العروبة لا يحتكرها أحد!!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
مسافات شاسعة بين العروبة التاريخية وبين القومية العربية (الحلقة الأولى)
خمسون عاما حلمنا..
وأفقنا في مزبلة!
نزار قباني
"العروبة" هي غير "القومية العربية"!!
يبدو ان القوميين في عالمنا العربي قد شعروا منذ زمن طويل ان ايديولوجية القومية العربية قد ضعفت جدا الى الدرجة التي باتت على قاب قوسين او ادنى من الانهيار بعد ان احتكرت قيم " العروبة " عقودا طويلة من السنين.. ولابد ان يدرك المرء بأن العروبة ليست حالة سيئة ولا ظاهرة قميئة.. بل هي هوية ثقافية قديمة جدا ومجموعة قيم يتصف بها ابناؤها وسلسلة اساليب حياة تتوارثها الاجيال كابرا عن كابر، وانها مجموعة من بقايا القيم والمواريث وهي سلاسل البنوة والابوة، وهي الانساب والارحام، وهي الاسماء والفولكلوريات، وهي اساليب الحياة المتوارثة بصالحها وطالحها وبكل سوالبها وايجابياتها.. وهي البيئة والصحراء والشعر واللغة.. وهي التي عّبر من خلالها اصحابها في قلب العالم القديم، وهي كل النسق الفكري والاجتماعي والثقافي لتراث حضاري بكل حقوله والوانه وعناصره وتاريخه. اما القومية العربية، فهي ظاهرة ايديولوجية حديثة تطورت عن " فكرة " سياسية لا يزيد عمرها على قرن واحد عربيا، وتبلورت متأّثرة بالفكرة القومية التي نضجت خلال قرنين من الزمن اوربيا.. ولقد وجدت القومية العربية لها عناصرها في ظروف دولية معقدة، وتبلورت نفسها في ظروف تاريخية صعبة وتأثر اصحابها بالنزعات القومية الاخرى القريبة والبعيدة وبالاخص الاوربية..
ومن ابرز مشاكل القومية العربية انها احتكرت " العروبة " منذ نشأتها وكانت ولم تزل تتحدث باسمها في واحد من اخطر جوانبها المخفية عن الوعي والتفكير.. اما خطاياها الاخرى فحدّث عنها ولا حرج ومنها اوهامها التي تعتبرها حقائق اساسية ومنها غلوها وتعصّبها وتشدّدها ضد كل من لم يؤمن بها مهما بلغت درجة عروبته من العنفوان، مما افقد القومية العربية مصداقيتها حتى عند العرب انفسهم! هذا هو الفرق الحقيقي بين مفهومين اثنين لدى العرب المحدثين ومن يشاركهم حياتهم، وهم الذين لم يعلموا حتى الان ان العروبة نفسها قد استلبت وان حركة القومية العربية هي التي جردّتها من كل المعاني بعد ان استغلت اسمها استغلالا خاطئا. انني هنا في معرض تقييم تاريخي ولا يمكنني ان انتقد " الظاهرة " التاريخية من دون ان اذكر ايجابياتها وخصوصا على ايدي بعض رجالاتها المخلصين الذين تمّيزوا بوطنيتهم الحقيقية ونضالاتهم التاريخية. انني لا اقصد هؤلاء امثال : عبد الكريم الخليل وعبد الغني العريسي وانطون سعادة وشكري القوتلي واكرم الحوراني وقسطنطين زريق وهاني الهندي وجورج حبش ومنح الصلح وغيرهم من الذين كانت لهم نظافتهم السياسية ومكانتهم القديرة.
قوميون لا يجددّون انفسهم ابدا!
واليوم، لم تنفع النداءات العقلانية التي صدرت من هنا او هناك وخلال السنوات الماضية مطالبة العرب من القوميين ان يجددوا مضامين خطابهم ويراجعوا مواقفهم ويعترفوا بالاخطاء التي جناها بعضهم بحق العرب وتاريخهم.. ولكن بدل ان يعترفوا بكل الاخطاء، وبدل ان يدركوا اين اصبحوا من عجلة الزمن، وبدل ان يبعثوا الحياة في مواقفهم، راحوا يعزفون على الشعارات الجديدة الرنانة، والتي يشتركون اليوم فيها مع بعض التيارات الاسلامية، بل ويدخلون مع تلك التيارات في مؤتمرات وتحالفات بعد ان كان كل من الطرفين على صراع فكري وسياسي وصل الى حد الدم! وبدل ان تتوحدّ كل فصائل القوميين بمختلف احزابهم وجماعاتهم في تيار منسجم يعيد تجديد الحياة لنفسه، راح القوميون يزدادون بعثرة وتشنجا وتشددا وهم يغالون في العزف على الشعارات القديمة التي كانوا يرددونها ليل نهار.. وبقوا كلهم يحتكرون مبادئ العروبة التاريخية لأنفسهم باسم القومية العربية.. اقول هذا وابسطه للناس، اذ اتمنى على القراء الكرام جميعا ان يتساءلوا معي : اليس كل عربي يحمل نزعة العروبة؟ ولكن هل كل عربي يحمل فكرة القومية؟ اذا كان القوميون قد احتكروا العروبة لأنفسهم، فهل غيرهم من العرب الليبراليين أو الماركسيين أو الاسلاميين ليست لهم عروبتهم؟ فالقومية ـ هنا ـ تيار سياسي فقط، ولا يمكنها ان تحتكر العروبة كلها، وسواء كانت العروبة على صواب ام خطأ، فان الوهم لابد ان نرفعه من عقول الناس وخصوصا من اذهان المثقفين وكل الكّتاب والاعلاميين والمفكرين.. اذ لابد ان يدرك الجميع بأن عروبتنا لا علاقة لها بالقومية العربية مع احترامنا للظاهرة القومية وما قدمته لتاريخ البشرية.
من ينتقدهم من العرب.. يصبح اما خائنا او عميلا!!
وكل عربي يؤمن بالعروبة التاريخية وحياة المجتمع العربي وبالتمدن وبالاخلاقيات العربية وبالثقافة العربية والتاريخ العربي يصبح عدوا لدودا لهم ما دام ينتقد الفكرة القومية العربية سياسيا وايديولوجيا.. هذه المعادلة الصعبة الاخرى التي لم يدركها الملايين من العرب وغير العرب حتى اليوم، فما دام هناك من ينتقد ايديولوجية القومية العربية وينتقد آراء او مواقف القوميين بمختلف فصائلهم يغدو في عرفهم عميلا للاستعمار او خائنا للامة العربية او خارجا على المبادئ! علما بأن احتكار العروبة من قبل القوميين لخمسين سنة مضت قد ولدّت في المشاعر العربية غيظا وملئت القلوب قيحا، وانتجت كراهية عمياء من قبل العرب انفسهم للعروبة نفسها ـ مع الاسف ـ، بل وجعلت المسلمين من غير العرب خصوما ألّداء لكل العرب وللعروبة نفسها ناهيكم عن هروب كل المستنيرين العلمانيين والليبراليين والتقدميين والماركسيين العرب انفسهم ليس من القومية العربية التي ناصبتهم العداء ونوصبوا الخصام، بل باتوا يكرهون اليوم العروبة، والعروبة الحقيقية براء من الفكرة القومية.. لقد بلغت حدة الاحتدام بين القوميين والتيارات الاخرى اوج قوتها في كل من العراق وسوريا.. وبات العراقيون اليوم بشكل عام يناصبون القومية العربية والفكر القومي كل العداء، بل ولم يفلح الساسة القوميون في العراق اليوم ان يلّموا من حولهم الا نفر قليل لم يزل يؤمن بالمبادئ القومية! وفي لقاء قريب قبل ايام مع واحد من ابرز القادة القوميين العراقيين طالبني الرجل ان ادعو الى تجديد الخطاب القومي العربي، وبالاخص العراقي منه لنفرة العراقيين منه ومنهم.
ان العروبة التاريخية التي توارثتها الاجيال عبر الاف السنين هي ليست مجموعة احزاب قومية كالتي عرفناها على الساحة استلت افكارها ونصوص بيانتها وبنود انظمتها الداخلية ومسرد خطابها من القوميات الاوربية! لقد تربينا ونشئنا وكبرنا على اناشيد القومية العربية وشعارات القومية العربية واحزاب القومية العربية وبيانات انقلابات القومية العربية وخطابات رائد القومية العربية.. وفجأة ينتهي ذلك المد الطاغي ليأتي اليوم اصحابه ومنهم : مفكرون وادباء وساسة ومثقفون ومهنيون.. ليقول احدهم وهو صديق لبناني اعتز به وبجهود والده القومية في العراق منذ فترة ما بين الحربين العظميين مطالبا بـ " العروبة الجديدة "! ولم اقرأ في مقالة هذا الصديق كلمة واحدة عن " القومية العربية " التي وصل الحد في ايام عزّها ان يقتل المرء من قبل القوميين ان انتقد ليس فكرتها، بل بعض ممارسات بشعة قام بها جنودها ومناضلوها في العراق او سوريا!! لقد بات القوميون اليوم ـ كما يظهر ـ يهربون من استخدام القومية العربية او القوميين او الجماعات القومية.. كي يتسّموا بالعروبيين وانهم يطالبون بـ " العروبة الجديدة "، وكأن قوميتهم العربية قد اصبحت عتيقة مكسّرة لا تقوى على الحياة.. وان العروبة ليست الا لهم.. وكل من لم يؤمن بفكرهم السياسي وبايديولجيتهم القومية ليس عروبيا!
فاقد الشيئ لا يعطيه!
استطيع القول ان القوميين اليوم قد فقدوا رصيدهم عند الجماهير بعد ان اخفقوا في تجديد مواقفهم وخطابهم وافكارهم.. لقد توقفوا منذ زمن بعيد عن شعاراتهم المقدّسة في الحرية والوحدة والاشتراكية.. ولم نعد نسمعها ابدا، بعد ان كانت مبادئ ثالوث مقدس عندهم.. صحيح ان من حق الأمم أن تعيد النظر في افكارها ومبادئها بين حقبة وأخرى، ولكن العرب من القوميين قد اخفقوا حتى يومنا هذا في رسم معالم تراجعهم المخيف. لقد كان الفكر القومي العربي قد وضع نهايته بيده عندما اساء اساءات تاريخية بالغة في تطبيقات اغلب احزابه.. ويكفي ان نقرأ ما كتبه ساطع الحصري نفسه الذي يعد احد ابرز اعمدة ذلك الفكر وفي كتابه عن " الاقليمية.. " لنرى حجم الانتقادات العاصفة التي قالها الحصري وهو ابرز مفكر قومي عربي ضد سياسات البعثيين وفكرهم، وكلنا يعلم بأن الحصري يعّد من رواد الفكر القومي وهو الذي مزج في الحقيقة بين العروبة والقومية ظلما وعدوانا.. والفرق الاساسي بين الحصري واغلب التيارات والاحزاب القومية العربية انه عندما كان يكتب..
وبالرغم من سذاجة بعض كتابات الحصري، الا انه كان ينطلق من التاريخ وكان يعرف ماذا يقول.. في حين ان كل مؤسسي الاحزاب القومية العربية لم يدرسوا التاريخ ولم يتعلموا منه شيئا خصوصا عندما يتكلمون عن الوحدة العربية والوعي بها من دون أي سابق معرفة بخصوصيات البلدان العربية والتباينات السكانية والثقافية والاجتماعية التي تميزّت بها منذ القدم، او تلك التي خلقتها العصور المتأخرة! بل ونشروا مجموعة مصطلحات كاذبة اصبحت متداولة في الوعي الجمعي بين السكان ومنها : " من الخليج الثائر الى المحيط الهادر " ومصطلح " الامة العربية " التي لا حقيقة رسمية لها عبر التاريخ، بالرغم من امتدادها الاجتماعي! ومصطلح " الوحدة الاندماجية ".. الخ وهذا ينسحب ايضا على الاكذوبة القائلة بأن الاستعمار قد ضرب دولة الخلافة الاسلامية عند آل عثمان، علما بأن الدولة العثمانية عاشت 643 سنة دولة سلطنة ولم تكن في يوم من الايام دولة خلافة اسلامية!! ربما سّمى السلطان عبد الحميد الثاني نفسه بالخليفة العثماني، ولكن نظام دولته كان نظاما سلطانيا!
القوميون لا يعرفون تاريخ العرب
أن التاريخ في الحقيقة قد أفرز عبر سيرورته الصعبة جملة هائلة من التحديات، وان مجتمعات عربية قد كانت لها القدرة على البقاء، والوقوف ازاء ثنائية التحدي والاستجابة التي لم يدركها الزعماء واغلب السياسيين واغلب المثقفين.. فمن عاش في القرن العشرين لم يدرك ابدا كلا من جانبين اساسيين اثنين لابد من معرفتهما :
1/ طبيعة التمّيز بين نزعة العروبة الاجتماعية من جانب وبين القومية العربية من جانب آخر! وهذا ما تفرزه لنا من خلال المقارنة : الانظمة السياسية القومية كالتي عرفناها في العراق وسوريا ومصر ازاء الانظمة السياسية العروبية كالتي عرفناها في المغرب وعمان والامارات.. الخ
2/ ان اغلب المنّظرين وكبار القوميين من رجال السلطة او الاحزاب لم يدركوا حقائق الادارات والعلاقات التي سادت بين الاقاليم العربية في القرن التاسع عشر! ولم يتعرفوا على خصوصيات الاقاليم (= البلاد العربية)، فجعلوها حزمة واحدة في تحقيق ما سعوا اليه من اهداف في الوحدة والحرية والاشتراكية! (وان اول الاشارات النقدية التي نشرتها منبها الى هذا الخلل كان في كتابي الموسوم : " العثمانيون وتكوين العرب الحديث : من أجل بحث رؤيوي معاصر "، ط1 (بيروت : مؤسسة الابحاث العربية، 1989).
لقد تشّبث القوميون بالتعابير الرومانسية والاحلام والشعارات التي لا يمكن تحقيقها ابدا، فكانوا مخياليين جدا في مواقفهم وانشائيين في خطابهم ومتوهمين مضللين في ممارساتهم التي وصلت على ايدي بعض احزابهم الى درجة الشوفينية القاتلة في بلدان حكمتها احزاب قومية راديكالية قصمت ظهر من ناوءها او اعترض عليها.. او حتى من حاول ان يبرز لها الخطأ من الصواب.
لا تجديد في الفكر القومي العربي ان لم يعترف باخطائه!
ان مشكلة القوميين اليوم والتي ادركها جيدا كوني تعاملت معهم فكريا على مدى عشرين سنة، وشاركت في العديد من مؤتمراتهم وملتقياتهم وندواتهم وخصوصا مع مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت والذي انقطعت علاقتي به منذ العام 2000 لأسباب سياسية وفكرية محضة، ولكنني لم ازل احتفظ بصداقاتي مع ابرز رموزهم بعد ان خاصمني العديد منهم اثر اصداري كتابي " تفكيك هيكل "، اذ وجدتهم لا يعترفون ابدا باخطائهم التاريخية وانهم لم يجددّوا انفسهم ابدا، وانهم لا يقبلون أي احد يخالفهم الرأي وانهم كانوا وراء نفرة القوميات والاقليات غير العربية ليس منهم بالذات فقط، بل من العرب والعروبة بشكل عام.. وانهم لا يعترفون بواقع المجتمع ولا بحقائق التاريخ.. اذ انهم دوما ما يقحمون مسألة " الوحدة العربية " وهي احد الاهداف السامية التي نادى بها كل العرب، وحمل مشعلها القوميون ولكنها بقيت لديهم فكرة مخيالية سياسية لا يمكن تطبيقها بالاساليب التي طرحوها على الناس في القرن العشرين! التي برغم ايماننا بها، الا ان الاسلوب الذي طرحت من خلاله، بل ولحقت بذلك تطبيقات فاشلة قد سبّبت في المجتمع العربي فقدانا لحلم نهضوي طالما حمله وحلم به كل العرب! سألت احد ابرز القادة القوميين عندما يقيم في العاصمة الاردنية عندما التقيته مساء يوم 7/11/ 1996 : كيف ستحكم البلاد العربية وبأي نظام ان حققتم الوحدة العربية؟ قال : من خلال قيادتين قومية وقطرية. قلت له : وهل سيكون ذلك من دون انتخابات واستفتاءات لأخذ رأي الناس في هكذا نظام؟ قال متسائلا : أتعتقد ان الاحزاب القومية قاطبة تؤمن بالديمقراطية! ربما تأتي بواسطتها الى الحكم ولكنها تبقى محتكرة للسلطة.. قلت له : ولماذا اوهمتم الملايين بالحرية كواحد من المبادىء وكواحد من الاهداف معا؟ لقد زاغ بصره قليلا والتفت الاستاذ اكرم الحوراني الي يقول : ان تجارب القومية العربية مستلة نفسها من تجربة الحزب الوطني الاشتراكي في المانيا النازية! وارجو ان تسجّل هذا لي.. فتجاربنا القومية العربية في الاربعينيات قد تأثّرت بتجربة المانيا! (انظر تفاصيل لقائي مع الاستاذ الراحل اكرم الحوراني في كتابي : نسوة ورجال : ذكريات شاهد الرؤية الذي نشر على حلقات وسيجمع منشورا في كتاب من مجلدين قريبا).
بل وان القوميين العرب الذين احتكروا العروبة لأنفسهم فقط، اعتمدوا مرجعيات متنوعة باستلاب المفاهيم التي حملوها، فقالوا بالحريات اذ كانت (الحرية) واحدا من اهدافهم التي لم يحققوها ايضا، بل ولم اجد انهم منحوا لأنفسهم ولاحزابهم اية حريّات.. اذ نجد تجارب مأساوية بين كل الذين حملوا الفكر القومي، فلقد كانت هناك حروبا باردة وساخنة بين الاستقلاليين والوطنيين وبين القوميين الليبراليين وبين القوميين الراديكاليين وبين القوميين القدماء وبين العسكريين الانقلابيين وبين البعثيين والحركيين وبين الناصرين والبعثيين وبين القوميين السوريين وبين البعثيين والناصريين وبين البعثيين والبعثيين.. الخ ولنا ان نتأمل تاريخيا ما حجم وما عدد الانشقاقات السياسية والايديولوجية التي حدثت ليس بين التيارات القومية كلها، بل بين الاحزاب القومية!
انتظر الحلقة الثانية