كتَّاب إيلاف

الدين والسياسة

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

ليس جديداً على العالم، شرقاً وغرباً، ان تُقحم المسائل الدينية في السياسة. بل انه من الممكن القول بأن التداخل بين الدين والسياسة مسألة طبيعية، طالما ان السياسة تجري في اطار الحريات الديموقراطية والفكر الحر، وطالما ان المعتقدات الدينية بعيدة عن التعصب والاستغلال. وهذا يسري على الاقتصاد كما يسري على السياسة. فقد قال الفيلسوف الاقتصادي العالمي المعروف جون كنيث غالبريث الذي توفي هذه السنة بعد عمر مديد ناهز المائة سنة: "ان اعتاق المعتقدات من القيود هو اصعب مهام الاصلاح، لأنه على ذلك يتوقف كل شيء آخر".

لكن في الحالة التي يمر بها العالم اليوم، خصوصاً في العالمين العربي والاسلامي، تسود تصورات ظلامية خطيرة، تطلق عليها تسميات مختلفة، مثل "صراع الحضارات"، او "صراع الاديان"، او "صراع القوة" وما الى ذلك، وهي تصورات من شأنها اذا استفحلت ان تدفع منطقتنا والعالم الاسلامي، وربما العالم كله، الى دائرة مميتة وقاحلة تلغي امكانية نشوء مجتمعات حرة وتقدمية، مزدهرة اقتصادياً، وعادلة اجتماعياً، ومتفتحة فكرياً.
فما كان الدين يوماً هو المشكلة او العائق امام تطور المجتمعات وانفتاحها وحريتها، لكن التطرف الديني كان دائماً من المشكلات العويصة التي ادت الى الحروب والاقتتال وغلبة الاستبداد على الحرية. فالتطرف الحاصل اليوم في العالم الاسلامي ليس فريداً من نوعه او مستعصياً على التفسير، لكن هذا ليس هو الاسلام كما يحاول بعض العنصريين في الغرب تصويره.

فعندما قام المتطرفون في حركة "طالبان" الافغانية بتحطيم تماثيل بوذا التاريخية المنحوتة منذ مئات السنين في صخور الجبال، وظلت قائمة حتى الامس القريب، وفي مختلف مراحل تاريخ تلك المنطقة، استغرب المسلمون قبل غيرهم، وهم الذين حافظوا عليها عبر القرون احتراماً لمعتقدات الآخرين، كيف ان بعضهم نسب ذلك العمل التدميري الى الاسلام. فقد شهدت المسيحية الشرقية في تاريخها ما هو اسوأ من ذلك، عندما قامت في الدولة البيزنطية في القرن الثامن الميلادي حركة تحطيم الصور والايقونات والاعمال الفنية، وهي حركة تبناها الامبراطور ليو الثالث "618 ـ 741"، وتابعها من بعده ابنه وخلفه قسطنطين الخامس "718 ـ 775"، واستمرت قرابة قرن كامل، وكانت من اسباب الانشقاق الكبير فيما بعد بين المسيحية الشرقية في القسطنطينية والبابوية في روما، ولم تكتف حركة تحطيم الايقونات بتدمير الاعمال الفنية، بل قامت باضطهاد الرهبان والتنكيل بهم، وبمهاجمة المزارات الدينية وتدميرها. فأي فرق بين "طالبان" المسيحية في القرن الثامن، وبين "طالبان" الاسلامية في القرن الواحد والعشرين، سوى الفارق الزمني؟!
وفي الولايات المتحدة الاميركية التي تُعد اعرق الديموقراطيات الدستورية على وجه الارض، لم تكن المسألة الدينية بعيدة عن تصورات وافكار مؤسسي الجمهورية الاميركية من اليوم الاول لاستقلالها. فقد كان هناك نوع من التآلف بين الدين والدولة منذ ان وضع جورج واشنطن، اول رئيس لتلك الجمهورية، يده على الكتاب المقدس ليقسم عليه قسم المحافظة على الدستور. ومنذ ذلك الحين، لم تنقطع المحاولات الهادفة الى تغليب الدين على الدولة، والدولة على الدين، او تهميش اي منهما، لكنها كلها لم يُكتب لها النجاح. ويقول البروفسور كارستن فويت مستشار الحكومة الالمانية في الشؤون الاميركية ان الاميركيين لم يجدوا في حياتهم على الاطلاق اي مشطلة في مزجهم الدين والديموقراطية في مجتمعهم.
ذلك ان الديموقراطية هي كفيلة الحرية للجميع، وفوق ذلك، هي كفيلة الاحترام المتبادل الذي يتوق اليه الجميع، لأنه شرط لسماع الصوت الآخر ولتقدير الناس على ما هم عليه، بحيث تكون للاقلية الحقوق ذاتها التي تتمتع بها الاكثرية، طالما ان اي اقلية او اكثرية انما تتشكل من اجتماع الناس الذين يحملون معتقدات متماثلة، وليس بالقهر او بالقسر، حتى ولو كان الجهل فاشياً في مجتمع من المجتمعات، فان العيب ليس في الجهل بل في فرضه بالقوة.
ثم ان حكم القانون هو كفيل المساواة بين الناس. وقد قال المفكر البريطاني المعروف جون لوك في القرن الثامن عشر: "حيث ينتهي القانون يبدأ الطغيان". فالفارق الاكثر وضوحاً بين الدول الديموقراطية والدول الديكتاتورية هو حكم القانون، حيث العدالة هي الصدق في العمل، على قول بنجامين دزرائيلي رئيس الحكومة البريطانية امام مجلس العموم في عام 1851، بصرف النظر عن طبيعة ذلك العمل، طالما ان القانون هو الكلمة الفصل.
فالانظمة الديكتاتورية والاستبدادية في بعض البلدان العربية والاسلامية، ليست كذلك لأنها اسلامية، بل لأنها تضيق الخناق على حرية مجتمعاتها، وتخلق احوالاً غير مؤاتية للديموقراطية وحكم القانون، فيعم الفقر والاهمال، لأن المجتمعات الحرة تعطي فرصة للمهملين، والمسحوقين، والمعدمين، والمحرومين، لكي ينهضوا ويقيموا لأنفسهم واهلم حياة افضل.
ونشوء الانظمة التعسفية ليس فقط مسؤولية النخب الحاكمة، او المستأثرة بالحكم، او القائمة على التمييز الذي يمكن ان يأتي من اي جهة كانت، بل هي ايضاً مسؤولية شرائح واسعة من المجتمع تؤثر المنفعة الاقتصادية على الحريات الديموقراطية.
وقد شخص المفكر الفرنسي اليكسيس دى توكفيل هذه الظاهرة في كتابه عن الثورة الفرنسية والنظام الملكي الاستبدادي الاقطاعي الذي كان قائماً قبلها بقوله: "ان هناك اناساً يرغبون في مبادلة حرياتهم بالامان الاقتصادي، لكنهم في النهاية سوف يخسرون الامرين كليهما، ومن الصحيح بالتأكيد ان الحرية على المدى البعيد تحمل الى المحافظين عليها الرخاء واليسر واحياناً الثروة، لكن قد يأتي وقت يتعذر فيه الاستمتاع بهذه الاشياء لفترة قصيرة. وهناك آخرون لا يجدون على المدى القصير من يوظفهم سوى الانظمة الاستبدادية. فالذين يؤثرون المنافع المؤقتة لا يستمتعون بالحرية لوقت طويل". من هنا يمكن القول ان لا شيء يعادل الحرية او يكون بديلاً لما يشيعه مناخها في شتى المجالات.
وفي النتيجة فان المجتمعات الحرة وحدها التي تقر للناس بحق الاختلاف، واحترام هذا الاختلاف، لأن الاختلاف مسألة حاسمة في اشاعة الحرية والديموقراطية.
وتوضيحاً لبعض المبادئ الوارد ذكرها هنا، لا بد من التركيز على بعض المسلمات البديهية والعملية اللازمة لتقدم المجتمعات الحرة، ومنها:
ـ حرية العمل السياسي، حسب تعريف السياسي الاميركي المعروف أدلاي ستيفنسون للمجتمع الحر بقوله: "المجتمع الحر هو المكان الذي اذا كانت لك وجهة نظر مختلفة فيه تشعر معها بالامان".
ـ كلنا جميعاً نتوق الى الاحترام.
ـ الناس يحبون سماع صوتهم والاعتراف بهم على ما هم عليه.
ـ كلنا جميعاً لنا نظرة عالمية.
ـ الناس يحبون التلاقي مع الناس امثالهم، لكنهم يتعلمون تقدير الاختلافات والفروقات.
ـ اماكن العمل هي اماكن فريدة. حيث امام الشركات فرصة هائلة لتكون بمثابة مختبر للتعلم له تأثير ايجابي على المجتمع من حيث تقديم المثال والقدوة للسلوك الذي يسمح باستيعاب الآخرين.
ـ انه امر حاسم ان نتعرض للاختلاف.
ـ جميعنا يجب ان نكون صوت اي جماعة مهمشة.
ـ ما هو مشترك بيننا اكبر مما نتصور.
ـ هناك اشياء لا نفهمها لأننا لسنا غير ما نحن.
ـ اذا كانت هناك اشياء غير قابلة للقياس فلا يعني ذلك انها غير ذات شأن.
ـ التمييز يمكن ان يأتي من اي كان.
ـ يمكن ان تصدر افضل الافكار من اقل الجهات المتوقعة.
ـ المجتمع الذي يحتقر العلم والتكنولوجيا يسير في طريق الانتحار.

الكاتب خبير اميركي من أصل عربي ، المقال تنشره "ايلاف" بالاتفاق مع "الديبلوماسي"، التقرير الشهري الذي يصدر من لندن ويتوفر للمشتركين فقط

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف