الإنسان العربي بين الرقم والرأي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
وبين "شيت" بوش و"صراصير" الحاخام
تعود بي الذاكرة لسنوات خلت، نفى فيها المسؤول الأمريكي أيَّة قيمة للإنسان العربي ولا سيَّما فيما يُطلق عليه في المفهوم الغربي "الرأي العام" الذي من المفترض أن يكون معيار السياسة التي ينتهجها الرئيس لتعكس سياسة البلد التي بدورها تلبِّي رغبات الشعب وحاجاته. لم تعد بي الذاكرة لمجرَّد التذكار ومعرفة ما إذا أصبحنا ذا قيمة الآن في نظر مَن يقرِّر مستقبل البشر على كوكبنا الأرضي، ولكن بعد أن استمعت لما يدور في خَلَدِ الرئيس بوش، وصديقه "يو بلير" كما يحلو للرئيس الأمريكي منادته، أدركت أنَّنا ما نزال حيث كنَّا، مع فارق بسيط، سأعود إليه.
عندما يفكِّر أحدنا بصوت مسموع، كما يقول الكنديُّون والأمريكان، فإنَّه يفصح بذلك عمَّا يؤمن به، ويودُّ لو استطاع تحقيقه. وعندما فكَّر بوش بصوت مسموع، لم يكن يعلم بأنَّه سيسمع العالم ما يقول. وعندما أدرك أنَّنا سمعنا ما قال، دارت عيناه في محجريهما، وافترَّت شفتاه عن ابتسامة سخرية وهزء، وهزَّ كتفيه لا مبالايًا بما قال ولا بمن فيه قال. ولأنَّ الشئ بالشئ يذكر لا ضير في العودة مع الذاكرة.
عندما اكتشف أجدادنا العرب "الصفر" قليلاً ما علموا بأنَّ أحفادهم أو معظمهم سيتحوَّلون إلى أصفار ينعدم معها العدد بدلاً من أن تعطى له قيمة. وانعدام قيمة إنساننا ليست آتية من الخارج، بل من أنفسنا، وهذا شرُّ بليَّة يمكن أن يُصاب بها مخلوق. ومع الزمن اعتدنا انعدام قيمتنا وألفناها، وأصبحت من تراثنا، بل جزءًا محبَّبًا من شخصِّيتنا. لذلك لم نتحرَّج أو نتبرَّم إذا ما عامَلَنا حاكمنا بما نتوقَّعه منه وبما ينتظره منَّا. ولأنَّ الصفر عددٌ، نصبح على كلِّ شفة ولسانٍ أثناء الانتخابات الرئاسيَّة. فهذا الإنسان العربي الرقم ينتخب رئيسه بـِ 99 فاصلة 9، وأحيانًا يتواضع الرئيس ويعلن أنَّه فاز بـ 86 فاصله 96.
في الانتخابات فقط، تصبح لنا "قيمة" ويعتدُّ الحاكم بنا كأرقام، ولكن سرعان ما نعود لأحجامنا الطبيعيَّة، أي "صفر حافظ منزلة". لو بقي الأمر محصورًا بنا، ولم "ننشر غسلينا القذر" على مرأى من العالم لرضينا بقسمتنا. ولكن أن يصبح الإنسان العربي في نظر الآخرين ودعاة حقوق الإنسان لا قيمة له، فتلك ثالثة الأثافي!
المسؤولون الأمريكان الوسطاء في عمليَّة السلام بين العرب والإسرائيليِّين صرَّحوا بأنَّهم لا يستطيعون الضغط على إسرائيل لأنَّ فيها رأي عام يجب أخذه بالحسبان، بينما لا يوجد في البلاد العربيَّة رأي عام، ولذا لا حساب لنا. وهكذا شُطبنا من قائمة البشر الذين يملكون رأي، ويمكن أن يُحسب لهم حساب، وتحوَّلنا إلى أصفار تنعدم معها القيمة لينوب عنَّا الحاكم في تقرير ما يراه صالحًا لنا أو غير ذلك. لمَّا تنبَّه الأمريكي لفداحة تصريحه، وربَّما لوقاحته، تراجع عمَّا نُسب إليه. ولكن بعد "خراب مالطا، عفوًا أثناء خراب بيروت".
الذنب في فقدان الإنسان قيمته واحترامه لنفسه غالبًا ما يكون هو مصدره. وتعود بي الذاكرة إلى كتاب قرأته لخالد محمَّد خالد على ما أعتقد: "مواطنون لا رعايا"، أدركت أنَّ على الإنسان العربي إذا ما أراد أن يتحوَّل من رقم إلى رأي أن يبادر إلى إقناع نفسه بضرورة ذلك، ثمَّ إسماع رأيه بكلِّ وسيلة حضاريَّة مشروعة إلى الحاكم. ومهما طال الأمد وعناد "أولي الأمر" فإنَّهم لن يجدوا مفرًّا من أن ينصاعوا لنداء العقل والمنطق. فخيرٌ ألف مرَّة لحاكمٍ يعتدُّ برأي مواطنيه، من حاكم لا يرى في رعاياه إلاَّ أصفارًا تتحوَّل إلى أرقام في الانتخابات الرئاسيَّة. ولأنَّ الرعايا أصفارٌ، تنعدم شرعيَّة الحاكم.
التصريح الأمريكي، ومع التراجع عنه، لو قيل في شعبٍ غير عربي لقامت الدنيا على رأسه ولم تقعد. فهل نحن شعب ألف التدجين، وسلَّمنا مصيرنا لمشيئة الآخرين يفعلون بنا كما يحلو لهم. نحن نسأل لأنَّنا لا نمتلك الجواب، ولكن سنظل نبحث عنه. هل سيأتي من جنوب لبنان! أم أنَّنا في أضغاث أحلام!
ولأنَّ الحالكم العربي لم يضره ما قال عن شعبه المسؤول الأمريكي، عاد هذه المرَّة الرئيس بوش ليفصح عمَّا يؤمن وبه ويودُّ تحقيقه. وطالما أنَّ الجرح في الميِّت لا يؤلم، ونحن العرب في عرف الغرب أموات، فلا بأس في أن يشمل الجرح الحاكم العربي أيضًا. فبين مزاح الصديقين الحميمين بوش وبلير، وتبادل النكات والهدايا، ومرور الكرام على الجريمة الإسرائيليَّة في لبنان كحديث عابر على مائدة الطعام، أفصح بوش عمًَّا في صدره تجاه الحاكم العربي، وإن كان قد خصَّ به الرئيس بشَّار الأسد في ختام لقاء الثمانية الكبار في بطرسبيرغ الروسيَّة. الرئيس السوري "بشاد" كما يشير إليه بوش في أحاديثه. وليس بالغريب أن يكون لكلِّ رئيس عربيٍّ اسم مميَّز عند بوش ينمُّ عن احتقاره لهم واستخفافه بمكانتهم. وها هو يخبر "يو بلير" بأنَّ من المفارقة أنَّ عليهما اللجوء لسورية (بشاد) لتنظيف "شيت" حزب الله في لبنان. جميل من بوش أنَّه لم يستعمل كلمة "روث"، بل المرادف لها في البشر، وإلاَّ لتأكَّدنا أنَّنا حقًّا "حيوانات" ناطقة لا نستحقُّ الحياة في نظره.
ولِمَ العجب! ألم ينعت كبير حاخامات إسرائيل العرب بأنَّهم "صراصير"! وسكتنا، وسكت الغرب معنا. ألم يجب وزير إسرائيل كبير عن سؤال في إمكانيَّة السلام مع العرب قائلاً بما معناه، تصوَّروا وجود عرب الخليج على شواطئنا! قالها مشمئزًّا، وكأنَّنا وباء.
الفارق البسيط، هو أنَّنا أصبحنا سواسية مع حكَّامنا، بالإمس كنَّا بلا قيمة، والحاكم هو المرجع، والآن أصبح مثلنا لا قيمة له، وبوش هو المرجع. فبين الرقم والرأي، فقد الإنسان العربي ذاته لدى حاكمه. وبين "شيت" بوش، و "صرصار" الحاخام، أدرك الحاكم العربي قيمته لدى سيَّده. والفرق البسيط كذلك أنَّ الإنسان العربي بدأ يعي ذاته وبأنَّه حقًّا رقم لا صفر. وهذا الرقم أكبر ممَّا يتوهَّم الحاكم والرئيس بوش.
كاتب المقال رئيس المركز العربي الكندي للثقافة والإعلام - أوتاوا/ عضو مجلس إدارة نادي الصحافة الوطني الكندي/ ورئيس لجنة الارتباط بالهيئات الدبلوماسيَّة - أوتاوا.