كتَّاب إيلاف

ضمير جورجيت وديمقراطية مبارك

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

كالعادة.. لم تكن الأنباء القادمة من مصر خلال الفترة الأخيرة تحمل بارقة أمل، فهذه الأنباء كانت من طراز: سجن الصحافيين وتأنيب القضاة بسبب أدائهم لعملهم، ومد العمل بأحكام قانون الطوارئ، والاعتداء على المسيحيين داخل الكنائس في أسبوعهم المقدس، ورفض الطعن المقدم من أيمن نور وحرق مكتبه، وغير ذلك من الأنباء السيئة، لكن كل هذه الأنباء في كفة، وما طالعتنا به الصحف مؤخراً عن "صفقة" جرت بين الحكومة ونائبة في البرلمان في كفة أخرى، فهذا الخبر هزني بشدة، إذ قايضت نائبة البرلمان المسيحية السيدة جورجيت قليني، توقيعها على الالتماس المقدم من أيمن نور لإطلاق سراحة، مقابل تصدي نظام الرئيس مبارك البوليسي لحظر رواية وفيلم "شفرة دافينشي" في مصر.
رواية "شفرة دافينشي" التي حققت نجاحا واسع الانتشار وأثارت جدلا كبيرا كتبها دان براون، ونشرت لأول مرة عام 2003، هذا العمل الخيالي قدم تاريخاً مسيحياً بديلاً لا يعترف به القطاع الأكبر من المسيحيين، حيث ذكر أن المسيح لم يصلب ولكنه تزوج مريم المجدلية وأنجب منها أبناء، وكثيرون اعتبروا القصة مجرد شكل من أشكال الانتهاك والتدنيس، مدعين انه اعتداء مباشر ومقصود على العقيدة المسيحية والتي تنكر جوهر المسيحية - بأن المسيح مات على الصليب من أجل خطايا البشر ـ كما أن بعثه من الموت يمثل الأمل لمستقبل البشرية، لكن البعض الآخر نظر إلى الرواية باعتبارها هجوما موجهاً للكنيسة الكاثوليكية الرومانية، التي قام براون بتصويرها على أنها مؤسسة حاقدة وظالمة قامت بإخفاء الحقائق حول المصير الحقيقي للمسيح، بواسطة حيلة مثيرة للسخرية من أجل الاحتفاظ بالسلطة. وهناك آخرون أشاروا إلى افتقار الكتابة للغة السليمة ورداءة القصة وزيف البحث التاريخي الذي قام به براون.
وبغض النظر عن تقييمنا للقصة ومدى حبكتها الدرامية، فالشيء الأكثر أهمية عن كتاب السيد براون هو انه مجرد خيال افتراضي، وبينما نجد أن براون قد صاغ الأحداث والحبكة القصصية استناداً لعدة مصادر، إلا أنه بالتعريف الدقيق لخصائص هذه الرواية - وكذلك كل الروايات - سوف نجد أنها مجرد قصة وليست سردا لوقائع تاريخية محددة. فهي ليست بحث لاهوتي أو حرب كلامية ضد الكنيسة الكاثوليكية أو المسيحية بصفة عامة. الكتاب نابع من نسج خيال دان براون، فقد قام بكتابتها من أجل تحقيق كسب مالي كبير، وهذا هو ما حققته بالفعل.
وعلى الرغم من الحقيقة التي تؤكد أن هذا العمل لا يستند إلى أساس من الواقع، إلا أن ذلك لم يمنع الناس في جميع أنحاء العالم من الاحتجاج ضد الكتاب والفيلم الذي صدر حديثاً. لقد قام المسيحيون من سنغافورة إلى انجلترا إلى واشنطن بتنظيم مقاطعة للكتاب والفيلم على وجه الخصوص، وقامت عدة جماعات بإصدار بيانات رسمية تدين كلا الشكلين من القصة، لقد قامت المظاهرات والاحتجاجات وتم منع عرض الفيلم في عدة دول من بينهم باكستان والصين وبعض أجزاء من الهند.

مبارك ودافنشي
المثير هنا أن قصة "شفرة دافينشي" تحولت من الخيال إلى السياسة في مصر، حيث استخدم الرئيس مبارك رواية وفيلم براون من أجل زيادة حدة الانقسام الديني بين المسلمين والمسيحيين. في بداية الأمر تم الإعلان عن عرض فيلم دافينشي كود في مصر والذي ترتب عليه إثارة موجة غضب لدي المسيحيين الأقباط داخل الدولة وفي الحكومة. وهذا الغضب العارم مهد الطريق لعبث المتطرفين وأدى إلى تفاقم المأساة. وعلى صعيد آخر، نجد مجلس الشعب قد حظر عرض الفيلم بسبب إهانة الأديان وأن ما يعد تطاولا على السيد المسيح، يعد بالتبعية إهانة للإسلام. وقررت الحكومة مصادرة نسخ الكتاب الذي كان يعد من أكثر الكتب مبيعا داخل السوق المصري منذ إصداره عام 2003.
في غضون ذلك الوقت، كان أيمن نور قد وجد بعض الضمائر اليقظة المساندة له في مجلس الشعب على أمل إحقاق العدل عن طريق تداول التماس يدعو إلى إطلاق سراحه من السجن وهو ما كان يعد صفعة قوية ومباشرة على وجه مبارك. ومن ضمن الموقعين على هذا الالتماس جورجيت قليني ـ وهي واحدة من بين امرأتين و7 مسيحيين نواب بمجلس الشعب (البرلمان) ـ وكانت الحكومة تعلم أن نائبة البرلمان المسيحية تعارض بشدة السماح بعرض الفيلم في مصر، لذلك قاموا برشوة جورجيت لحثها على سحب مساندتها للالتماس وعرضوا عليها تدعيم الحظر على "دافينشي كود" في مقابل أن تقوم بسحب توقيعها على التماس أيمن نور. وقد قبلت جورجيت هذه الشروط من الحكومة محدثة نهاية تشبه نهاية أفلام هوليوود. فقد تم إلغاء الالتماس والفيلم لم يتم عرضه والجميع أصبحوا سعداء. الجميع ما عدا أيمن نور.
أنا أعلم جيدا أن السيدة جورجيت قليني مسيحية، وأنها واحدة ضمن 7 أعضاء برلمانيين مسيحيين يمثلون حوالي 10 مليون ناخب قبطي. وأنا أعلم أن الأقباط يرفضون هذا الفيلم في بيئة منقسمة دينيا بتعزيز من حكومة مبارك سوف يذخر المسلمين المتعصبين والمناهضين للمسيحية بالدعم والسند الذي قد يدفعهم إلى مزيد من إهانة وازدراء المسيحية. وعلى الرغم من ذلك، ففي مدرسة يوم الأحد، فإننا نتعلم أن واحدة من المبادئ المسيحية هي مساعدة الضعفاء والمحتاجين والمنكوبين. ولكن من هو الأكثر احتياجا للمساعدة الآن من أيمن نور الذي تم رفض التماسه والذي يعد الأمل المشرق لكل المصريين والمسيحيين تحديداً؟ أي الجماعات سوف تستفيد أكثر في مجتمع ديمقراطي عادل يتمتع فيه المواطنين بحرية المشاركة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟. لقد اتخذتي القرار الخطأ يا سيدة جورجيت. لقد ضحيتي بحياة رجل من أجل فكرة غامضة تقوم على كيفية تصوير المسيحية في شكل خيالي ووقعتي في شرك مبارك الذي ينصب على كيفية بقاء المواطنون منهمكين في مناقشة الأمور الدينية من أجل صرفهم عن ما يحدث حقيقة داخل البلاد.
المشكلة ليست فقط مع السيدة جورجيت، فالمنظمة المصرية لحقوق الإنسان قد قامت مشكورة بإصدار إدانة سريعة لحظر "دافينشي كود" على اعتبار أن ذلك يمثل قيدا على حرية التعبير والفكر والاعتقاد من أجل فرض أفكار دينية وسياسية معينة. هذه المنظمة تعد مناصر قوي ومتماسك للصحافة والأعلام الحر، بداية بقيامها بعقد اجتماع بين جميع الأطراف المعنية لمناقشة ودراسة تعزيز إصدار قانون يمنع سجن الصحافيين والمحررين والناشرين مرورا بالمطالبة بإجراء تحقيق حول أسباب منع المقالة الأسبوعية التي تنشر في جريدة أيمن نور بسبب إدانتها لسجن رئيس تحرير جريدة الدستور الذي قام بنشر قصة حول مزاعم فساد مالي من جانب الرئيس حسني مبارك نجد المنظمة المصرية لحقوق الإنسان قد وقفت بجانب حرية الصحافة. الحقيقة أنا لست متأكداً من موقفها تجاه الصور الكاريكاتورية الدانمركية، ولكن بإلقاء نظره فاحصه على سجلها الممتاز يبدو من الراجح أن المنظمة المصرية لحقوق الإنسان لا تخشى من تأثير المتظرفين على موقفها، ذلك لأن المنظمة المصرية لحقوق الإنسان تعي تماما أن صحافة حره وإعلام حر هما السمة المميزة لمجتمع ديمقراطي ولا يجوز تقييدهم. وبدونهم سوف يكون من المستحيل إصلاح انتهاكات حقوق الإنسان لأنها ببساطة لن تكون مكشوفة على الملء.

المجلس القومي
لكن يحق لنا هنا أن نتساءل: أين المنظمة الرسمية الحكومية لحقوق الإنسان المسماة بالمجلس القومي لحقوق الإنسان، لماذا لم يصدروا أي رأي حول الحظر؟ والأكثر أهمية، لماذا التزموا الصمت في مواجهة الصفقة السياسية التي تمت بين جورجيت قليني ونظام مبارك واستمرار الحبس التعسفي لأيمن نور؟ الإجابة على هذه التساؤلات تكمن في جوهر تكوين المجلس القومي لحقوق الإنسان الذي وصفه رئيس الحزب الوطني الديمقراطي بأنه بنت فكر أمانة سياسات الحزب التي يرأسها جمال مبارك، أبن الرئيس مبارك والوريث الراجح للسلطة. هيئة المجلس القومي لحقوق الإنسان تتباهى بوجود أسماء رنانة أمثال بطرس بطرس غالي، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة. ولكن في حقيقة الأمر هي مجرد هيئة حكومية أخرى وجدت من أجل خلق حالة من الوهم بأن النظام يراقب إساءة استعمال حقوق الإنسان. المجلس القومي لحقوق الإنسان شريك في الوضع الراهن وفي إحكام الحزب الوطني الديمقراطي لقبضته على الحكم في مصر بينما يزين ويضلل ويدافع عن انتهاكات حقوق الإنسان التي يرتكبها النظام الحالي. أنه لمن ألمخز أن يدعي المجلس القومي لحقوق الإنسان أنه مهتم بحماية حقوق الإنسان والأكثر خزيا أن شخصا مثل السيد غالي يعير أسمه ومصداقيته إلى منظمة تمنع متعمدة إثارة الاهتمامات الشرعية المتعلقة بحقوق الإنسان. السيد غالي، القبطي، دافع عن حقوق الكثير من المظلومين حول العالم ولكنه تجاهل تماما أهله مسيحيي مصر، فالسيدة جورجيت والسيد غالي فشلا بشكل مثير للشفقة في استذكار دروس مدرسة الأحد على حساب حرية أيمن نور وحقوق الإنسان المتعلقة بكل المصريين
النظام البرلماني أيضا أصبح وسيلة غير فعالة لحماية المواطنين المصريين. مجلس الشعب يدار بطريقة تمنع أعضائها بصفة أساسية من تمثيل ناخبيهم بشكل عادل وفعال. في المجتمعات الحرة الديمقراطية، يجب على أعضاء الجهاز التشريعي أن يتركوا أعمالهم الخاصة، ويكرسوا كامل وقتهم من اجل الأشخاص الذين يمثلونهم، فهم من ناحية يقومون بوضع أصول أموالهم في ائتمان بحيث لا يكون لهم عليها سيطرة مباشرة، ومن ناحية أخرى فهم ملزمون بالكشف الكامل عن كل مواردهم المالية كما أنهم عرضة للمحاسبة عن كافة أنشطتهم - سواء داخل أو خارج غرف البرلمان- ويتم مراقبتهم تحت الميكروسكوب خلال مدة نيابتهم داخل البرلمان. فإذا ظهرت أي بوادر فساد أو أخطاء فسوف يتم مساءلتهم عن أفعالهم، ولا يوجد عضو في الحكومة معفي من هذه الضوابط بما في ذلك رئيس الدولة
ورغم ذلك نجد أن أعضاء مجلس الشعب المصري الذين يمثلون 77,5 مليون نسمة يكرسون جزء بسيط من وقتهم للقيام بالأعمال الحكومية، فهم يحتفظون بكل أعمالهم الخاصة ولا يقع عليهم أي التزام بتقديم كشف حساب عن أنشطتهم المالية. بالإضافة إلى ذلك فان أعضاء مجلس الشعب لديهم حصانة من المحاكمة. وبالتالي فان التقاء هذه الظروف مجتمعة سوف تؤدي إلى تهيئة مناخ الفساد من اجل تحقيق مكاسب شخصية وسياسية وعمليا فان ذلك يضمن عدم قيام نواب مجلس الشعب بتمثيل ناخبيهم على نحو عادل. أي برلمان يمكن أن يدار وفقا لهذه الظروف؟ الإجابة جد واضحة. هو البرلمان الذي لا يتطلب أي معايير سامية للعدالة والإنصاف في أعضائه وهو الذي يعد مساندة الحكومة لعمل من أعمال الخيال العلمي صفقة عادلة في مقابل سحب دعمها لإطلاق سراح رجل برئ من سجن جائر، وفي ظروف أقل ما توصف به أنها غير إنسانية بالمرة.

وأخيراً
فإن ما حدث في قصة السيدة جورجيت، وديمقراطية مبارك الهزلية هي عار على مصر، وهذا يمكن ملاحظته إذا ما رجعنا بنظرنا إلى بداية القرن العشرين عندما كنا رواد في تطبيق الديمقراطية والعدالة والثقافة في الشرق الأوسط، الآن أدركت وبصدق أنه يجب علينا أن نرثي حالنا على انقضاء زمن سعد زغلول ومصطفى النحاس وقاسم أمين ومكرم عبيد وغيرهم من الرموز المصرية النبيلة.
وبصفتي مصرياً وقبطياً، أدين اثنين من عشيرتي، أمد يدي إلى كل أخواتي وإخواني المسلمين مطالبا إياهم أن يعيدوا النظر في كل ما يجري داخل مجتمعنا المصري، فجميعنا يقع عليه التزام بتوحيد بلدنا والتصدي للتعصب الذي يشجعه النظام الفاسد. وذلك لا يمكن تحقيقه إلا إذا وضعنا أيدينا معا، ومضينا في محاسبة أنفسنا ومارسنا النقد البناء.
* ناشط مصري يقيم بالولايات المتحدة

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف