النصر من منظور نصرالله!!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
لا بد لهذه الحرب المجنونة التي يشنها الوحش الإسرائيلي على لبنان الصغير الجميل أن تنتهي، إن عاجلاً أو آجلاً، ولكن ومع الأسف الشديد، بعد دمار شامل. إلا إننا وفي جميع الأحوال، نتوقع من السيد حسن نصر الله، زعيم حزب الله، وكما عوَّدنا الزعماء العرب من قبله، من أمثال عبدالناصر وصدام حسين، أن يعلن بعد وقف الحرب فيعتبر هذا الدمار وهذه الهزيمة المنكرة، نصراً مبيناً وفتحاً عظيماً على العدو الصهيوني الجبان!! طالما بقي هو حياً وما زال على رأس حزب الله.
فقد سمعنا بهذا النصر المبين بعد هزيمة حزيران عام 1967، وكذلك بعد هزيمة صدام حسين عند إعلان وقف الحرب العراقية- الإيرانية التي دامت 8 سنوات أحرقت الحرث والنسل، كذلك سمعنا صدام يشنِّف أسماع العرب بخطاباته الحماسية عن هذا النصر بعد هزيمته النكراء في حرب تحرير الكويت عام 1991 ، "أم المعارك" أو أم المهالك، كما يسميها العراقيون والتي أعادت العراق إلى عصر ما قبل الثورة الصناعية، حيث راحت أبواقه الإذاعية تنشد الأغاني "يا محلى النصر". فالمهم في هذه الأحوال، أن الطاغية مازال في الحكم ويقود شعبه إلى المحارق كالأغنام.
فوصف الهزيمة بالنصر سمة عربية بامتياز! لأن اللغة العربية مشحونة بالكناية والمجاز والجناس أكثر من أية لغة أخرى. فهي اللغة الوحيدة التي تسمي النجاسة طهارة، والأعمى بصيراً..الخ وعلى هذا الغرار، فالهزائم انتصارات رائعة، والويل والثبور لذلك القليل الأدب الناكر لعروبته، الذي يخرج عن هذه القاعدة العربية الأصيلة!! ليس هذا فحسب، بل في اللغة العربية إمكانيات لغوية فذة في تضليل الجماهير العربية العظيمة عن طريق التلاعب بالألفاظ، مثل قولهم، (خسرنا الحرب ولم نخسر المعركة!!!). صراحة أنا لا أفهم معنى هذه الجملة!
فاللغة العربية، هي لغة التهرب من المسؤولية، أي اللغة التي من طبيعتها إعفاء المقصر عن تقصيره وإلقاء اللوم على الآخرين أو حتى على الأشياء (الجمادات). فمثلاً، عندما يصل العربي محطة القطار متأخراً، يقول: (فاتني القطار)، أي يلقي اللوم على القطار ويعفي نفسه من التقصير في عدم الإلتزام بمواعيد القطارات. لا يوجد هكذا تعبير في أية لغة أخرى في العالم. فالإنكليزي مثلاً يقول في هذه الحالة (I missed the train)، بمعنى أنه هو المسؤول عن ذلك وليس القطار. كذلك إذا سقط قدح مثلاً من يد إنسان عربي، فيقول (سقط القدح من يدي) فيلقي اللوم على القدح ويبرئ نفسه، أما الإنكليزي فيقول: (I dropped the cup) ولن يتهرب من المسؤولية. وهكذا هناك مئات الأمثلة على أن العربي شاطر جداً في إلقاء اللوم على الآخرين، حتى ولو كان سقوط كأس من يده أو وصوله متأخراً عن موعد ما، فهو سريع في تعليق خسائره وهزائمه وتقصيره في العمل على شماعة الآخرين، حتى صارت هذه العادة جزءً من لغته اليومية وثقافته الشعبية وتم تطويع اللغة لهذا الغرض التبريري. وهكذا فهزائمنا سببها المؤامرات الأجنبية، أما نحن فأصحاب حكمة واقتدار وملائكة الرحمة وخير أمة أخرجت للناس، (وإذا بلغ الفطام لنا رضيع تخر له الجبارة ساجدينا) وسوف نلحق الهزائم المنكرة بالصهاينة والصليبيين، أحفاد القردة والخنازير!!
يسترخص الزعماء العرب أرواح شعوبهم، فصدام حسين كان يقبل بأن يضحي بألف عراقي مقابل قتل جندي أمريكي واحد. والمعروف في حرب الكويت، أن خسائر الأمريكان في الأرواح لم تتجاوز 150 قتيلاً، معظمها كانت عن طريق الخطأ نتجت عن نيران صديقة (friendly shooting) مقابل ربع مليون قتيل عراقي. وهذا يعادل قتل جندي أمريكي واحد مقابل 1660 عراقي تقريباً، يا بلاش أرواح العراقيين، ويا محلى النصر!! أما في الحرب اللبنانية فالخسائر في صفوف المدنيين الإسرائيليين تعادل 10% من خسائر الشعب اللبناني في الأرواح، عدا الخسائر في صفوف مقاتلي حزب الله التي لا نعرفها وربما لم يعلن عنها أبداً. وهذا نصر عظيم بالنسبة لنصرالله، ورقم قياسي وفق حسابات العرب وخاصة حسابات صدام حسين "الدقيقة".
فماذا يعني هذا النصر المؤزر من منظور حسن نصر الله ومن شجعه على ارتكاب هذه الحماقة ؟
-يعني لحد الآن، مقتل نحو 400 لبناني، معظمهم من المدنيين وثلثهم من الأطفال، والرقم في تصاعد مع استمرار الحرب،
-يعني جرح حوالي الألف، والرقم في تصاعد أيضاً،
-يعني نزوح نحو مليون مواطن، أي ما يعادل ثلث الشعب اللبناني،
-يعني فرار أكثر من مليون سائح في ذروة موسم السياحة التي تعتبر العمود الفقري للاقتصاد اللبناني، البلد الفقير الذي نهض قريباً بعد حرب أهلية دامت 15 عاماً ومازال يضمد جراحه من هذه الحرب المجنونة التي أشعلها أعداء لبنان،
-يعني فرار عشرات الألوف من الجاليات الغربية المقيمة في لبنان والتي كانت تلعب دوراً كبيراً في إعادة بناء لبنان ودعم اقتصاده،
-وأخيرا وليس آخراً، يعني تدمير الركائز الاقتصادية والبنى التحتية في لبنان، ولحد الآن تقدر بعض التقارير الخسائر المادية بنحو 9 مليار دولار. فيا إلهي، من الذي سيدفع هذا المبلغ لإعادة بناء لبنان بعد هذا الخراب الشامل الذي جلبه عليه حسن نصر الله ومن دفعه لارتكاب هذه الحماقة؟
لقد تحدى حسن نصر الله العدو الإسرائيلي بحرب المواجهة، وجهاً لوجه. وهاهي إسرائيل بعثت قواتها البرية واحتلت معظم الشريط الجنوبي اللبناني بعمق عدة كيلومترات وبدون مقاومة تذكر. فماذا أنت فاعل أيها الزعيم الذي لا يقهر؟! أين إيران وسوريا اللتين ورطتا نصر الله وبواسطته وضعتا لبنان لقمة سائغة سهلة في حلق وبين مخالب الوحش الإسرائيلي الذي كان ينتظر الفرصة الذهبية للانقضاض على هذا البلد الجميل ويعيده إلى العصور الحجرية. نعم، العدو الإسرائيلي ذئب متوحش ورد فعله يفوق آلاف المرات فعلة نصر الله باختطاف جنديين إسرائيليين، ولكن لماذا يتطوع هذا النصر الله بتوفير الفرصة الذهبية والعذر لإسرائيل لكي تنقض على هذا البلد المسالم؟
مرة أخرى نذكر القراء الكرام، أن حزب نصر الله ممثلاً في البرلمان والحكومة اللبنانيين، فلماذا تصرَّف من وراء ظهر الحكومة والبرلمان واتخذ أخطر قرار من دون استشارتهما؟ أما كان الاجدر به ومن واجبه استشارة البرلمان والحكومة بما كان ينوي القيام به قبل توريط الجميع بهذه المحنة؟ كما ولم يستشر نصر الله الحكومات العربية في قيامه بهذا العمل، ولذلك، فلماذا يلقون باللوم على الحكومات العربية لعدم القيام بنصرة حزب الله؟ وهل هذه الحكومات من الغباء بحيث يستطيع "الشاطر" نصر الله يجرها إلى معركة تحرق منطقة الشرق الأوسط كلها وكما خطط لها أسياده في دمشق وطهران؟
إن حزب الله ووفق قرار 1559، مطالب بحل مليشياته وتجريدها من السلاح، لأن وجود هذه المليشيات يتنافى مع سيادة الدولة اللبنانية، كذلك هو في نظر الدولة العظمى، أمريكا وحلفائها، يعتبر حزباً إرهابياً، وتابعاً لدولتين مارقتين، سوريا وإيران. وإذا كانت الحالة هذه، فلماذا يتورط الزعيم الذكي حسن النصر ويعطي عذراً لإسرائيل بالانقضاض عليه وعلى لبنان؟ وفي هذه الحالة فبإمكان إسرائيل الادعاء بأن إذا كانت الحكومة اللبنانية عاجزة عن نزع سلاح المليشيات، فإنها هي أي إسرائيل، تقدم لهم هذه الخدمة!
لقد تغيَّر الوقت، فالموقف العربي اليةم يختلف عنه أيام كان عليه في حرب حزيران 1967، ومؤتمرات اللاءات الثلاث وغيرها. إذ هناك دول عربية لها علاقات دبلوماسية وتجارية مع إسرائيل، ولن تنجر هذه الدول بعد اليوم وراء الشعارات الديماغوجية والانتحارية. فعدد العرب الذي تظاهروا في جميع البلاد العربية احتجاجاً على العدوان الإسرائيلي على لبنان أقل حتى من الذين تظاهروا في بريطانيا وحدها. فالمملكة العربية السعودية أصدرت بياناً جاء فيه: "ان هناك فرقا بين المقاومة الشرعية والمغامرات غير المحسوبة" واعتبرت تصرفات حزب الله في التحرش بإسرائيل واختطاف جنديين منها مغامرات غير محسوبة. كما وأصدر أكبر رجل دين سعودي وهو الشيخ عبد الله بن جبرين يوم الأثنين، 18 تموز الجاري، فتوى ضد حزب الله اللبناني، قال فيها انه "لا يجوز نصرة هذا الحزب الرافضي، ولا يجوز الإنضواء تحت إمرتهم، ولا يجوز الدعاء لهم بالنصر والتمكين". وحتى هناك أنباء تفيد عن أن أحد الرؤساء العرب شجع إسرائيل على المضي قدماً في حربها إلى أن تصفي حزب الله. كما وتوصل كتاب عرب إلى أهمية عدم الركض وراء الشعارات الفارغة التي جلبت الكوارث على الشعوب العربية، فمعظم الكتاب المتنورين ينتقدون حسن نصر الله على مغامرته غير المحسوبة وجر لبنان والمنطقة إلى هذا الخطر الجسيم. وكل هذا يدل على أن التوجه البراغماتي العملي صار ينمو ويحل تدريجياً محل التوجه الغوغائي الانتحاري الذي أكل عليه الدهر وشرب.