نحن والقراء
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
من مشاكلنا ككتاب (أعمدة) تظل في محدودية الحيز الذي تكتبُ فيه فكرتك. فالكاتب في الصحافة اليوم مُحدّد (بعدد) من الكلمات، ولا يستطيع أن يتجاوز هذا (الكم) إلا قليلا. رغم أن الصحافة الالكترونية كإيلاف - مثلاً - أعطت حيزاً أكبر مما تعطيه الصحافة الورقية. وحسب تجربتي مع الكتابة الصحفية أجدُ أن التحدي الذي يواجه الكاتب، ليس في (وجود) الفكرة؛ فالأفكار هي من الكثرة، وخصوصاً في مجتمعنا، إلى درجة أنك تجدها حتى عند الأطفال؛ وإنما في كيفية الصياغة والتناول والعرض وتفادي (المحظورات)، و (الاحراجات، ليكتشفَ الكاتب في المحصلة إن الكتابة الصحفية هي أيضاً (كيف تشطب) وليست فقط (كيف تكتب).
ولأن الكاتب الصحفي يمس الشأن العام، ويتحدث في قضايا (الإنسان) في الغالب، فمن المفترض فيه أن يتعامل مع نصوصه تماماً كما يتعامل (المحامي) مع مرافعاته. فالحجة والدليل والاستشهاد أسس كلما قويت قويَ طرحه، وكلما ضعفت، أو اختلت سياقاتها، أو وهَنت في منطقيتها، كلما ضعفَ الموضوع، وخسر المحامي المرافعة.
واللغة هي أس الكتابة. فإذا كان الكلام (تفكير) منطوق فإن الكتابة هي أيضاً (تفكير) مكتوب كما يقول سلامه موسى. والكاتب باللغة العربية تحديداً يواجه مشكلة قلق (المصطلح) المعاصر باللغة العربية، وعدم ثباته سواء في تصوره أو تصور من يقرؤون له؛ ذلك أن اغلب المصطلحات التي يستخدمها الكتاب باللغة العربية اليوم هي مصطلحات (وافدة)، أو إن شئت: (دخيلة) على منظومتنا اللغوية، جرى تعريبها تعريباً تقربيياً ؛ والسبب أن لغتنا لا تحملُ في الغالب مرادفاً موازياً من حيث (المعنى) لهذا المصطلحات الوافدة؛ خذ مثلاً هذه الكلمات التي لا يخلوا منها أي مقال صحفي: سياسة، دبلوماسية، اقتصاد، تكنولوجيا، مؤتمر، فن، ثقافة، حرية، حكومة، منظمة، ديمقراطية، ديكتاتورية... إلخ.. ولك أن تتصور لو أن عالماً (ألمعياً) كما يسمونه من علماء (السلف)، قام من قبره، وحاولَ قراءة منتج فكري معاصر، أتراه سيفهم ما يقرأ؟
ولأن ثمة (كتابة) مُغرضة، تعتمد على (دفن) المعنى بين السطور، واستخدام الرمز بدلاً من الدلالة المباشرة لغاية في نفس يعقوب، فهناك - أيضاً - (قراءة) مغرضة تتبّـع الكاتب لأسباب كثيرة، أهمها الخلاف (الثقافي)، الأمر الذي يجعل القارئ (المغرض) يُحمّل الكاتب ما لا تحتمله نصوصه. مثل هؤلاء القراء (المغرضين) على وجه الخصوص يُشكلون بالنسبة لي حالة (قلق) مستمرّة. فهناك من بين خلق الله (أناس) لا هَـمّ لهم إلا البحث عن معنى (احتمالي) لعبارة ما ، أو رأي ما، فيبرزه، ويضعه في ذهنه، و ربما في ذهن الآخرين، على أنه المعنى (القطعي)، والوحيد ، لمدلول هذه العبارة، (ليأتي) من يُحاكمك عليه، وهم كثر بالمناسبة؛ وبالذات ممن يطمحون إلى إحياء (محاكم التفتيش) في أوربا في عصورها الظلامية.. لذلك فالكاتب، وبالذات في المجتمع السعودي، عندما ينتهي من كتابة مقاله، يقرأه مراجعاً عند (مستويين) من القراءة. المستوى الأول: قراءة محايدة ومحترفة، يُحاول فيها أن يهتم بسلامة الألفاظ، وسلامة السياق والنسق والترابط بين مكونات الفكرة والاعتناء بالوضوح وسهولة الفهم.. أما المستوى الثاني من المراجعة: فهو مختلف تماماً، حيث (يتقمص) الكاتب دور (القارئ المغرض)، فيحاول أن (يسد) كل الثغرات - ما استطاع - التي قد يستغلها المغرضون اللذين (يُحمّلون) الفكرة ما لا تحتمل ، ومن هنا تبدأ سيمفونية (الحوق والروق)، و(المطرسه)، والشطب والإضافة، والتخصيص بدلاً من التعميم حتى في الجزئيات، ليأتي المقال (متورماً)، مليئا بالصيغ التوضيحية، أو التبريرية، وأحيانا الاعتذارية، مما يفقد المقال - في الغالب - الكثير من قيمته كنص مباشر وموجز و واضح.
الأمر الآخر، والمهم، أننا نمر نحن السعوديون الآن في عهد الملك عبدالله بحقبة من (الشفافية) والتطور الثقافي لم نعرفها قط في تاريخنا، فسقف السماح بالنقد، والحوار بين أطياف المجتمع المختلفة، وعلى جميع المستويات، أصبح عالياً إلى درجة جعلت ما يُـكتب اليوم في الصحافة، يتصوره كثيرٌ من القراء، أنه تعدٍ على (الخطوط الحمراء)، وتجاوز لسقف ما هو مسموح بالحديث عنه. لذلك فمثل هذه (الصرخات) والتذمرات التي تسمعها هنا أوهناك، رافضة للنقد، أو معترضة عليه، أو واضعة بعض (طلبة العلم)، أو حتى العلماء، فوق النقد، هي ردة فعل طبيعية في رأيي لهذا السقف (العالي) والجديد والمتحضر من الحرية الصحفية، والتي هي بكل المقاييس مواكبة لما يمر به العالم من تغيرات، والتي تجلت بكل وضوح في تلك السماء الملبدة بآلاف المحطات الفضائية، وتلك الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) التي تكاد تدخل كل بيت، الأمر الذي ألغى عملياً قيمة (الأسوار) القديمة الني تمنع التواصل والتماحك بين الثقافات. حتى أن أحد الكتاب (الخشاش) في صحافتنا التي بدأت تتنفس اعتبر مثل هذا (السقف) من الحرية كفيل (بتفجير المجتمع) مطالباً بتقييده!؛ وكأن في يده (المشلولة) القدرة على فرض (وصايته) الثقافية على عالم أصبح من التقارب إلى درجة جعلتك تعرف ما يجري في (نيويورك) مثلما تعرف ما يجري في أي حي من أحياء الرياض مثلاً. ولكن لله في (دكاترته) شؤون!