خرافة الأصل
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
تحتفل الولايات المتحدة في الرابع من يوليو كل عام بعيد استقلالها عام 1776،حيث تقام الاحتفالات الوطنية والشعبية. ويمثل هذا اليوم فرصة للمسؤولين وغيرهم من الشخصيات العامة المنتخبة لإلقاء الخطب والكلمات التي يمجدون فيها القيم والتقاليد الأميركية ، لذا فإن أكثر كلمات الحرية إثارة وحماسة تقال في هذا اليوم . ففي عام 1788 ألقى جيمس ويلسون كلمة أمام حشد لعله الأكبر في تاريخ الدولة الفتية، حض فيها رفاقه من المواطنين على المصادقة على الدستور المقترح وتساءل قائلا" ما هو الأمر الذي نتدبره ؟ إنه شعب بأكمله يمارس أول وأعظم سلطة له - إنه يؤدي إجراءا سياديا مستقلا، أصيلا وليس له حدود..."كما شجب الصحفي الأسود فريدريك داجلاس ، أبرز دعاة تحريم العبودية ، الظلم الذي كان لا يزال سائدا في الجنوب الأميركي في ذلك الحين، غير أنه حدد قوى تستمد أملها وتحمسها من وثيقة إعلان الاستقلال، وما تتضمنه من مبادئ عظيمة، ومن عبقرية المؤسسات الأميركية في العمل الذي "سيسفر لا محالة عن إنهيار العبودية."
وبعد مضي 90 عام وخلال أظلم فترات الحرب العالمية الثانية، ذكّر الرئيس فرانكلين روزفلت الأمة الأمريكية بأن الرابع من يوليو هو " رمز للحرية الديمقراطية التي يعتبرها مواطنونا على أنها حق مكتسب بالولادة ": وتابع يقول "إنه بالنسبة لجيش الثورة الأميركي المنهك، والجائع والذي تنقصه العدة والتجهيز: كان يوم الرابع من يوليو منشطا للأمل. وهو كذلك اليوم أيضا (...) إن الرجال الأشداء الذين يحاربون من أجل الحرية في هذه الساعة المظلمة يتأثرون برسالتها - وهي التيقن من الحق في الحرية الفردية في ظل الله - لجميع الشعوب والأعراق والجماعات والأمم في كل مكان حول العالم.
وقد ألقى الرئيس بوش في الرابع من يوليو عام 2001 كلمة خارج صالة الاستقلال في مدينة فيلادلفيا محل ميلاد وثيقة إعلان الاستقلال. وقال " إن تلك الوثيقة لا تزال تمثل المعيار الذي نقيس عليه غيرنا والمعيار الذي نقيس أنفسنا عليه. لقد تحققت لنا أعظم المنجزات عندما أخذنا بهذه المثل العليا. كما جلبنا على أنفسنا الويلات والمآسي حين أخفقنا في الأخذ بهذه المعايير والتقيد بها.
غير أن الكلمة التي ألقاها الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (1930-2004 ) في المؤتمرالعالمي الذي عقد علي هامش المئوية الثانية لإعلان الأستقلال الأمريكي بجامعة فرجينيا كان لها شأو آخر، حيث عمدت إلي تفكيك هذا الحقل البلاغي والأيديولوجي المعقد لوثيقة الاستقلال. ويبدو أن "كلود ليفي شتراوس"، وهو أبرز مصادره القريبة، هو الذي أوحى له: "بأن وجود الأشياء المقدسة في أماكنها هو ما يجعل منها مقدسة، لأنها لو انتزعت من أماكنها، حتى لو فكريًا، لتدمر نظام العالم بأكمله. لذلك فالأشياء المقدسة تسهم في إبقاء العالم على نظامه، باحتلالها المواضع التي وضعت فيها") ومن ثم شرع دريدا بالفعل في تطبيق ذلك على "دستور" أكبر قوة في العالم، كاشفًا لنا "حضور" الميتافيزيقا في "نص" الدستور الأمريكي، أو قل في صلب الديمقراطية الليبرالية الأمريكية
فقد تساءل في البداية عن: الوضع الشرعي والقانوني لهذه الوثيقة، التي انبثقت بموجبها كينونة سياسية وقومية جديدة هي الولايات المتحدة الأمريكية؟ .. كما تساءل عن المواطنين والنواب (وكلاء الشعب) الذين مهروا توقيعاتهم على هذه الوثيقة الخطيرة hellip; وعلى نحو أكثر دقة، تساءل عن: ما الذي أمد توقيعاتهم بسلطة، حيث من المفترض أن المصدر الدستوري الوحيد لهذه السلطة كان (هم أنفسهم) الذين كانوا قيد التخلق بوصفهم موقعي الوثيقة؟ وهذا السؤال الأولى يؤدي إلى سؤال تالٍ أهم، وهو: كيف نشأت الديمقراطية النيابية؟ hellip; بما أن هؤلاء الذين لعبوا دورًا في لحظتها التدشينية لم (يفوضهم) على نحو حاسم وواضح، أي جهاز قائم من القوانين أو الإجراءات
والواقع أن هذه التساؤلات الاستراتيجية ليست مجرد إشكاليات تافهة يحلم بها "تفكيكي مراوغ" بحثًا عن انعطاف جديد يتمتع بمفارقة ، إذ لم يكن الموقعون الأوائل، لحظة التوقيع، مزودين ديمقراطيًا بسلطة تؤهلهم للعب هذا الدور فما الذي أهل هؤلاء النواب الأوائل للتحدث نيابة عن شعب أمريكي وافق عليه؟ hellip; شعب مفترض فقط بأمر إداري، لأنه لم يكن ثمة بعد دستور مكتوب يحفظ هذا الأمر؟
"ولهذا السبب فقد اجتمعنا نحن الممثلين للولايات المتحدة الأمريكية في الكونجرس العام hellip; نعلن باسم، وبواسطة، سلطة شعب الجاليات المخلص: نعلن، ونصرح، على نحو مستوف للشروط القانونية، أن هذه الجاليات المتحدة هي، وينبغي أن تكون، ولايات حرة ومستقلة". ويؤكد دريدا أنه كان لابد لهذا الإعلان من شاهد حاسم ذي شرعية قانونية والشاهد في هذه الحالة هو "الله" - God، على اعتبار أن الإعلان يحتكم إلى قاضي العالم الأعلى، بما أنه الضامن المطلق لـ "صحة مقاصدنا". ذلك هو الالتجاء إلى "مدلول متعال" وقوة تضمن هذه التوقيعات وتمنحها قوة "الكلمة المزودة بسلطة والمعفاة من تقلبات الملابسات التاريخية".
إن سرية "الأصول" - Origins تستبعد أسئلة الشرعية! وهي التي جعلت من هذه الوثيقة شيئًا ما آخر، أبعد من مجرد تسجيل لأحداث زمن معين. إن الوضع الشرعي "التمثيلي" للموقعين لحظة أن وقعوا بأسمائهم ليس سؤالاً عن الشأن الأعظم utmost importance، فقد أصبح فعلهم جزءًا من القضاء والقدر الذي يديره إله غرضه أن يطيعه الموقعون على نحو مطلق.
وهذا التحليل يتصل، بشكل مباشر، بكل ما كتبه دريدا عن "التمركز حول العقل" في الثقافة الغربية بدءًا من أفلاطون وانتهاءً بالعلوم الإنسانية الحديثة، وبصفة خاصة فكرة "الأصل" حين تمتزج الميتافيزيقا باللاهوت، إن ما يريد دريدا توضيحه هنا هو لحظة الاحتكام الفاشستي - الرجوع إلى قوة مطلقة ومشرعة - التي تنطوي عليها كل الأساطير الخرافية عن الأصل.