الشرق الأوسط الجديد: مَنْ قرأَ ومَنْ فَهِمَ؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
-1-
بادئ ذي بدء، أود أن أؤكد هنا بأنني لا أريد بهذا المقال أن أسوّق لمشروع أمريكي لم نعرف بعد ما هي نصوصه وما هي بنوده وملامحه. فالإدارة الأمريكية كفيلة بالتسويق لمثل هذه المشاريع، وليست بحاجة إلى أقلام عربية لكي تُحيل الديوك إلى فيلة، أو لكي تحيل البحر إلى طحينة، كما يقول الأخوة المصريون.
لكني في هذا المقال، سوف أرثي مرة أخرى للعقل العربي وللمثقف العربي، الذي أصبح يأخذ المواضيع والقضايا المتعلقة بمصيره من فم الإعلام العربي، وكأنها مُسلمات دون نقاش أو تفكير ، سيما إذا كانت هذه المواضيع متعلقة بأمريكا أو بالسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. وفي هذه الأيام، وبمناسبة ما طُرح مبدئياً مما أُطلق عليه "الشرق الأوسط الجديد" الذي قالت به رايس وزيرة الخارجية الأمريكية، لم يكن العقل العربي مُغيّباً للمرة الأولى، ولكنه كان على هذه الحال منذ ما يزيد على نصف قرن من الزمان. وهذا لا يعني على الإطلاق - مرة أخرى - أن يفهم القارئ بأنني أدافع عن صحة ومشروعية "الشرق الأوسط الجديد"، الذي لا نعلم عنه شيئاً، بقدر ما أنني أنقد هنا العقل العربي الذي يرفض ويقبل مشاريع عدة وطروحات كثيرة مختلفة، دون أن يقرأ، وإذا قرأ لا يفهم.
فهل ما زال العقل العربي مُغيّباً منذ ما يزيد على نصف قرن مضى؟
-2-
كنت طالباً في المدرسة في عمّان، عندما اشتركت في عام 1955 في المظاهرات التي قامت احتجاجاً على نية الأردن الانضمام إلى "حلف بغداد". وكانت هذه المظاهرات متنفساً جميلاً لنا لكي نهرب من المدرسة، ونتخلص من كابوسها الثقيل. وكنا نشترك في مظاهرات ضد "حلف بغداد"، ونحن لا نعلم ما هو "حلف بغداد"، ولماذا نتظاهر ضده وننادي بسقوط الاستعمار. وهل يمثل " حلف بغداد" فعلاً عودة للاستعمار البريطاني سيما وأن بريطانيا ومعها أمريكا هي المتبنيتان لهذا الحلف. ولكن التظاهر ضد هذا الحلف رغم عدم معرفتنا عنه، كان شيئاً مبهجاً لنا، لكي نصيح ونرفع الصوت، حيث لا صوت لنا في المدرسة أو في البيت، والشارع هو فضاء صوتنا الوحيد.
وعندما كبرت وبدأت أقرأ بعمق، تبين لي أنه في ظل الحرب الباردة، وفي ظل مخاوف الغرب الرأسمالي من انتشار الشيوعية أكثر فأكثر في العالم العربي، واقامة مزيد من العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية بين الاتحاد السوفياتي الذي بدأ يتغلغل في عدة بلدان عربية مهمة، منها: مصر وسوريا ولبنان وغيرها، فكرت بريطانيا وأمريكا وفرنسا وتركيا في العام 1951 في إقامة حلف عسكري وسياسي للوقوف في وجه الاتحاد السوفياتي في الشرق الأوسط، وليكن جداراً سياسياً وعسكرياً لمنع الاتحاد السوفياتي في المستقبل من السيطرة على الشرق الأوسط أو غزوه والدفاع عن الشرق الأوسط الذي يُعدُّ منطقة حيوية بالنسبة للعالم الحر. وتمت احاطة الدول العربية بهذا المشروع الذي أعلن قيام "القيادة العليا للحلفاء في الشرق الأوسط" قبل الإعلان عنه.
وكانت المبادئ الأساسية لهذا المشروع تتلخص فيما يلي:
1. الدفاع عن منطقة الشرق الأوسط في حالة تعرضه لأي هجوم من الخارج.
2. قيادة القوات التي توضع تحت تصرف "القيادة العليا للحلفاء في الشرق الأوسط"، ووضع الخطط العسكرية لجميع القوات المتواجدة في الشرق الأوسط في حالة الحرب أو اندلاع أزمة دولية.
3. جعل كل دولة قادرة على القيام بدورها في حماية الشرق الأوسط بمجموعه ضد أي هجوم خارجي.
4. عدم التدخل في القضايا والنـزاعات التي تحدث داخل المنطقة.
5. المحافظة على الوضع الناشئ عن اتفاقيات الهدنة بين اسرائيل والأقطار العربية.
6. المحافظة على البيان الثلاثي الصادر في العام 1950 عن أمريكا وبريطانيا وفرنسا بخصوص القضية الفلسطينية.
وفور صدور هذا المشروع ندد الاتحاد السوفياتي به، وطالبت الأحزاب الشيوعية واليسارية في العالم العربي بالتنديد به. وتركز هذا التنديد على النقاط التالية:
1. إن هدف هذا المشروع صرف أنظار العالم العربي عن القضية الفلسطينية، وعن الأخطار الناشئة عن قيام اسرائيل. علما بأن الاتحاد السوفياتي كان أول من اعترف بقيام دولة اسرائيل.
2. ان الأخطار التي تهدد منطقة الشرق الأوسط أخطار مزعومة.
3. ان هذا المشروع لا يمتُّ بصلة إلى مصالح السلام والأمن في المنطقة.
4. هدف هذا المشروع اقامة قواعد عسكرية للغرب في الشرق الأوسط. كما أن هدف توسيع القواعد الموجودة في مصر والعراق.
5. هدف هذا المشروع النهائي هو احتلال منطقة الشرق الأوسط.
6. سوف تتأثر علاقة بلدان الشرق الأوسط التي ستشترك في هذا المشروع بالاتحاد السوفياتي. وبمعنى آخر سوف تقف الأحزاب الشيوعية وكافة قوى اليسار في المنطقة المؤيدة للاتحاد السوفياتي ضد الأنظمة الحاكمة التي ستوافق على الانضمام لهذا المشروع. اضافة إلى أن قوى اليمين المتمثل آنذاك بجماعة الإخوان المسلمين سوف تقف ضد هذا المشروع أيضاً، لا حباً في الاتحاد السوفياتي ولكن كراهية بـ "الكفار" المتمثلين في الغرب الرأسمالي كما كانت تقول أدبيات هذه الجماعة.
-3-
ورغم هذا، فقد رفض الشارع العربي هذا المشروع. ولكن الغرب عاد وطوّر هذا المشروع بعد الزيارة التي قام بها رئيس وزراء بريطانيا لواشنطن في العام 1952. واتفقت بريطانيا وأمريكا على ضرورة قيام "منظمة للدفاع عن الشرق الأوسط". وقامت بريطانيا بالاتصال بالدول العربية بشأن هذا المشروع. ولكنها فشلت في تحقيق أية خطوات ايجابية. وتبين لنا بعد ذلك، وبعد أن قرأنا وفهمنا، وبعد فوات الأوان - كالعادة - بأن حلف بغداد كان مفيداً للأردن بشكل خاص فائدة سياسية وعسكرية كبيرة.
ففيما يتعلق بالصراع العربي - الاسرائيلي، وهو الصراع الذي أنهك الأردن ودمّر اقتصاده واقتطع منه الضفة الغربية، كان "حلف بغداد" سيضمن للأردن حماية عسكرية من أي اعتداء خارجي بما فيها الاعتداءات الإسرائيلية. فاسرائيل كان مستهدفة للدخول في هذا الحلف. ومن غير المعقول أن تقوم اسرائيل بالاعتداء على دولة عربية، تشترك معها في عضوية هذا الحلف. ولذا لم تكن اسرائيل تريد للأردن - وهو الذي اقتطع الضفة الغربية وضمها اليه في وحدة سياسية واحدة - أن يدخل في هذا الحلف حتى لا يكون هذا الحلف درعاً عسكرياً واقياً للأردن ضد أطماع اسرائيل المستقبلية في الضفة الغربية. من ناحية أخرى أكدت بريطانيا للأردن بأن انضمامها لـ "حلف بغداد" لن يؤثر بأي شكل من الأشكال على وضع الأردن بالنسبة إلى الحل النهائي لقضية فلسطين. وأن تأكيداًً بهذا المعنى يمكن أن يُضم إلى مشروع الاتفاقية فيما لو طلب الأردن ذلك. وحتى لو قام اعتداء على الأردن من قبل اسرائيل فإن الأردن بموجب هذه الاتفاقية سوف يكون في وضع عسكري أفضل من السابق وذلك لعدة أسباب منها:
- أن بريطانيا كانت ستزيد عدد الجيش الأردني بنسبة 65٪ عما كان عليه.
- أن بريطانيا كانت ستزود الأردن بأسلحة متنوعة ثقيلة ومتوسطة قيمتها ستة ملايين ونصف مليون دينار أردني.
- أن بريطانيا كانت ستلبي احتياجات الأردن من السلاح والعتاد في حالة الطلب المستعجل.
- أن بريطانيا كانت ستلغي معاهدة 1948 مع الأردن وتستبدلها باتفاقية جديدة ضمن "حلف بغداد".
- دفاع بريطانيا عن الأردن وما يشملها من خطط مشتركة.
وطبقاً لذلك، ولو نجح مشروع "حلف بغداد" ودخل الأردن فيه، فإن حرب 1967 لم تكن لتفقد الأردن الضفة الغربية كما حصل بالفعل. ولم يقع الأردن نتيجة لذلك في ضيق اقتصادي وسياسي كما وقع بعد هزيمة حرب 1967. ولكان الأردن بضفتيه ما زال موحداً كما كان من قبل. كذلك فلو دخل الأردن في عضوية "حلف بغداد" لما اضطر إلى الوحدة مع العراق على إثر الوحدة المصرية - السورية في العام 1958، ولتلافي العراق بالتالي ثورة 14 تموز 1958 التي قضت على الملكية. ثم لتلافي حكم حزب البعث في العام 1963 . ولما ظهر صدام حسين ولما قامت الحرب العراقية - الإيرانية، وحرب الخليج. ولتلافى العراق حروب ما بعد حرب الخليج الثانية أيضاً. وربما لو دخل الأردن في عضوية "حلف بغداد" لما قامت حرب 1967 أصلاً، ولكان عبد الناصر أكثر عقلانية وواقعية سياسية. ولكن الذي جعل عبد الناصر يهيج ويملأ نفسه غروراً بقيادته وزعامته في العالم العربي سقوط "حلف بغداد". وهو ما دفع به إلى تحدي اسرائيل وهو الذي كان يعلم - أو لا يعلم - مدى قوتها العسكرية ومدى قوته العسكرية. ومدى ما تحظى به اسرائيل من دعم كبير من الغرب سياسياً وعسكرياً واقتصادياً.
هذا ما كان من شأن "حلف بغداد".
-4-
عندما طرحت أمريكا مشروع "الشرق الأوسط الكبير" عام 2004 ، قامت الدنيا في العالم العربي ولم تقعد، دون أن نقرأ ونعلم ونفهم لماذا نرفض أو نقبل مشروع "الشرق الأوسط الكبير" مما أدهش بعض المسؤوليين في العالم العربي ومنهم الشيح حمد بن جاسم آل ثاني النائب الأول لرئيس وزراء قطر ووزير خارجتها الذي خاطب الرأي العام العربي بقوله: "يا جماعه دعونا نقرأ ونفهم أولاً، ثم نحكم على الأشياء".
كذلك تكرر الحال الآن عندما تفوهت - مجرد تفوه - وزيرة الخارجية الأمريكية بمشروع "الشرق الأوسط الجديد" فانبرت الأقلام العربية التي لم تقرأ ، وإن قرأت لم تفهم بالهجوم على هذا المشروع في اليوم التالي مباشرة، وقبل أن نسمع من وزيرة الخارجية أي بيان أو توضيح لهذا المشروع.
فقرأنا من يقول في مقال تحت عنوان "عملية قيصرية فاشلة لولادة الشرق الاوسط الجديد": "إن هذا المشروع الذي أعدته ادارة الرئيس بوش وأعلنت عنه رايس في نيويورك مرة وفي بيروت مرة وامام أولمرت وحكومته مرة اخرى، وتعهد اولمرت بناء على طلب واشنطن بتنفيذ اول فصل من فصول تنفيذه في تدمير لبنان الشقيق وتصفية المقاومة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، على أمل ان تنجح قوات الاحتلال الاميركي بتصفية المقاومة العراقية، اضحى مشروعاً برسم التنفيذ العاجل قبل أن تنتهي ولاية الرئيس بوش الثانية".
وقرأنا آخر يقول تحت عنوان "الشرق الوسط الجديد.. عبارة رنانة": "الشرق الأوسط الجديد الذي تَبَرْعَم في أحشاء الحرب الإسرائيلية ، ولن يخْرج منها عمَّا قريب سوى برقية تعزية أبرقتها رايس إلى أهل الميِّت، الذي هو لبنان".
وقالت حماس إن مشروع "الشرق الأوسط الجديد "الذي أعلنته الإدارة الأمريكية مؤخرًا ما هو إلا امتدادٌ للنظام العالمي الجديد والمنطق الإمبريالي الذي تحاول الولايات المتحدة فرضَه على شعوب المنطقة لصالح الكيان الصهيوني، وتكريس احتلاله ومساندة عدوانه على شعوب المنطقة ومقدَّراتها، مؤكدةً ضرورة وقف التدخل الأمريكي في شئون وسياسات الدول العربية والإسلامية".
وتتابعت أقوال معظم مختلف المعلقين والمحللين السياسيين العرب على هذا النحو، علماً بأنه لم تنشر نصوص هذا المشروع ولم يقرأه أحد.
وهذا الكلام هو الكلام نفسه الذي قيل في عام 2004 عندما طرحت أمريكا مشروع "الشرق الأوسط الكبير". ولم نسمع أصواتاً عقلانية نحو هذا المشروع إلا النـزر اليسير ، ومنها صوت نور الدين حشاد نائب الأمين العام للجامعة العربية الذي قال: "محتوى مشروع الشرق الأوسط الكبير هو الديموقراطية والاقتصاد الحر وتعليم الفتيات ومحاربة الفقر. أي ان هذا المحتوى لا يتضمن ابداعاً. ولكن إذا لم تأخذ أمرك بنفسك فغيرك سيأخذه. والسياسة لا تقبل الفراغ" (الحياة، 19/2/2004).
فمتى نقرأ أولاً لكي نفهم.
أعتقد بأن هذا يجب أن يبدأ من السنوات الأولى للمدرسة، وهو ما سيتطلب وقتاً طويلاً.