كركوك: المصالحة والتطبيع (1-2)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
"أنا ياطير ضيعني نصيبي
حرت لاني لهلي ولاني لحبيبي"
1
طارت الغربان من على اشجار الزيتون في تازة، وهاهي البرية المفتوحة، حيث العشائر والقرى العربية، حوالي الناحية، تفتح رحابة روحها للسلام، فقد حُـلzwj;ّت الازمة بين الطرفين، قبل ان ترتدي العلاقات العريقة بين العرب والتركمان، في تلك الانحاء، ثياب القطيعة المدججة بالسلاح:هي ذي الخوذة تتحول الى عش للعصفور، وهاهو الناي يتحول الى ترنيمة، فيما الرصاص المتأهب للانطلاق صوب الطرفين يتحول الى حجارة لرجم الشيطان. ومن المدهش والمفرح حقا ان يتم الصلح بين الطرفين في لحظة كان فيه التكفيريون والصداميون يشعلون النار في اماكن اخرى، يوم 17 تموز، ذكرى الانقلاب الدموي للبعثيين عام 1968، كما لو أن هناك رسالة ضمنية يكتبها الطرفان- العرب والتركمان - للعالم بأن العراق يمكن ان يكون بخير، لو رجع اهله الى تقاليدهم، وعلاقاتهم فيما بينهم، عبر التاريخ.
من المفرح ايضا ان تكون ادارة كركوك: محافظها، مجلسها البلدي، مدير شرطتها، من وراء هذا الانفراج، فأصحابنا في الشوارع الخلفية، هنا وهناك، نقلوا لنا أن ادارة المدينة اوفدت ممثلا عن العشائر العربية للتفاوض مع اهالي تازة حول مطاليبهم: هكذا تحت حماية الشرطة، تم التفاوض في احد بيوت تازة، بحضور جمع غفير من الاهالي، حول مطاليب اهل القتيل - نرجوا من القاريء الكريم العودة الى تقريرنا: كركوك عرس الدمع والدم 1، للاطلاع على اوليات الموضوع - وعلى ضوء تلك المفاوضات حدد تاريخ أخر للاجتماع بين ذوي المغدور، وشيخ العشيرة الذي حدثت الحادثة في منطقته.
يتذكر القراء اني ذكرت، في تقرير سابق، أن العشيرة المتهمة كانت هي " ال بو محمد " لأن جثة القتيل وجدت في منطقتهم: هكذا اذن تم اللقاء بين الطرفين المتنازعين، قدم فيه شيخ العشيرة مقترحا عقلانيا، بحضور الجهات الرسمية والاجتماعية من الطرفين، في أن لأهل القتيل مدة 15 عاما للبحث والتحري وايجاد الدليل على القاتل، وعند الحصول على نتيجة لصالحهم، فانه سيعطي اهل القتيل فدية اربع اشخاص من عشيرته بدلا عن القتيل، اضافة الى انه مستعد للقسم واليمين في اي مرقد او امام مقدس بأن القاتل ليس من عشيرته، واذا كانت هناك بينة لدى اهل القتيل فليقدموها، وهو حاضر - اي الشيخ - جزائيا وعشائريا عند توفر الدليل، فرجع ذوي القتيل راضين بتلك النتيجة، وعادت الحياة تدب في ناحية تازة، فيما بادر نفر من العشائر العربية في حضور مجلس فاتحة لاحدى موتى الناحية، كاشارة على انهم اخوة في السراء والضراء.
هذه الخاتمة الحميدة علامة فأل، بالنسبة لي، وكأنها ترجمة لعبارة صديقي الشاعر ابراهيم المصري، بعد مقتل الزرقاوي: "العراق سينجو" رغم اني لا اعتبر ان مقتل هذا الاخير لايمثل انهيارا لمؤسسة الارهاب في العراق، مثلما أوهم الاميركان الناس ان سقوط حكومة صدام يعني انهيار مؤسسة المقابر الجماعية، فقد جاءت اخطاء بريمر القاتلة في ادارة العراق، في مرحلة مجلس الحكم وماقبلها ومابعدها، لصالح بقاء المؤسسة الصدامية، عبر تأسيس جيش البطالة المؤلف من الوزارت المنحلة: عبر ترك الأسلحة في الشوارع، وعبر عبارة " علي بابا " التي تمثل مفتاح العقل الاميركي في فهمه لشعب عريق الاصول بالحضارة، حين اطلق الجيش الاميركي يد اللصوص، وسمح لأجندة المخابرات دول معروفة، في تدمير ونهب البنية التحية: أقصد البقية الباقية التي لم يدكها القصف الاميركي أثناء الحرب.
لا اريد ان اعيد كلاما قلته قبل اكثر من عامين، كنت فيها شاهدا على الخراب، مؤشرا في كل تقرير الى تدهور الحال وتفاقم الأزمة: لا اريد هذا.. لكني اضعه نصب عيني القاريء، كشاهد سبيل، ولذلك اجد من المناسب ان اقول، من اجل بعث الامل، ومن اجل الاحلام، ومن اجل العراق: كانت مبادرة الصلح بين العرب والتركمان في تازة، سابقة لمشروع المصالحة الذي قدمه السيد رئيس الوزراء الاستاذ المالكي، الذي لم تلق زيارته الى واشنطن لملاقاة جورج بوش وعصابته، ترحيبا من بعض اصحابنا في الشوارع الخلفية، لأن الاعتقاد السائد في الشارع العراقي عموما أن اميركا هي الطرف الاول في الخراب، وهو الطرف الذي يجب ان يقدم اعتذاره بشكل عملي لادبلوماسي، للشعب العراقي على الفظائع التي تجري في البلاد، نتيجة سوء الاداء والاسلوب الذي تدار به كافة الازمات، حيث يبدو الطرف العراقي تاليا في كل ازمة: أي ان الطرف العراقي تابع، وليس بصاحب قرار..
دعوني اتوسع، مادمت مسؤولا عن نقل وجهة نظر الشارع العراقي في ما يحصل، فأقول: ان الناس مقسومة على نفسها في تفسير مايجري، خاصة في القسم الغامض من التصريحات التي تتحدث عن مفاوضات مع سبع مجاميع مسلحة: من هي تلك المجاميع، وماهي هويتها الايديولوجية، فمن المعروف ان لكل مجموعة ما خطاب سياسي، فأين هذا الخطاب؟
يصير السؤال محرجا - حسب رأي جارنا ابو احمد - عندما يلفت نظري الى ان الخطاب الوحيد الموجود من تلك المجاميع الغامضة هو الخطاب العملي، المتمثل بالعنف والقتل، فليس من المعقول - وهذا رايه - ان لاتكون هناك منشورات او بيانات سياسية، فالذي يستطيع ان يزرع المفخخات، بامكانه ان يوزع منشورات اوبيانات..
ثمة هناك من ينظر الى مشروع المصالحة بقلق، خاصة وهو يستبعد البعثيين، الذين - باعتقاد هذا البعض - هم اكثر الفئات تضررا من النظام الجديد، بل ان الكثير ممن حاورتهم والتقيتهم يؤكدون ان البعثيين بالذات هم الذين يقفون وراء العمليات الارهابية التي تجري في كافة انحاء العراق، وحسب رايهم ان ادخالهم في مشروع المصالحة سيكون كفيلا لكشف اجندة خافية عن العين، تمارس الارهاب ايضا، من بينها اطراف دولية، لايتردد هؤلاء البعض في تسميتهم بعملاء الموساد، الذين يقول بعض اصحابنا انهم يتمركزون في مدينة بابل حاليا، بل ولايخفون تأويلهم لتمركز القوات الاميركية في اثار بابل لمدة طويلة لهذا السبب بالذات، فبابل - حسب الصهيونية - حلمهم الاوحد الذي يجب ان يشيدونه وان على دماء العراقيين.
فئة اخرى من الناس تلعن الوجود الايراني: تتهمه علنا في اثارة الفتنة الطائفية، خاصة في البصرة: لقد التقيت عوائل مهاجرة من هناك الى كركوك، وهي تبحث لها عن مأوى بعد ان تلقت تلك العوائل تهديدات من اطراف شيعية، مدعومة من ايران، بالتصفية او بالخطف ان لم تغادر المدينة: بعض تلك العوائل هاجرت فعلا الى اقليم كردستان، بعد ان ابدت - مشكورة - الحكومة هناك استعدادها لاستضافتهم ريثما تنجلي الازمة. بعض العوائل يمم شطره نحول الموصل.
2
تقريري هذا يحاول ان يجمع الاوراق المبعثرة لسيناريو الديمقراطية: مخطط الفلم الاميركي، الممول من دم ودمع ونفط العراقيين، ولكن مهما حاولت، أو مهما كنت ابليسا، فلن اتمكن ان احل لغز المجاميع المسلحة التي ترتدي الملابس السوداء، وتظهر فجأة في ضواحي بغدا د، وكأنها قد هبطت من السماء.
صديقتنا " ام مهند " اخبرتني انهم يضربون الناس بالرصاص عشوائيا، دون تفريق بين احد واحد، فيما تظهرمذيعة بأحدث مكياج انهم يقتلون السنة فقط. لحظة ظهور المذيعة تلك كنت ضيفا على صديق كردي، استبد به الغضب الى ابعد حد، ولم اتمكن من تهدئته الا بالاتصال بالصديقة اعلاه، في حي الجهاد، فاخبرتنا بالحقيقة.
اريد ان اشير الى ان اعلاما غير مسؤول، يسلك في اتجاه توسيع الهوة، وهذا خطر يجب ان يلتفت اليه مشروع المصالحة: دعوني اضحككم قليلا: أنا اقترح ان يكون هناك صلحا بين الفضائيات التي تتسابق على نقل اخبار العراق، قبل البدء بالمصالحة العراقية، وهذا الصلح يجب ان يكون تحت شعار: " أنا ياطير ضيعني نصيبي / صرت لاني لهلي ولاني لحبيبي " ذلك ان اخضرار الدولار الاميركي - بالمناسبة الالف تومان الايراني اخضر ايضا - اعمى القلوب والابصار، فلم يعد بعض ناقلي الاخبار يميزون بين زي جيش المهدي، وبين زي الجماعات المسلحة التي تهبط من السماء، فجأة.. فتقتل الناس عشوائيا: ارجوا طبعا ان يؤخذ اقتراحي هذا على محمل الجد، وأن لايضاف اليه انني منحاز الى جيش ما، حتى لوكان جيش محمد العاكـولة، طيب الصيت، فأنا رجل مسالم، تتبعني العصافير والاغاني، وجوقة المفلسين، الذين سوف اجمعهم لاعادة احياء نضال حزبنا القديم في ايران وكردستان: " حزب اليسوه والمايسوه "، لكن لهذا كلام اخر، سيأتي في حينه.
3
"أنا ياطير ضيعني نصيبي" في الحقيقة هو شعار المرحلة لكل الاطراف المتناحرة - المتآخية، لسبب جوهري، لكنه بسيط، يتلخص في كون الجميع لايعرف ماذا يدور في راس اميركا، ويعرف في نفس الوقت - ياللمفارقة - ماذا يدور في راسها، ومع ذلك فهم يتعاملون معها بعقلية القرن العشرين، غافلين عن حقيقة مهمة هي ان اميركا تعتقد نفسها امة جريحة منذ احداث 11 سبتمبر، وهي لن تهدأ الا بتصدير جراحها الى الخارج: " قطعة، بعد قطعة.. يتم تصفية العالم - رينيه شار " - أقول: جراحها، وليس نموذجها، فإذا كانت المشاريع القومية قد اطاحت بكل المؤسسات الدستورية في العراق، واستبدلت تلك المؤسسات - للمفارقة بناها الاستعمار نفسه - بمجتمع مدني مزور او نظير، جميع مؤسساته مرتبطة بفكر واقتصاد الدولة، فإن أميركا الان توزع جراحها على مدن العراق وقصباته بمنتهى المجانية، غير مبالية بمشروع المجتمع المدني الذي بشرت به، خاصة إذا لاحظنا كيف انها لجأت الى الديمقراطية الانتخابية، معطية فرصة ادارة البلاد على ماتفرزه عادة هكذا ديمقراطية من تسيد الجهلة والاميين على مقاليد الامور، وصولا الى دست الحكم.ان المضحك والمبكي في مشروع المصالحة انه لم يأت الا بعد أن طرق الآخر باب العنف، الاخر: الغامض، الشبح، الذي يأخذ تسميات متعددة، فيما هناك جنس من الاخر هو المواطن العراقي الذي يحمل، في طيات روحه وفي وجدانه، مشروع المواطنة. هذا الفرد الذي لايزال مغيبا، رجلا كان أو امرأة: لازال هامشيا، تطحنه الهموم اليومية القاهرة، وليس له اي دور في العملية السياسية لأنه ببساطة لايريد أن يتورط أكثر بلعبة فاسدة، بعد تورطه في لعبة انتخابات،يوما بعد اخر تنكشف بلاويها ومشاكلها
سأنقل رأيا غريبا، لكن العقلاء سيفهمونني ويقتنعون به، كما اقتنعت به انا: أحد الركاب معي في الطريق الى بغداد، بعد أخذ ورد معه، قال: " رغم قساوة مايحدث ومرارته، لكنه ضروري جدا: انه مخاض لابد منه، كي يفهم الناس معنى الانتخاب، بدون عاطفة، وبدون خوف، وبدون ضغط.. " صمت ثم اضاف نقطة هامة جدا: " اتعرف: ان المواطن العراقي الان بدأ يؤمن بضرورة فصل الدين عن السياسة، بناءا على تجربة الدم، هذا الذي يجري في الشوارع، وبناءا على سوء الاداء والفساد الاداري الذي يمارسه هؤلاء المتدينون "وبالمناسبة يروي لي احد اصدقائي في الناصرية: ان الجعفري، رئيس الوزراء السايق،زار مدينة الناصرية في بداية شهر حزيران، والتقى بالناس علانية في ساحة الحبوبي الشهيرة،فكان الناس مقسومين الى ثلاث فئات - حسب ماقاله ذلك الصديق- قسم يهتف: " التعيين بثلاثة اوراق " أي أن هذا النفر يشتكي الى الجعفري بأن التعيينات في الدوائر لايتم الا برشوة قدرها 300دولار، فيما كان قسم اخر يطالبه بالخدمات التي قدمها للناصرية، فأجابهم الجعفري انه رصد للناصرية مبالغ كبيرة فأين ذهبت؟ فأجابه هذا القسم من الناس: " اسال الحرامي الذي عن يمينك، والحرامي الذي عن يسارك " يقصدون المحافظ ونائبه، فيما كان القسم الثالث من الناس يهتف بحياة الجعفري وحزبه، كي يقاطع شكاوي الناس.
اقول: ليس من الضروري ان تنقل اميركا جراحها بشكل يناسبنا، وانما طبعا بالشكل الذي يناسبها، كي تتم لها الادارة - ادارة الازمة، وكي تظل دائما ممسكة بالعصا من الوسط، فتفاقم الوضع وسوء الاحوال سيظل الشماعة التي تعلق عليها امالها بالبقاء طويلا في العراق، خاصة وانها قدضمنت ان رسالتها المرعبة الى دور الجوار قد وصلت، ولعل مايجري في لبنان الان هو حصاد الاخطاء التي يتعامل فيها الشرق عموما، والعرب خصوصا، مع تصوراتهم عن اميركا القرن العشرين، أو اميركا الحرب الباردة، بعد أن أقصوا - أي العرب - الفرد حتى عن معاينة جراحه،والتوغل نحو اعماق ذاته، عبر صهر الجميع في بودقة الحروب التي ليس لها معنى، سوى خلق جيل من المشوهين والمعوقين روحيا، اولئك الذين ينشرون الان الرعب في كل مكان من كركوك... وللتقرير صلة.
يتبع