الأزهر وأنصاف الحقائق
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
الجامع الأزهر، منذ أن وضع القائد جوهر الصقلي حجر أساسه في عام 972 ميلادية، لم يكن مؤسسة مستقلة، وإنما ظل يتفوه بما يمليه عليه السلطان. والسلاطين المسلمون لم يحفلوا في يوم من الأيام بالشعب القبطي المصري، وحذا حذوهم جامعهم الأزهر الذي ما زال يُدرّس تلاميذه وطلابه كتب "الولاء والبراء" التي تحثهم على عدم موالاة الأقباط الكفرة، وكتب "أحكام أهل الذمة". وعندما كانت الحكومات المصرية الإسلامية تفرض الجزية على الأقباط حتى القرن التاسع عشر، التزم الجامع الأزهر صمت القبور ولم ينبس ببنت شفة دفاعاً عن الأقباط. وفجأة صحا الجامع الأزهر من سباته وأصبح من المدافعين عن المسيحية الأرثوذكسية في مصر. فعندما عرضت دور السينما المصرية فيلم "بحب السيما" ثارت ثائرة الجامع الأزهر واجتمع شيوخه مع قساوسة الكنيسة وأصدروا بياناً يطالب بمنع عرض الفيلم لأنه يسيء إلى المسيحية. وعندما ظهر فيلم "شفرة دافنشي" طالب شيوخ الأزهر قبل المسيحيين بمنع الفيلم لأنه يسيء إلى السيد المسيح والديانة المسيحية، رغم أن الفيلم حاول أن يُظهر أن السيد المسيح لم يكن إلهاً وإنما كان رجلاً عادياً تزوج وأنجب كما تزوج قبله موسى وهارون وبعده محمد، وهو ما يقول به الإسلام. ولكن يبدو أن الجامع الأزهر الذي لا يزيد عن كونه بوقاً للحكومة المصرية، كان لا بد له أن يحاول، نفاقاً، التقرب إلى الأقباط لأن الكونجرس الأمريكي قد طلب ذلك عندما زار وفدهم برئاسة السيناتور كينيدي، شيخ الجامع الأزهر في يناير 2005. وحتى يثبت الجامع الأزهر أنه أصبح من عشاق المسيحية بدأ شيوخه يتدخلون في أخص خصوصيات الكنيسة القبطية. فعندما أسس الأنبا ماكسيموس كنيسة قبطية جديدة في مصر تنافس كنيسة البابا شنودة، تجمهر شيوخ الأزهر وأصدروا بياناً لحمه الكذب وسداه الأخطاء. فقد (أكد علماء أزهريون رفضهم لأي محاولة للمساس بالوضع الوطني والروحي للكنيسة الأرثوذكسية المصرية التي يقودها البابا شنودة الثالث بابا الاسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية، كمرجعية دينية للمسيحيين الأرثوذكس في العالم لما لذلك من تأثير على كل ما تتبناه الكنيسة من مبادئ وفي مقدمتها الوحدة الوطنية، محذرين من مخاطر المحاولات التي يقودها الأنبا مكسيموس لإحداث انشقاق في صفوف المسيحيين المصريين) انتهى (محمد خليل وياسر خليل، الشرق الأوسط، 6 يوليو 2006). وهنا يجب أن نسأل شيوخ الأزهر سؤالين:
1-متى كان للأقباط أو لكنيستهم وضع وطني في مصر حتى يرفض شيوخ الأزهر المساس به؟
2-ومتى كانت أو أصبحت كنيسة الإسكندرية مرجعية دينية للمسيحيين الأرثوذكس في العالم؟ فشيوخ الأزهر لا يعرفون من المسيحية وكنائسها غير أنها دور كفر يُعبد فيها الشيطان، كما يقول أهل الفتاوى.
فالكنيسة الأرثوذكسية الشرقية التي نشأت عام 753 ميلادية بعد تحطيم الأيقونات في القسطنطينية، قد انقسمت وتشعبت إلى عدة كنائس أرثوذكسية تختلف فيما بينها كما تختلف المذاهب الإسلامية. فالكنيسة التي بدأت موحدةً في قسطمطينية تصدعت بسرعة بعد أن انفصلت عنها كنيسة الإسكندرية والكنيسة الأرثوذكسية الروسية ثم الكنيسة الإغريقية ثم كنيسة دول البلقان الأرثوذكسية. وهناك الكنيسة الأرثوذكسية القبرصية والكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية التي انفصلت عن كنيسة الإسكندرية في عام 1961. وهناك كنائس أرثوذكسية حديثة ومختلفة في أمريكا الجنوبية وأستراليا وغيرها. وبذا تُعتبر الكنيسة الأرثوذكسية القبطية من كنائس الأقليات وليست مرجعية دينية للمسيحيين الأرثوذكس في العالم، كما يقول شيوخ الأزهر.
والكنيسة القبطية المصرية تحت قيادة الأنبا شنودة الثالث تشبه إلى حد كبير الجامع الأزهر نفسه من حيث أنها تحث أتباعها على طاعة الرؤساء بتلقين الأطفال قصة شجرة الطاعة التي نبتت من العصا بسبب طاعة التلميذ للأنبا "بموا"، وتشبه الأزهر كذلك في عدم الشفافية خاصةً فيما يتعلق بالأمور المالية للكنيسة التي يتهمها عدد غير قليل من الأقباط بالفساد. وهناك من الأقباط من يلوم البابا شنودة على تأييده لترشيح الرئيس حسني مبارك، تماما كما فعل شيخ الجامع الأزهر. وهناك من يلومه على فرض آرائه السياسية على الجميع ومنع الأقباط من زيارة القدس إلى أن تقوم الدولة الفلسطينية. وبما أن الأقباط مثلهم مثل أتباع الديانات الأخرى لا يتفقون جميعاً على نفس الأشياء، لماذا يحاول الجامع الأزهر منع الأقباط الذين لا تروق لهم قيادة البابا شنودة من إيجاد كنيسة أرثوذكسية أخرى تلبي احتياجاتهم العقدية؟ فانقسام الكنيسة لا يؤدي بالضرورة إلى إضعافها وانقراضها، فقد بدأت الكنيسة الأرثوذكسية بالانقسام في القرن التاسع وما زالت الأرثوذكسية قائمة. ثم أن اختيار المعتقد أمر من الأمور التي تندرج تحت طائلة بنود حقوق الإنسان التي أقرتها الأمم المتحدة ووقعت عليها جمهورية حسني مبارك. فالمادة 18 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان (1948) تقرر: (لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين. وهذا الحق ينطوي على حرية تغيير الدين أو المعتقد وكذلك حرية اظهار دينه وابداء معتقده بمفرده أو في جماعة. وسواء أكان ذلك جهاراً أم خفية وذلك بالتعليم والممارسات والتعبد واقامة الشعائر) انتهى. فلو أراد بعض الأقباط ممارسة شعائرهم في كنيسة الأنبا ماكسيموس، فهذا شأنهم الخاص ولهم مطلق الحرية في ذلك، رغم اعتراض السيد القبطي العضو في مجلس حقوق الإنسان بالقاهرة.
وقد عودنا شيوخ الأزهر على إصدار التصريحات التي تحتوي على أنصاف حقائق إن لم تكن كذباً بواحاً، وكمثال على هذا نورد ما قاله الشيخ عبد المعطى بيومي عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر لـ"الشرق الأوسط": (إن الكنيسة الأرثوذكسية الأم التي يقودها البابا شنودة لها مواقف معروفة على المستوى الوطني والديني، مشيرا إلى أن هذا الانقسام الذي يقوده الأنبا ماكسيموس عن الكنيسة الأم وإعلانه عن تكوين مجمع مقدس، يجب النظر له في ضوء المخاطر التي يشكلها مثل هذا الموقف على الدور الوطني للكنيسة الأرثوذكسية في مصر والتي يجب تدعيمها وتقويتها.) انتهى.
وإذا كان للكنيسة المصرية دورٌ وطني هام يخشى الشيخ عبد المعطي بيومي عليه، لماذا لم يتدخل لدى الرئيس السادات لإطلاق سراح البابا شنودة الذي كان منفياً في دير في الصحراء؟ ولماذا لم يطالب الحكومة المصرية بالسماح للكنيسة بترميم أبنية كنائسها الآيلة للسقوط؟ وإمعاناً من الشيخ في تزودينا بأكبر عدد من أنصاف الحقائق، قال لنا: (أتصور أن مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر سيدرس الموضوع من كل جوانبه وتأثيره على الساحة الدولية والمحلية وكذلك تأثيره على مصر وعلى المسلمين قبل المسيحيين) انتهى.
وكما يقول المثل المصري (اللي استحوا ماتوا). فالشيخ لا يستحي أن يقول إن انقسام الكنيسة سوف يؤثر على المسلمين قبل المسيحيين. أي تأثير هذا الذي يتصوره الشيخ؟ لو تبع انقسام الكنيسة أي أثر على المسلمين فسوف يكون أثراً معاكساً لما يقوله الشيخ، إذ أن المسلمين سوف يهللون ويكبرون لهذا الإنقسام الذي يجعل الأرثوذكسية كالإسلام، شيعاً وأحزاباً. ثم أن شيوخ الأزهر، لو كانوا يثقون في السنة والأحاديث النبوية، كان عليهم أن يهللوا لهذا الإنقسام الذي يؤكد صحة الحديث الذي رواه ابن ماجة: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وسبعون في النار، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده، لتفترقن أمتي علىثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار). فإذا كان المسلمون قد تقسموا إلى سنة وشيعة وعلويين وفاطميين وإسماعيليين وبهائيين ودروز وما إلى ذلك، ألا يُثبت إنقسام الكنيسة المصرية صدق هذا الحديث الشريف؟ فمن واجب الأزهر أن يهلل له
أما الشيخ احمد عبد الرحيم السايح أستاذ العقيدة والفلسفة والأديان والمذاهب المعاصرة بجامعة الأزهر، فقد (أكد أن إقرار الإسلام بالعقائد الدينية المختلفة يؤكد أن تكون للعقائد الدينية مرجعيتها الأصلية التي يرضاها المجتمع، وبالتالي فلا ينبغي أن تكون هناك مرجعيات دينية تتبع هذا أو ذاك أو أن يكون هناك من يقحم نفسه في أمور قد تضر بالصالح العام، وبالتالي نتمسك بان يظل المجتمع المصري الإسلامي والمسيحي متوافقا على مرجعياته) انتهى.
والأستاذ السايح قد بز أقرانه في التصريح بأنصاف الحقائق عندما قال إن الإسلام يقر بالعقائد الدينية المختلفة ويطلب أن تكون لها مرجعياتها الأصلية التي يرضاها المجتمع. فليت الأستاذ قد أتى لنا ببعض المصادر التي اعتمد عليها في مقولته هذه ليقنعنا أن القرآن كان خاطئاً عندما قال (إن الدين عند الله الإسلام) و(ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يٌقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) أو عندما خاطب القرآن الناس أجمعين وقال (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) أو عندما قال (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون). فحسب القرآن نستطيع أن نقول إن الإسلام لا يعترف بأي عقيدة دينية أخرى، إلا إذا كان للشيخ مصادرٌ لا نعرفها أباحت له أن يقول ما قاله. وليس هناك من شك أن الشيخ كان يرمي إلى التقليل من شأن المذهب الشيعي عندما قال إن الإسلام يؤكد أن تكون للعقائد مرجعياتها الأصلية ولا ينبغي أن تتبع هذا أو ذاك. فهو يقصد تبعية المذهب الشيعي للإمام علي بن أبي طالب.
وإذا كان الإسلام يقر بالعقائد الدينية الأخرى، كيف تسنى للشيخ السعودي حمود بن عقلاء الشعيبي أن يقول (فقد بدأنا في الآونة الأخيرة نسمع ترديدا لشعارات منحرفة ومصطلحات غريبة بدأت تغزوا المسلمين.. مبطنة بباطن الكفر والردة.. ملفوفة بشعارات ماكرة باسم مؤتمرات و ملتقيات حوار الأديان، وباسم تقارب الأديان أو العالمية، وتصريحات سياسية باسم احترام الأديان وهل يمكن لمسلم عاقل يتصور أن هناك دينا خالدا غير دين الإسلام ؟ بعدما نسختها شريعة محمد عليه الصلاة والسلام..... وقال القاضي عياض رحمة الله عليه كما في الشفا : ولهذا نكفر من دان بغير ملة الإسلام من الملل أو وقف فيهم أو شك أو صحح مذهبهم وإن أظهر مع ذلك الإسلام..... فتبيـن من هذه النصوص التي ذكرتها وما يماثلها مما لم أذكره نسخ وبطلان أي دين غير دين الإسلام، والعجب كل العجب أن أشخاصا من قادة المسلمين يروجون لهذه النظرية الفاسدة، ويصرحون في المحافل العالمية الكافرة أنهم يدْعون إلى تآخى الأديان السماوية الخالدة) انتهى.
فهل كان هذا الشيخ السعودي كما كان القاضي عياض على خطأ عندما قالا هذه الأقوال؟ ولو كان هؤلاء على خطأ، ما ذا يقول الشيخ في قول ابن القيم الجوزية (الأمصار التي أنشأها المشركون ومصروها ثم فتحها المسلمون عنوة وقهرا بالسيف فهذه لا يجوز أن يحدث فيها شيء من البيع والكنائس. وأما ما كان فيها من ذلك قبل الفتح فهل يجوز إبقاؤه أو يجب هدمه فيه قولان في مذهب أحمد وهما وجهان لأصحاب الشافعي وغيره، أحدهما يجب إزالته وتحرم تبقيته لأن البلاد قد صارت ملكا للمسلمين فلم يجز أن يقر فيها أمكنة شعار الكفر كالبلاد التي مصرها المسلمون ولقول النبي لا تصلح قبلتان ببلد ) (أحكام أهل الذمة، ص 286).
وحتى الخليفة الأموي العادل عمر بن عبد العزيز فعل نفس الشيء (فعندما أراد الوليد بن عبد الملك أن يبني مسجد دمشق كان فيه كنيسة فهدمها وبناها مسجداً فلما ولي عمر بن عبد العزيز شكوا اليه ذلك فقال لهم عمر: إنّ ما كان خارج المدينة فِتح عنوة ونحن نرد عليكم كنيستكم ونهدم كنيسة توما فإنها فتحت عنوة ونبنيها مسجداَ، فقالوا: بل ندع لكم هذا ودعوا كنيسة توما) (الكامل في التاريخ للمبرد، ص 293). فهل تدل هذه الأقوال والأفعال على أن الإسلام يؤكد الاعتراف بالعقائد الدينية الأخرى؟
الواجب الأخلاقي يحتّم على شيوخ الأزهر ألا يبخلوا بالحقيقة فإنها ساطعة كالشمس مهما حاولوا إخفاءها.