الخرائب.. تجعلنا اقرب الى الله
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
هناك، في عمق البحر، لا يجد الانسان ، الذي يواجه مصيره وحيدا على ظهر سفينة يتـقاذفها الموج والرياح، من ملاذ سوى ان يسلم امره الى الله الواحد الذي يرث الارض ومن عليها ويرث كذلك البحر ومن فيه. وعلى سرير المرض حيث يتـناهشه الضعف ويتربص به الموت من كل جانب، فلا يسعه غير ان يرفع عينيه مستسلما- ليس الى سقف الغرفة الابيض بلون المحو- بل الى ذلك الذي وحده من يملك الشفاء، كذلك يستسلم معه الاطباء، على امل ان يتـكـفل الباري بمهمة الاشفاء التي عجزوا عنها.
وفي أتون الحرب حيث يهبط الموت كالمطر من السماء ويتركنا محاصرين بالاشلاء البشرية وانقاض البنايات، وموسيقى القذائف، نرمي بامتعتـنا ونهرع اليه حفاة عراة لا نحلم باكثر من انفاس تصعد وتنزل الى الصدر وغالبا ما ندخرها للتسبـيح والتمجـيد لذلك الكريم الذي اطال في عمر انفاسنا ولم يجعلنا هشيما كالذين من حولنا.
يدرك هذه الحقيقة، التي هي بعض الغريزة البشرية، كل انسان وتدركها على نحو اكثر جدية جميع الحركات الاسلامية التي تحرص على توظيفها واستثمارها بشكل دموي لامثيل له، اللهم الا لدى مثيلاتها من الحركات" العقائدية" التي ترى وتؤمن ايمان العجائز ان العقيدة او الافكار التي هي نـتاج بشري اعلى قيمة من الانسان ذاته، بل على الاخير ان يهدر دمه من اجل افكاره - عـقائـده التي هي نتاجه هو في نهاية الامر.
نجد تجسدات هذه الحقيقة واضحة بمقارنة بسيطة بين المجتمعات التي تزدهر فيها الحياة وتلك التي يزدهر فيها الموت. ففي مجتمعات الحياة واالمدنية، ينحسر " التدين" في الفئات التي تـقترب من ساحل االقبر، كبار السن عادة او ذوي الاعاقات المستديمة، الذين يجدون في ارتياد اماكن العبادة متـنفسا للعزلة وا لفراغ وتبادل الذكريات وتعزية بعضهم بعضا على بهاء ما مضى ووحشة القادم الذي يجهلون. اما فئات الشبيبة المشغوفة باعجوبة اسمها الحياة، فهي مشغولة باللحاق بمركبة العيش التي يتسارع ايقاعها بمقاسات فلكية. اما مجتمعات الموت والخرائب حيث يشيع الخوف والهلع واللاامان فقد استرخت الى شيخوخة مبكرة وتخلت عن حياتها، التي لا تعرف كيف تمسك بها، الى بديل مريح - ما بعد الحياة.
خذ العراق مثالا حيث تحول المجتمع، في عقود البعث الثلاثة العجاف من مجتمع مدني تسوده الافكار المتـنورة ذات الطبيعة الانسانية المحتـفلة بالحياة الى مجتمع قروسطي تـشيع فيه سلطة الخرا فة و الشعودة واحكام "الخيرة" وعبادة المسابح والخرز والطلسمات وطقوس التطبير وكل ماله علاقة بالسحر والخرافة والجن وكل ما يلعن " ام دفر" وغرورها ومغرياتها وحبائلها الشيطانية.
مرحلة التحول ذاتها او القفزة الى هاوية الظلام، تجدها في المجتمع الافغاني بعد ان شهد من الموت والحروب ما يجعله يتنازل عن مدنيته لصالح ايمان قويم مفاده ان الحياة لا تعادل" شروى نقير" وليس من احد تغرّه فتـنتها المخادعة الا اولئك الذين باعوا انفسهم بثمن بخس. كذلك يصلح المجتمع الفلسطينيـي كمثال آخر منذ نكبة ام الثمانية والاربعين ونكسة حزيران ووثبة ايلول المجيد، حيث لم يمهل " المقاومون" المجتمع المدني من ان يمارس دوره في بناء الحياة ، ولم يتمكن جيل النكبة من ان يكتشف قدرته وامكاناته على صناعتها لانه لم ير حياة بل محض موت ودمار، فلم يتردد في ان يختار "سلطة " تمتلك خبرة عريضة بادارة الازمات والتعامل مع الموت لانه ليس من وجود لما سواه.
لذلك يبدو مفهوما وواضحا التـكتيك التي اتبعته حماس في عمليتها "الذكية" بخطف الجندي الاسرائيلي جلعاد، حيث ادخلها في حالة حرب تمنحها رصيدا باذخا لصناعة التوابيت ولافتات العزاء واراجيز الحرب والمسيرات لجمهور لا يتهيء له تـفريغ شحناته العاطفية والعضلية الا بالهتافات ،لانه وللاسف لا يتيسر لديه سواها، ويمنحها ايضا فرصة جليلة للتملص من استحقاقات صناعة الحياة كسلطة لمجتمع مدني، الشيئ الاول من ضمن اشياء كثيرة لاتجيدها" دولة الحماسة" لانها اصلا ليست واردة في قاموسها الفني المخضب بحمرة الشفق الاليم.
كذلك يصدق الامر مع شقيقها حزب الله، فقد مضى وقت طويل على انسحاب اسرائيل من الجنوب، وادرك الملل رفاق السلاح، وبدأتْ تخفت حماسة الجماهير وابتهاجها بالنصر وبدت باهتة ترانيم السيد دون ان تصاحبها انغام الكاتيوشا التي بدأ يعلوها الصدأ هي الاخرى من كثرة الملل والانتظار. فكان لا بد من "نهضة عروبية" توقظ النفوس النائمة وتعيد للموت بريقه ولمعانه حتى لو كان خرقا واضحا لشروط الانسحاب الاسرائيلي الذي تم تحت راية الامم المتحدة وبمباركة دولية شاملة. كان لا بد من عبور الخط الازرق واختطاف الجنديين الاسرائيليين كي تعود الاحوال الى ماقبل التحرير ويحظى الرفاق بفرصة لذيذة لاعادة المجد، مجد القتال وايجاد فرص عمل للفضائيات العربية ولشعراء الاهازيج والقوالات. واذا خربتْ البلاد وتعطل العمران، فهذا اول الغيث، فابشر بقوافل مباركة من المجاهدين الذين قتلتْ اسرائيل اب احدهم او امه او اخاه او احد الاعزاء لديه او لانه رأى اسرائيل وهي تهدم بيته او مصنعه ، مصدر رزقه الوحيد.
انها كاريزما الموت ذي الوجه الاحمر المسوّد بغبرة االبارود، والذي يجعلنا اقرب الى الله ، ويصعد بنا مع كل روح تـزهق الى عنان السماء كما يتصاعد دخان الحرب وهو يسبح بامر الله الواحد القدير.
لا نريد بالطبع ان يفسر احد ما هذا الكلام على انه تبرئه لاسرائيل على جرائم قصفها للبنان او للفلسطينيين، فهي جرائم علنية وصريحة ولا اظن ان اي انسان صاحب ضمير يسكت عنها، ولكننا اردنا فقط ان نشير الى نهج او اسلوب تمارسه الحركات " المؤمنة" بحق مواطنيها، وكيف انها تمنح اسرائيل ذريعة للعدوان، وللتوسع جغرافيا، لحساباتها العسكرية المستقبلية، حيث تضيق بها مساحتها المحدودة وهي محاصرة بالاعداء من كل الجهات، الامر الذي لا يتحقق لها الا في ظروف الحرب التي يجوز فيها مالا يجوز فيي الحب.
ربما اردنا من القول ايضا ان يكون "عتابا" على بعض ٍ ممن هم من جلدتـنا على الكوارث التي يتكرمون بها علينا. اما اسرائيل فهي عدو بـيـّن، ولا يمكن لعاقل ان ينـتـظرمن عدوه سوى العداء.
وليس في وارد القول ايضا ان نشكك في النوايا والغايات ، ولكن على افتراض ان الوقت وقت حرب ومواجهة وحقوق وارض مستـلبة ، فاننا نريد حربا تكون البندقية آخر منافذها، لان صوتها يغمر كل صوت آخر يملك ا لقدر ذاته من الحق في المواجهة. ولانها، من جهة اكثر هدوءا وتأملا، تسليم للموت واقرار بالهلاك واليأس حيث انه يمنح العدو، الذي يملك بنادق اكثر، مشروعية ان يسرح بوحشيته كلها، والتي يعلمنا التاريخ انها لم تورثـنا الا مزيدا من الخسائر والهزائم المحرجة ان لم نـقل المذلة تهاودا. يقول" سول الينسكي" الناشط المعروف في المقاومة السلمية" ان القول بان العدو على مرمى بنادقنا هو قول اخرق طالما كان العدو يملك البنادق كلها" . فضلا عن ان البندقية، وهذا" للمجاهد المؤمن تحديدا" ، هي ابتداع غربي تـنضح منها رائحة الكفر، ولا يليق بمؤمن ولا مؤمنة ان يضع يده او تضع يدها عليها.
اللهم امنحنا حياة هانئة وان ْ باعدتــْـنا عنكَ، لا خرائبَ، وانْ قربتــْـنا اليك.