أسباب ثورة 14 تموز العراقية (1)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
الوضع قبل الثورة وضرورات التغيير
هناك بديهية تفيد أن كل مرحلة تاريخية هي وليدة المرحلة السابقة، لذلك فمن نافلة القول أن بذور ثورة 14 تموز قد نمت في رحم العهد الملكي نفسه. والثورات لا يمكن تفجيرها "حسب الطلب" أو بفرمان من أحد وإنما هي نتيجة لانفجار تراكمات ومظالم ومتطلبات سياسية واجتماعية واقتصادية، وعندما تنتفي الوسائل السلمية الديمقراطية لتحقيق هذه التحولات المطلوبة، وتتوفر لها الظروف الموضوعية والعوامل الذاتية، عندئذِ يحصل التغيير بالعنف الدموي وما يصاحب ذلك من هزات عنيفة واضطرابات خطيرة في المجتمع.
كذلك يجب التوكيد على أن ثورة 14 تموز كانت الإبنة الشرعية لثورة العشرين (30 حزيران 1920) ووريثتها، مضموناً وفكراً والتي أرغمت المستعمرين الإنكليز في الإستجابة لمطالب الشعب العراقي في تأسيس الدولة العراقية فيما بعد، كما مر آنفاً. إلا إن الإستقلال السياسي بقي ناقصاً دون طموحات الشعب وقواه السياسية، وكانت الدولة مرتبطة بمعاهدات جائرة، لذلك استمرت الإنتفاضات الشعبية والوثبات الوطنية والإنقلابات العسكرية، تتفجر بين حين وآخر، وكانت ثورة 14 تموز تتويجاً لتلك الإتفتضات والحركات السياسية ومكملةَ لثورة العشرين فحققت طموحات الشعب العراقي في إنجاز إستقلاله السياسي الكامل وسيادته الوطنية ومهدت السبيل للسيطرة على ثرواته الطبيعية مستقبلاً.
سأحاول قدر الإمكان، وبشكل موثق، إثبات إن المسؤول الأول والأخير عن اندلاع ثورة 14 تموز 1958، هو النظام الملكي نفسه ونوري السعيد تحديداً، الذي وقف ضد الديمقراطية والتحولات الاجتماعية بالطرق السلمية وأمعن في انتهاك حقوق الجماهير الديمقراطية وأعاق بناء مؤسسات المجتمع المدني و توقف عن التطور السلمي التدريجي ووقف عقبة كأداء أمام التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي فرضتها قوانين التطور إلى أن استنفد دوره. وحتى الإنتفاضات الشعبية والوثبات الوطنية فشلت في تغيير سياسة السلطة نحو الأفضل، لذلك صرح قائد الثورة الزعيم عبد الكريم قاسم مرة: " لو اعتقدنا أنه كان باستطاعة الشعب أن يزيل كابوس الظلم الجاثم على صدره، لما تدخلنا بالقوة المسلحة، ولكننا كنا نعرف أن الناس كانوا يائسين ولا من يدافع عنهم."
تدشين مرحلة الإنقلابات وتسيس العسكر
يحاول البعض، سواء عن جهل أو عمد، تحميل ثورة 14 تموز 1958، تبعات سياسات النظام البعثي الحاكم في العراق وما حل بهذا البلد من خراب ودمار لاقتصاده وتمزيق وحدته وتلويث بيئته وتدمير نسيجه الاجتماعي وتشريد أكثر من أربعة ملايين من أبنائه إلى الخارج، وتحويل الوطن إلى سجن كبير لمن لم يستطع الخروج منهhellip;، يعتقد هؤلاء، أنه لولا ثورة 14 تموز لما ابتلى العراق بهذا النظام ولما نزلت عليه هذه الكوارث. فهؤلاء فقط يذكرون ما حصل بعد الثورة ويتجنبون ذكر ما كان يجري قبل الثورة أي الأسباب التي أدت إلى تفجيرها.
وقد استغل أنصار عودة الملكية وحتى البعض ممن أيدوا الثورة في وقتها، هذا الوضع المزري الذي عاشه العراق في عهده الجمهوري -البعثي، فيلقون باللائمة على ثورة 14 تموز وقادتها مسؤولية تسييس العسكر وتسلطهم على الحكم ومقدرات البلاد والعباد وأنها دشنّت عهداُ للانقلابات العسكرية وعدم الاستقرار. كما ويدّعون أيضاً، أن العهد الملكي كان عهداً ديمقراطياً زاهراً مستقراً، فيه دستور وانتخابات وبرلمان وأحزاب معارضة ديمقراطية كانت تمارس نشاطاتها بحرية تحت قبة البرلمان، وحقق تقدماً واسعاً في التطور الاجتماعي والاقتصادي، وكان نبتة طرية لبناء المجتمع المدني ومؤسساته الديمقراطية "لولا اقتلعها عبد الكريم قاسم" على حد تعبير بعضهم. وبذلك فهم يدَّعون أنه لم تكن هناك أسباب كافية لقيام "الإنقلاب" وإن ما حصل في 14 تموز 1958 كان نتيجة طيش بعض الضباط المغامرين في الجيش لتحقيق طموحاتهم في السلطة.
إن سبب هذا التفسير الخاطئ لما لحق بالعراق في عهد صدام حسين من دمار هو لأن العراق يعيش مرحلة الإنحطاط الحضاري وإنهيار الوطني، منذ تسلط حزب البعث على السلطة، والإنهيار الوطني يصاحبه عادة إنهيار فكري، إذ يسيطر اليأس والإحباط على النفوس وتحصل البلبلة والتشويش، فيلجأ قطاع واسع من الناس إلى الإيمان بالخرافات والتفسيرات الغيبية، فيفسرون ما حصل انه عقاب من الله تعالى لإبتعادنا عن تعاليم الدين وانه إمتحان لنا بهذا البلاء. لذلك نجد قسماً كبيراً منهم، يلجئون إلى الغيبيات والدين متضرعين إلى الله تعالى العفو والغفران عن المعاصي لخلاصهم من هذا الظلم.
وهذا الإنهيار الفكري لم يشمل الناس البسطاء في المدن والأرياف فحسب، بل أثر بشكل وآخر حتى على عدد من المثقفين. فلن نستغرب أن نرى شخصاً كان بالأمس متحمساً للماركسية، وإذا به الآن يدعو للورع والتقوى والتدين ويفرض الحجاب على زوجته وبناته. هذه هي ظاهرة الإنهيار الفكري التي تصاحب الإنهيار الوطني في كل مكان وزمان نتيجة الشعور باليأس والإحباط في الخلاص من هذه الكارثة، لأن الجماهير فقدت الثقة والأمل بتحقيق الخلاص من هذه المحنة عن طريق النضال الحاسم والقوى المادية، فتلجأ النفوس إلى الإيمان بالخرافات والغيبيات والقوى الخارقة الميتافيزيقية.. أملاً في الخلاص.
ولا نستغرب أيضاً من تفسيرات غريبة وعجيبة يطلقها هذا المثقف أو ذاك في تفسيرات مشبوهة أو خرافية وغير معقولة لتعليل هذه الظاهرة أو تلك، متصيدين بالماء العكر في عملية خلط الأوراق وحرق الأخضر بسعر اليابس.
ومن الجدير بالذكر أني ذكرت مثل هذا الكلام في إحدى الندوات في شمال شرق إنكلترا عام 1998، فقاطعني أحد الحضور بغضب، متهماً إياي بالكفر، مدعياً إن هذا التوجه الإيماني والحملة الإيمانية في العراق بعد حرب الخليج الثانية، ما هو إلا من الله تعالى الذي أدخل الإيمان في قلوب العراقيين. فذكرته بأن هذا السلوك ليس غريباً على الدين وقد جاء ذكره في القرآن الكريم أيضاً وتلوت عليه الآية الكريمة: "وإذا مسكم الضر في البحر من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً" (الآية67، سورة الإسراء). إن لجوء الإنسان إلى الله أيام المحنة فقط وتخليه عنه فيما بعد ليس بالأمر الجديد. واتهام الآخرين بالكفر أصبح أمراً مألوفاً في هذا الزمن الرديء.
لذلك فلا عجب أن نواجه بعضاً من هذه التفسيرات الخاطئة ومنها تحميل ثورة 14 تموز تبعات ما حصل في العراق على يد النظام البعثي الصدامي في العراق. وهذا التفسير الخاطئ هو شكل من أشكال الإنهيار الفكري وإستثمار الأزمة لأغراض مشبوهة من قبل البعض.
إن إلقاء تهمة تسييس العسكر وتدشين مرحلة الانقلابات على ثورة 14 تموز لم يصمد أمام أية مناقشة منصفة. إذ لم يكن العسكر غرباء عن الدولة العراقية في عهدها الملكي، فأغلب المساهمين في تأسيس الدولة العراقية كانوا من العسكر، سواءً الذين عرِفوا بالضباط الشريفيين من خريجي المدرسة العسكرية التركية ومنهم نوري السعيد نفسه الذي كان برتبة جنرال والذي تولى رئاسة الحكومة 14 مرة. كذلك الفريق جعفر العسكري والفريق نوري الدين محمود كانوا عسكريين وتسنموا رئاسة الحكومة في العهد الملكي أو غيرهم من الضباط العراقيين في الجيش العثماني. لا بل أن العسكر قد وجدوا حتى قبل تأسيس الدولة العراقية، بمعنى أنهم كانوا مسيّسين قبل تأسيس الدولة ولهم دور كبير في تأسيسها. فالجيش العراقي تأسس قبل الدولة العراقية، وهو الجيش الوحيد الذي يقال عن عنه أنه يمتلك دولة، أي الدولة كانت تابعة للجيش وليس الجيش تابعاً للدولة.
فمرحلة الإنقلابات العسكرية لم تبدأ بيوم 14 تموز 1958 كما يدعي البعض، وإنما دشنت في العهد الملكي نفسه بإنقلاب الفريق بكر صدقي عام 1936، (ويعتقد البعض أن الملك غازي كان مشاركاً به) وما تلاه من خمسة إنقلابات عسكرية مستترة أخرى وأحداث مايس 1941 بقيادة العقداء الأربعة والتي عرفت بحركة رشيد عالي الكيلاني. وكانت هناك محاولات انقلابية عسكرية لم يكتب لبعضها النجاح، كلها حصلت في العهد الملكي أي قبل 14 تموز 1958(1) . وبذلك فإن تسييس العسكر قد حصل في العهد الملكي وإن ثورة 14 تموز هي نتيجة وليست سبباً لتسييس العسكر.
الثورة والتطور السلمي التدريجي
وإنصافاً للتاريخ يجب أن لا ننكر أن العهد الملكي لم يكن شراً كله، كما يدعي بعض أنصار الثورة ولم يكن خيراً كله وازدهاراً عميماً كما يدعي أنصار الملكية، بل كانت هناك جوانب إيجابية تبشر بخير لو سارت الأمور كما كان مخططاً لها من قبل المخلصين من أمثال الملك فيصل الأول. أقول لا يمكن لأي منصف أن ينكر دور الملك والسياسيين الأوائل من أتباعه فيما بذلوا من جهود مضنية في تأسيس الدولة العراقية الحديثة وبمساعدة الإنكليز بعد تحرير العراق من الاستعمار التركي العثماني المظلم وما أعقب ذلك من تململ الشعب العراقي في ثورة العشرين.
إذ كان العراق يسير بقيادة فيصل الأول بخطى ثابتة ومتزنة على طريق التطور السلمي التدريجي لبناء دولة عصرية دستورية وديمقراطية وفي أشد الظروف تخلفاً وصعوبةً. ولا يمكن أن نقلل مطلقاً من الصعوبات التي واجهها الرواد الأوائل في بناء الدولة العراقية.
ولكن هذا التطور السلمي التدريجي قد توقف فجأة منذ وفاة الملك فيصل، وتسلط نوري السعيد وعبد الإله على مقادير السلطة خاصة بعد مقتل غازي، كما أشرنا إلى ذلك في الفصل السابق. ويؤكد هذه الفرضية الباحث الدكتور كمال مظهر أحمد فيقول: "وفي الواقع إن أكبر خطأ قاتل ارتكبه النظام (الملكي) في العراق يكمن في موقفه من الديمقراطية، فعلى العكس من منطق الأشياء، سار الخط البياني لتطور الديمقراطية في العهد الملكي من الأعلى إلى الأسفل، لا من الأسفل إلى الأعلى، ويتحمل الجميع وزر ذلك، ولكن بدراجات متفاوتة".(2)
لذا فإني اعتقد جازماً أن نهاية النظام الملكي قد بدأت عملياً برحيل مؤسسه الملك فيصل الأول ولم يحصل أي نوع من الاستقرار السياسي في العراق منذ وفاته عام 1933 حيث فقدت الحكومة العراقية هيبتها وصار نوري السعيد هو الحاكم المستبد في العراق ولعب دوراً كبيراً في إيقاف عجلة التطور السلمي التدريجي وتجميد أو تهميش الدستور، وبدأت مرحلة عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي. وكانت الأحكام العرفية هي القاعدة وليست استثناءً، حيث أُعلِنَتْ 16 مرة بين 1932 و1958. إذ كان فيصل سياسياَ محنكاَ بالفطرة والتجربة وذو ثقافة سياسية واجتماعية جيدة نسبياً حسب ظروف ومعايير ذلك الزمان، فكان يلتقي باستمرار بقوى المعارضة والشخصيات الوطنية ورجال الدين ورؤساء العشائر، يستمع إلى آرائهم وطلباتهم ويشرح لهم الصعوبات التي تواجه الدولة في تلك المرحلة وكان يطمئنهم على تحقيق مطالبهم على شرط أن لا يحاولوا فرضها على السلطة بالعنف وأن هذه الطلبات ستتحقق مع الزمن وأن خيراً عميماً سينتظرهم إذا ما تجنبوا العنف. لذاك سارت الأمور في عهد فيصل بهدوء وكان التطور يجري بسلام.
ولكن بعد وفاة فيصل تغيّرت الأمور رأساً على عقب وامتنعت السلطة وخاصة بعد مصرع الملك غازي، عن أي حوار أو تفاهم مع المعارضة الوطنية. فكان نوري السعيد غير ملمٍّ بفن التواصل مع الآخرين، إذ لم يكن خطيباً ولا كاتباً ولم يهتم بالدعاية والإعلام من أجل شرح سياساته وإقناع الجماهير ومعارضيه بجدواها، إذ كان ينظر إلى الجماهير نظرة إستخفاف، ومستهيناً بالمعارضة، معتمداً كلياً على الجيش في حمايته، وشيوخ الإقطاع في إدارة الحكم، وإستمراره في السلطة وفق مقولته المشهورة "دار السيد مأمونة".
ونعود للسؤال الذي يطرح نفسه دائماً وهو: أما كان الأجدر بالقوى السياسية والعسكرية الانتظار ومحاولة تغيير الوضع بالطرق السلمية وهل كانت هناك حاجة لثورة مسلحة كثورة 14 تموز 1958؟
إن التطور سنة الحياة، ويشمل كل شيء في الوجود، في المجال البايولوجي والبيئي وحتى في شكل القارات ومواقعها، وهذا ينطبق على التطور الحضاري والإجتماعي والسياسي أيضاً. فهذا الوضع الحضاري المتقدم الذي يعيشه العالم اليوم في الغرب لم يحصل بين يوم وليلة بل حصل من خلال هزات وكوارث تاريخية واجتماعية، وحروب وثورات وزلازل وبراكين سياسية على مر العصور، وهذه مسألة طبيعية جداً. فالتطور حتمي ويشمل جميع الأشياء ومجالات الحياة، فإما أن يحصل بصورة سلمية، إذا لم تقف الحكومات عائقاً أمامه، أو على شكل ثورة عارمة تجرف أمامها كل عائق إذا ما وقفت الحكومات عائقاً للتطور السلمي التدريجي. وهذا هو منطق الحياة في كل زمان ومكان.
وهناك مقولة ماركسية تفيد بأن التراكمات الكمية تؤدي بالتالي إلى تحولات كيفية (نوعية). ويوضح ذلك حسين مروة فيقول: "يرشدنا المنهج العلمي إلى حقيقة مهمة في تاريخ تطور المجتمعات البشرية والحضارات، هي ان التراكمات الكمية ضمن مجرى هذا التاريخ يمكن أن يتخذ أشكالاً مختلفة في تحولها الكيفي. يمكن مثلاً، أن تتحول إلى كيفية سياسية، أو إجتماعية، أو فكرية نظرية، أو إلى نوع من العنف الثوري. لقد تابع إنجلس أشكال المعارضة الثورية للإقطاع في القرون الوسطى كلها، فوجد أن الظروف الزمنية، كانت تظهر هذه المعارضة حيناً في شكل تصوف، وحيناً في شكل هرطقات سافرة، وحيناً في شكل إنتفاضات مسلحة. إن شكل التحول الكيفي في هذا المجتمع أو ذاك، وفي هذا الزمن أو ذاك، إنما تحدده طبيعة الظروف الملموسة، وربما كانت الظروف هذه مؤهلة وناضجة أحياناً لحدوث تحولات كيفية مختلفة الأشكال في وقت واحد، أي قد تجتمع في ظروف معينة تحولات سياسية واجتماعية وفكرية معاً، قد ترافقها إنتفاضات مسلحة، وقد تأتي هذه التحولات تمهيداً لإنتفاضات مسلحة، وقد يستغني بها التطور عن أشكال العنف الثوري كلياً."(3)
إذن هناك حاجة ملحة للتطور السياسي ليتناسب مع حاجة الشعب من الناحية الإجتماعية والمعيشية أي الوضع المادي الإقتصادي وتحقيق العدالة الإجتماعية والتوازن بين الحقوق والواجبات.. الخ. فإذا كانت السلطة واعية لهذه القوانين وتسمح بالتقدم والتطور حسب ما تقتضيه المرحلة، يحصل هذا التقدم تدريجياً بدون هزة ثورية ودون الحاجة إلى عنف وسفك دماء.
أما إذا كان الحكام غير واعين بقوانين بالتطور وأنانيين ولا يعترفون بالحاجة إلى التغيير لمواكبة التطور والإستجابة لحاجة الشعب إلى التغيير، فتكون هذه السلطة رجعية ومحافظة تعمل وفق سياسة (إبقاء ما كان على ما كان) وتقمع أية محاولة لمواكبة التطور. ومع مرور الزمن تزداد الحاجة إلى التغيير ويحتدم الصراع بين قوى التجديد وقوى المحافظة (السلطة) فتضطر السلطة الرجعية ومن أجل بقائها في الحكم، إلى إستخدام سياسة العنف والإرهاب والقوة لقمع القوى المطالبة بالتغيير، إلى أن تتراكم الحاجة إلى التغيير مع الزمن أكثر فأكثر وتصل حداً تصبح الحياة غير ممكنة مع الوضع القديم، فينهار الجدار العائق أمام السيل العارم ويحصل الطوفان، الإنفجار الثوري والذي يحرق الأخضر واليابس، فتأتي سلطة تستجيب لحاجات التطور الإجتماعي ورغبات الشعب. إن القانون الفيزيائي المعروف: الضغط يولد الإنفجار، ولكل فعل رد فعل، ينطبق على جميع مجالات الحياة، الإجتماعية والسيياسية وغيرها.
التطور يفرض نفسه إما بصورة سلمية كما يحصل في الأنظمة الديمقراطية أو بالثورة المسلحة الدموية كما في الأنظمة المستبدة. ففي النظام الديمقراطي، توجد حكومة منتخبة من قبل الأغلبية من الشعب تحاول قدر المستطاع ان تستجيب لرغبات الناخبين.
لنفرض أن جاء حزب محافظ إلى السلطة ديمقراطياً. فهذه السلطة تحاول الحفاظ على ما هو موجود من قوانين محافظة على أوضاع إجتماعية معينة وفي مرحلة تاريخية معينة. وتكون هناك أحزاب معارضة تراقب السلطة وتحاسبها على كل شيء وتوجه لها النقد ضد الأخطاء. وبمرور الزمن تفرض الحياة أموراً جديدة تتطلب التغيير، لكن سلطة الحزب المحافظ ترفض التغيير، إلى أن يؤمن الأغلبية من الناخبين أن مصالحهم أصبحت مهددة بوجود سلطة المحافظين، وهناك ضرورة ملحة للتغيير بسبب التراكم الكمي، ففي الإنتخابات القادمة يأتي الناخبون بالحزب الذي يضع في بيانه الإنتخابي برنامجاً يستجيب لحاجة الناس إلى التغيير.
وهكذا تأتي السلطة الجديدة التقدمية بالمعنى العصري فتأتي بالقوانين الجديدة التي تتماشى مع متطلبات المرحلة وتبقى في الحكم وتستمر بخلق قوانين جديدة إلى أن تذهب بعيداً أكثر مما يطيقه الشعب، وعندئذٍ يأتي دور المحافظين لإيقاف التغيير وإعطاء الشعب وقتاً كافياً لهضم وإستيعاب ما هو موجود إلى أن يصبح الجديد قديماً في المستقبل ويتعداه الزمن وتستجد أمور أخرى وتشتد الحاجة للتغير فتعود الدورة من جديد ويأتي الحزب الذي مع التجديد إلى السلطة. وهكذا تنتقل السلطة بين الأحزاب المحافظة والمجددة بالتناوب بصورة سلمية حسب الحاجة للتغيير أو البقاء على الموجود، بدون سفك دماء عملاً بالقول: Ballet instead of bullet. أي قصاصة ورقة بدلاً من الرصاص. فالمجتمع في الأنظمة الديمقراطية يسير على رجلين، رجل تتحرك إلى الأمام ورجل ثابتة على الأرض للإستراحة!
وبناءاً على ما تقدم، فاللجوء إلى الثورة المسلحة في العراق، كان أمراً محتوماً وذلك لعدم سماح الحكم الملكي-السعيدي بإجراء التغييرات المطلوبة بالوسائل الديمقراطية السلمية. ومن هنا نعرف أيضاً إن ثورة 14 تموز كانت ثورة حتمية منسجمة مع قوانين حركة التاريخ ومن غير الممكن تجنبها في ظل الأوضاع السائدة آنذاك. والذي يقول إن الثورة قامت بها مجموعة من الضباط المغامرين بدوافع ذاتية بحتة، فإنما يدل على عدم فهمه لقوانين التطور. وهذا لا ينكر وجود بعض الضباط المغامرين ضمن تنظيمات الضباط الأحرار، بدوافع ذاتية في الحكم، ولكن نؤكد مرة أخرى أن هؤلاء لا يمكنهم تفجير ثورة ما لم تكن الظروف الموضعية مهيأة لها.
الدستور (القانون الأساسي)
نعم كان في العراق في العهد الملكي دستور مدوَّنْ يصلح لأرقى المجتمعات المتحضرة والدول العريقة في الديمقراطية. ولعل أروع ما كان فيه هو مادته السادسة التي نصت على ما يلي: "لا فرق بين العراقيين في الحقوق أمام القانون وإن اختلفوا في القومية والدين واللغةhellip;". وتنص المادة السابعة: "الحرية الشخصية مصونة لجميع سكان العراق من التعرض والتدخل، ولا يجوز القبض على أحدهم أو توقيفه أو معاقبته، أو إجباره على تبديل مسكنه أو تعرضه لقيود أو إجباره على الخدمة في القوات المسلحة إلا بمقتضى القانون. أما التعذيب ونفي العراقي إلى خارج المملكة العراقية فممنوع بتاتاً".
ولكن هذا الدستور من الناحية العملية كان مجمداً، وقد وضع على الرفوف العالية. فمن المعروف أن النخبة الحاكمة كانت تحكم البلاد بدستورين. دستور ديمقراطي مدون غير معمول به. ودستور مجحف غير مدون وهو القانون الفعلي الذي تسير عليه السلطة في حكم البلاد والعباد. وهذا الدستور غير المدون، فيه تمييز عرقي وطائفي وإلغاء المعارضة الديمقراطية وسحق حقوق الإنسان.
وقد قامت السلطة الملكية عام 1943 بتعديل الدستور الذي عزز من سلطات الملك خلافاً لقاعدة (مصون وغير مسؤول) التي كانت أساس الدستور الأول.
الإنتخابات البرلمانية
نعم كان النظام برلمانياً، ولكن بالاسم فقط، وذلك وسيلة لإخفاء الدكتاتورية في الواقع. وغالباً ما كان يفتضح أمره خاصة عندما يصل الوطنيون المعارضون إلى البرلمان عن طريق الانتخابات، فتبادر السلطة الملكية لحل البرلمان وإغلاق الصحف وفرض الأحكام العرفية ويتم تزييف الإنتخابات ليفوز أنصار السلطة بالتزكية. وقصة السيد عبد الكريم الأزري النائب والوزير في الحكومة الملكية باتت معروفة كما ذكرها هو في مذكراته. خلاصتها انه استلم مكالمة تلفونية في يوم من أيام تشرين الأول سنة 1943 من أحد أقربائه وهو السيد حسن الرفيعي قائلاً له: " أهنئك من صميم القلب، فسألته على ماذا تهنئني؟ فأجابني على فوزك في الإنتخابات النيابية!.. فقد ذكرت الإذاعة الصباحية اسمك بين الفائزين في الانتخابات النيابية عن لواء العمارة (محافظة ميسان حالياً). قلت له: هل تمزح؟ قال لا والله لا أمزح. وقد تبين فيما بعد أن ما أنبأني به السيد الرفيعي كان صحيحاً وإنني قد أنتخبت نائباً عن لواء العمارة وأنا لا أدري، فلم أراجع أحداً، لا من الناخبين ولا من المنتخبين الثانويين.. ولم أرشح نفسي... وهكذا نمت ليلتي وأصبحتُ في الصباح نائباً عن لواء العمارة".(4)
وهنا يقول الجواهري:
وبأن أروح ضحىً وزيراً مثلماأصبحتُ عن أمر بليل نائبا.
ويذكر عالم الاجتماع الدكتور علي الوردي في كتابه، خوارق اللا شعور، قصة مشابهة لحالة السيد الأزري فيقول: "روى لي أحد الثقاة قصة تكاد لا تصدق لو رويت في بلد غير هذا البلد. يقول الراوي: إنه سمع ذات يوم، في موسم من مواسم الانتخابات الغابرة، بأن برقية هبطت على متصرف اللواء من بغداد تأمره بانتخاب شخص معين. وقد ذهب هو وجماعة معه لتهنئة الشخص المحظوظ، فقبل الشخص منهم التهنئة. هذا مع العلم أن يوم الانتخابات الرسمي لم يكن قد حان وقته، وأن الاستعداد للانتخابات كان قائماً على قدم وساق كما يقولون.". ويعلق الوردي على ذلك قائلاً: "إن نائباً يُعيًن في مجلس النواب على هذه الصورة لا يشعر طبعاً بأنه ممثل الشعب، والشعب كذلك لا يشعر بأن في الحكومة من ينطق باسمه ويدافع عنه حقاً.. على هذا المنوال تتسع الثغرة بين الشعب والحكومة وينشق الضمير والأمر لله الواحد القهار(5)."
البرلمان
أما البرلمان فكان عبارة عن مهزلة. ولم يكمل البرلمان دوراته القانونية إلا مرة واحدة. ويكفي أن نقول أن نوري السعيد كان قد حلَّ البرلمان عام 1954، الذي تسنى له عقد إجتماع واحد فقط وبعد افتتاحه بخطاب العرش، صدرت الإرادة الملكية بتعطيل المجلس قبل أن يعقد أية جلسة أخرى، أو أن يتسع له المجال لتأليف اللجان الدائمة، فما كاد السيد نوري السعيد يؤلف وزارته الثانية عشرة في 3 آب 1954 حتى استصدر إرادة ملكية بحل هذا المجلس بالذات، فانتهت بذلك الدورة الإنتخابية الرابعة عشرة، وذلك بسبب فوز أحد عشر نائباً من المعارضة من مجموع مائة وواحد وثلاثين نائباً (6). أقول، ما هو تأثير أحد عشر نائباً معارضاً من مجموع 131 نائباً على قرارات السلطة الحاكمة؟ أليس هذا دليل على عدم تسامح السلطة الملكية مع المعارضة الديمقراطية حتى وإن كانت ضعيفة؟
أجل، ما أتعس حظ ذلك المجتمع الذي يقف حكامه ضد تطوره السلمي التدريجي، وما أسعده إذا قاد هؤلاء الحكام مجتمعاتهم بأنفسهم على طريق التطور السلمي وحافظوا على التوازن السليم بين التطور والمحافظة لتجنب الهزات الدموية العنيفة وعدم الاستقرار.
نتائج الاستهانة بالجماهير والديمقراطية:
إن سياسة استهتار واستهانة السلطات في العهد الملكي بالجماهير والديمقراطية والدستور وتزييف الانتخابات البرلمانية واضطهاد الأحزاب المعارضة وقمع المظاهرات وقتل السجناء السياسيين وبؤس قطاعات واسعة من الشعب، رغم ادعاء السلطة بالديمقراطية، هي التي جعلت الجماهير العراقية تفقد ثقتها بالدستور والبرلمان والديمقراطية ومؤسساتها، واليأس من الإصلاح السياسي بالوسائل السلمية لانتفائها. وهذه السياسة هي التي فتحت الباب أمام العسكر لدخولهم السياسة من أوسع أبوابها وجعلت قيادات الأحزاب الوطنية تفقد كل أمل في تحقيق الإصلاح السياسي بالوسائل السلمية ولم يبقى أمامها أي خيار آخر سوى فرضه بالقوة. وقد اضطر العديد من السياسيين الوطنيين المخلصين الذين لا يمكن الشك في نزاهتهم وإخلاصهم للوطن مثل الزعيمين الوطنيين جعفر أبو التمن وكامل الجادرجي وغيرهما إلى الاعتماد على العسكر واللجوء إلى القوة لفرض الإصلاح السياسي كما حصل في انقلاب بكر صدقي عام 1936. وتكررت المشكلة ذاتها عام 1941، ثم في الخمسينات عندما اضطهدت السلطة السعيدية القوى الوطنية وحلت البرلمان كما مر بنا.
إن المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية هي التي تشكل القوة الدافعة وراء الثورات، خاصة عند انتفاء الوسائل السلمية الديمقراطية لإحداث التغيير المطلوب. ولكن ومع الأسف الشديد، يرفض البعض الأخذ بهذا التحليل العلمي للثورات والهزات الاجتماعية تاركين المجال لعواطفهم ومخيلتهم في تفسير الأحداث الكبرى كثورة 14 تموز العراقية تفسيراً عاطفياً.
من كل ما تقدم، نفهم أن النظام الملكي هو الذي توقف عن التطور السلمي التدريجي وبعمله ذك قد بدأ يزرع بذور الثورة ضد نفسه، وبذلك أصبح تغييره بالعنف مبرراً وخاصة عند الإقتدار عليه. أما ما حصل فيما بعد، ومجيء نظام صدام حسين، فهذا ليس بالأمر الغريب في التاريخ.
هناك مقولة حول حركة التاريخ بهذا الخصوص تفيد أن النضال ضد الظلم يأخذ أشكالاً متعددة، فقد يكون على شكل حركات دينية، أو تصوف أو عصيان مسلح. فالناس يصنعون التاريخ عادة دون علمهم. وحتى حينما يعتقدون انهم يصنعونه بشكل واع مقصود، فإن التاريخ غالباً ما يكون في اتجاه آخر لم يخططوا له أو يحلموا به.
الهوامش:
1 - راجع د. عقيل الناصري، الجيش والسلطة في العراق الملكي 1920-1958، دار الحصاد-دمشق، ط1، سنة 2000.
2 -د.كمال مظهر أحمد، سعيد قزاز أمام محكمة التاريخ، صحيفة الإتحاد، العدد 402، الصادر يوم 22/12/2000.
3 -حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية-الإسلامية ج1، دار الفارابي-بيروت، ط6، سنة 1988، ص 837.
4 -عبدالكريم الأزري، تاريخ في ذكريات العراق، ج1، ط1، سنة 1982، ص 160.
5 -د.علي الوردي، خوارق اللاشعور، الوراق للنشر-لندن، ط2، سنة 1996، ص 227.
6 -عبدالرزاق الحسني، تاريخ الوزارات، ج9، منشورات مطبعة دار الكتب-بيروت، 1978، ص124-127،