون أن تقوم بتوفير التعويضات المادية لهؤلاء الضحايا حتى يستمروا فى حياتهم بالإضافة إلى توفير البرامج الطبية و النفسية لعلاجهم على أيدى متخصصين فى هذا المجال.
و يبقى أن هناك أمل فى أن تعى الدولة أنها ما زالت تمتلك الخيار ما بين العودة إلى الإندماج و المشاركة فى حركة حقوق الإنسان الدولية أو الإستمرار فى الإنسحاب منها. و العودة تبدأ بالتصديق على OP-CAT حتى يبدأ إعادة بناء حياة ضحايا التعذيب فى مصر، كما يجب أن تصدق على جميع البرتوكولات الإختيارية و سحب الإعلانات و التحفظات التى تقف عقبات على طريق إدراك حقوق الإنسان فى مصر.
باحث و إستشارى فى القانون الدولى لحقوق الإنسان
azizabdelaziz@gmail.com