كتَّاب إيلاف

السيستاني: لقد ملأتم قلبي حزنا وألما

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

قبل يومين نشرت بعض وكالات الأنباء الشيعية في العراق، وفي مواقعها على شبكة الأنترنيت أن وفدا من أهالي بغداد زار المرجع الشيعي الأعلى سماحة السيد علي السيستاني. وذكرت أن الوفد شرح لسماحته "المعاناة التي يتعرضون لها من هجمات الإرهابيين من تكفيريين وصداميين". وذكرت هذه الوكالات أن الوفد عبر لسماحته "عن استعدادهم لوضع حد لهذا الإرهاب وأنهم رهن أشارة المرجعية في النجف الأشراف". فماذا كان رد السيستاني ؟ كان رده كالتالي: "إن كل واحد من المؤمنين الصابرين أفضل من خمسة من أمثالي".

بدون شك، أن الوفد كان يمثل الشيعة في بغداد، وليس غيرهم من مكونات الشعب العراقي الأخرى، وربما كان الوفد يمثل وجهة نظر سياسية محددة لأحزاب أو جماعات شيعية محددة. لكن السيستاني لم يذكر الشيعة بالاسم، وهو يخاطب هولاء الشيعة، وإنما قال "المؤمنين الصابرين"، وهو تعبير يشمل الجميع، دون استثناء. وواضح، أن الخبر، مثلما أوردت نصه هذه الوكالات، يشير إلى أن الوفد الشيعي أبدى استعداده أن يكون العنف المسلح، ولغة القوة، هما الرد على "هجمات الإرهابيين من تكفيريين وصداميين"، لكن السيستاني أوصاهم أن يتسلحوا ب"الصبر".

والصبر، إذا ترجمناه إلى لغة السياسة ومفرداتها اليومية، خصوصا في الحالات العصيبة التي يمر بها أي شعب من الشعوب، كأن يقف شعب ما على شفا حرب أهلية، فأنه يعني: العض على الجراح، وكظم الغيظ، ونبذ العنف بكل أشكاله، وسماع الرأي المغاير، ورفض التحصن داخل خنادق متقاتلة، واستخدام لغة الحوار، والأيمان بأن الوطن الواحد يتسع للجميع، بدون إقصاء و روح ثأرية انتقامية. باختصار: التأكيد على العوامل الموحدة، ورفض العوامل التفريقية، وصولا إلى استتباب الأمن وعودة السلم الأهلي.
والحق، أن هذه الأهداف لم تغب يوما واحدا عن بال السيستاني. ولعل العراقيين، كل العراقيين، محظوظون أن يكون على رأس المرجعية الشيعية في العراق رجلا مثل السيستاني. فمنذ الأيام الأولى للاحتلال وسقوط نظام صدام حسين، وجميع أقوال السيستاني وفتاواه تطالب العراقيين، كل العراقيين، أن يتصرفوا بطريقة متحضرة، لحمتها وسداها الاحتكام للقانون، وقيام دولة المؤسسات. ورغم أن السيستاني رجل دين وليس مسؤولا مدنيا، وهو مرجع للشيعية وليس لغيرهم، لكن جميع أقواله وفتاواه ونصائحه، إنما تصدر من زعيم وطني عراقي من الطراز الأول، بينما يتصرف، للأسف، الكثير من الساسة العراقيين وأصحاب الشأن، ومن كل الطوائف، باعتبارهم قادة لطوائف، أو حتى كقادة لحارات وأزقة ومزاريب. السيستاني هو الرجل الوحيد الذي ما زال يتحدث عن "الشعب العراقي" بينما جميع الساسة وأصحاب الشأن يتحدثون عن "مجموعة" داخل الشعب العراقي.
ما من زعيم سياسي عراقي تصرف بمسؤولية وطنية عالية، مثلما تصرف السيستاني. وما من سياسي عراقي تصرف بشجاعة، مثلما تصرف السيستاني. السيستاني يدرك جيدا، وهو العالم الفذ، أن "زلة العالم كانكسار سفينة تغرق ويغرق معها خلق كثير".
وفي خطابه الأخير الذي تم نشره في 20 تموز 2006 بكى السيستاني سفينة العراق الموشكة على الغرق.وبكى دماء العراقيين التي تسيل انهارا، ووضع الجميع أمام مسؤولياتهم.
لنتمعن في مفردات هذا الخطاب: لم يتحدث السيستاني، وهو المرجع الأعلى للشيعة، عن "مظلومية الشيعة" ولا عن "مظلومية أتباع أهل البيت عليهم السلام" مثلما يرد هذه الأيام في خطاب بعض الأحزاب الدينية الشيعية، وإنما تحدث عن "الشعب العراقي المظلوم". ولم يتحدث السيستاني عن الفيدرالية الشيعية، لأنه يعرف كزعيم وطني عراقي حساسية هذه المفردة في المرحلة الراهنة، وإنما تحدث عن "عظم الخطر الذي يهدد وحدة هذا الشعب وتماسك نسيجه الوطني". ولم يتحدث السيستاني عن أقاليم الوسط والجنوب، وإنما تحدث عن السعي ل"تفتيت وحدة هذا الوطن". ولم يناشد السيستاني أبناء هذه الطائفة أو تلك، وإنما ناشد "جميع أبناء العراق الغيارى من مختلف الطوائف والقوميات ... وكل المخلصين الحريصين على وحدة هذا البلد ومستقبل ابنائه".
ولم يتردد السيستاني، بشجاعته الأستثائية المعهودة، من إلقاء اللوم على بعض الفعاليات الشيعية، عندما وبخ، مثلما يفعل كبار المدافعين عن حقوق الإنسان، أولاءك الذين "يتعرضون بالسوء والأذى للمواطنين غير المسلمين من المسيحيين والصابئة وغيرهم". فنحن نعرف أن هولاء المواطنين العراقيين، وخصوصا الصابئة منهم، لا يتواجدون إلا في الجنوب العراقي، حيث الأغلبية الشيعية. وأنباء الجنوب تنقل يوميا معاناة أبناء هذه الطوائف على أيدي مليشيات شيعية، أو بالأحرى مجاميع من الزعران وعتاة المجرمين، يحاولون تلويث سمعة شيعة العراق، بأن ينجزوا "تطهير طائفي".

والمدهش هو، أن السيستاني لم يستخدم مفردة "أهل الذمة" في خطابه، وهو يتحدث عن المسحيين والصابئة وغيرهم، وإنما قال "مواطنين". ولو فعل ذلك ما لامه احد. فهو رجل دين مسلم، أولا وأخيرا. ومفردة "أهل الذمة" تعبير نجده على ألسنة الكثير من رجال الدين عندما يتحدثون عن غير المسلمين الذين يقطنون ديار الإسلام. لكن السيستاني أصر، وعن وعي وإدراك، على إعطاء خطابه محتوى مدنيا.
كيف يكون فصل الدين عن الدولة، إن لم يكن بهذه الطريقة ؟ لقد رفض السيستاني، ومنذ الوهلة الأولى، أن يزج رجال الدين بأنفسهم في معمعة السياسة. ورفض السيستاني أن يزج اسمه وان تستخدم صورته للترويج لهذا الطرف السياسي أو ذاك. وفي ظننا، لو أن الأمور تركت للسيستاني وحده، لرفض استقبال أي مسؤول حكومي شيعي، لأنه يدرك أن استقباله لهولاء المسؤولين الحكوميين، إنما يعني تزكية لهم، والسيستاني لا يريد أن يمنح تزكيته إلا للشعب العراقي بشيعته وسنته ومسيحييه وصابئته وعربه وكورده وتركمانه. وما دعوته لجميع العراقيين إلى نبذ العنف ورفض التمترس داخل الخنادق الطائفية، وما مطالبته بـ"التعاون مع الحكومة المنتخبة" إلا إدانة لا لبس فيها للمليشيات السياسية الشيعية والسنية التي تروع الناس وتذبحهم على هويتهم المذهبية الشيعية والسنية.
" الحوار البناء لحل الأزمات والخلافات العالقة على أساس القسط والعدل والمساواة بين جميع أبناء هذا الوطن في الحقوق والواجبات، بعيدا عن التسلطية والتحكم الطائفي والعرقي، على أمل أن يكون ذلك مدخلا لاستعادة العراقيين السيادة الكاملة على بلدهم". هذا ما قاله السيستاني في خطابه الأخير. إذا لم تكن هذه النصائح هي الواقعية السياسية بعينها، فكيف تكون، إذن الواقعية السياسية؟
"التسلطية والتحكم الطائفي والعرقي" هما، ومهما كانت الجهة التي تتبناهما، شكل جديد من أشكال الديكتاتورية السياسية، لكنها تتلبس، هذه المرة، بلبوس الدفاع عن الدين أو عن هذه الطائفة أو تلك، أو هذه الإثنية أو تلك. والسيستاني، إذ يرفض أي نوع من أنواع التسلط، فأنه، وهو العارف بوطأة الاحتلال للعراق، يطالب بإقامة "حوار بناء" بين جميع الفرقاء العراقيين "على أمل أن يكون ذلك مدخلا لاستعادة العراقيين السيادة الكاملة على بلدهم".
العراقيون أولا والعراقيون ثانيا والعراقيون للمرة الألف، هم الذين يخاطبهم السيستاني. إما "الغرباء ومخططاتهم" فسيفشلون وستفشل مخططاتهم، لكن فقط إذا عرف العراقيون كيف يتجاوزون "هذه الحقبة العصيبة من تاريخهم من دون الوقوع في شرك الفتنة الطائفية والعرقية".
فهل سيخذل العراقيون زعيمهم الوطني، وتصر كل طائفة وفرقة منهم على المضي بتنفيذ سياسة "كل سيء أو لا شيء"، أم سيرتفعون إلى مستوى وعيه ويتحلون بواقعيته وعقلانيته، وصولا إلى حلول تسووية، لا ينقذ العراق إلا سواها؟

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف