لماذا أهتم بقناة الجزيرة وبـالإخوان؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
أثار مقالي "الجزيرة في ظل حكم الإخوان" عاصفة من الردود الغاضبة، خصوصا من بعض نشطاء الحركات الإسلامية أو المقربين منها، الذين لم يترددوا في توجيه أبشع الشتائم لكاتب هذه السطور، و المسارعة إلى اتهامه بالخيانة والعمالة والجندية في الحملة "الصهيونية - الأمريكية" المكتسحة للأمة والمستهدفة بالأساس القضاء على المقاومة، التي أضحت القناة القطرية - ما شاء الله- في مقدمة كتائبها الاستشهادية.
الدرس الأول الذي استخلصته من عاصفة الردود، أن الثقافة الديمقراطية في مجالنا العربي الإسلامي ما تزال غاية في الهشاشة والضحالة، فالاستعانة بتهم التخوين والاستخبار لصالح جهات أجنبية، ليست عادة متأصلة عند أنظمتنا العربية العتيدة فحسب، إنما كذلك في صفوف المعارضة، ولست أدري كيف يقبل أناس شردوا من بلادهم أو سجنوا أو عذبوا بسبب إدانتهم بتهم مشابهة أن يعمدوا بكل يسر وسهولة - هكذا بجرة قلم- إلى تسديدها إلى صدر مخالف لهم في الرأي، لا يملك إلا قلمه ولسانه، وأظن - وأغلب الظن سيء- أن هؤلاء لو كانوا يملكون سلطة، لقاموا دون أن يرمش لهم جفن، بتصفية هذا العميل، الذي أثبتوا عليه بما لا يدع مجالا للشك، أنه يدبج التقارير لصالح الموساد والسي آي إيه، و يعد الجحافل لقصف قلعة الجزيرة الباسلة، مثلما هدد بذلك من قبل ملهمه وزعيمه الرئيس جورج دبليو بوش.
البعض "يكذب الكذبة ويصدقها"، أو يحلو له أو يحب أن يصدقها لأسباب متعددة ليس المجال هنا للخوض فيها، وكذلك فعل بعض المتحمسين من طاقم الجزيرة، حيث انبرى يكتب ويتحدث عن مخططات أمريكية لتهديم القناة على رؤوس أصحابها، وكأن هذه الجزيرة المقاومة موجودة في عراق صدام أو سوريا الأسد أو حتى ليبيا القذافي قبل أن يسلم لمن كان يصفهم برعاة البقر.. لا أحد من هؤلاء الذين اقتنعوا بمقاومة الجزيرة، يريد أن يتذكر أنها قناة قطرية تعمل بأموال قطرية طائلة، وأن قطر لا تقع للأسف الشديد في مجال دول الضد، أو حتى دول محور الشر، بل إنه ليس ثمة دولة عربية تحمست لمشروع الشرق الأوسط الجديد، ومن قبل مشروع الشرق الأوسط الكبير، مثلما تحمست قطر.
نحن نطرح الأسئلة التي نحب أن نطرحها ونغفل عن تلك التي تؤرقنا أو تزعزع منظومة الأفكار والمعتقدات التي نرغب في أن تظل منتظمة في نفوسنا، ولهذا فإنه لا أحد من الذين يعتقدون في بسالة الجزيرة على جبهة النار، يريد أن يتساءل عن مصدر الأموال التي تدفع لهؤلاء الشجعان الذين يقاومون المحتل الغاشم بالكاميرا والمكريفون، لأنه لربما ينزعج ويضطرب حين يعلم أن بعض هذه الأموال قد تكون خزينة الدولة العبرية التي تدفع مباشرة لشراء الغاز القطري، مثلما اعترف بذلك صراحة وزير الخارجية الشيخ حمد بن جاسم.
و يذكرني هذا الصمت عن التساؤل بحدث أبسط، عايشه بعض اللاجئين الإسلاميين إلى الغرب في العقود الأخيرة، عندما يحاججهم البعض بأنهم يقبضون مساعدات اجتماعية من خزائن دول تجتمع فيها أموال الضرائب المحصلة من الخمور ودور الدعارة بأموال بقية قطاعات العمل والانتاج. هؤلاء اللاجئين المتدينين يصمتون عادة، ويتجنبون حتى سؤال أنفسهم، أو يلتجئون كالعادة إلى قاعدة فقهية تقول بأن الضرورة تبيح المحظورة.
الدرس الثاني الذي استخلصته من العاصفة الإخوانية، أن التطهر بنصرة العراق وفلسطين وسائر البلدان المنكوبة، ليس صفة الأنظمة الحاكمة أو المثقفين المرتبطين بها، إنما هو كذلك ديدن كل من يريد زعم البطولات الوهمية، فالجزيرة التي لم يعد بمقدورها التجرؤ على العديد من الحكومات العربية، ليس أمامها لرفع الحرج إلا إظهار البطولات في الساحات المفتوحة.. وفي هذا السياق أيضا، لا أحد يريد أن يسأل لماذا لا تبادر إسرائيل على غرار كثير من الدول العربية إلى إغلاق مكاتب الجزيرة، ولا يغرن أحد باحتجاز وليد العمري لساعات معدودة في أحد المخافر الإسرائيلية، ففي العالم العربي تصبح هذه المخافر فنادق من فئة النجوم الخمسة.
مكاتب الجزيرة أيضا تعمل بكل طاقتها في واشنطن وكافة العواصم الغربية، وهي تكيل الشتائم لمن تريد، بل إنه بمقدور طاقمها التظاهر أمام البيت الأبيض احتجاجا على نكتة سمجة فلتت من فم رئيس لم يتربى في تكساس على كثير من الانضباط والبرتوكولات، ولعل منع الجزيرة الشكلي من العمل في العراق لم يكن للأسف الشديد قرارا أمريكيا، بل قرارا عراقيا اتخذته حكومة لا يحترم أعضاؤها أنفسهم قرار المقاطعة.
البطولة المزعومة في لبنان لم تكن مطلوبة من الجزيرة برأيي، فحزب الله يملك قناة فضائية ذائعة الصيت، فضلا عن أن كل القنوات اللبنانية تقريبا كانت متضامنة مع المقاومة، متصدية للعدوان بمصداقية، حتى تلك العائدة إلى أطراف منضوية في حركة 14 آذار، والتي لديها تحفظات كثيرة على سلوك حزب الله الذي جر لبنان إلى حرب بقرار انفرادي، بل إنني أزعم أن القنوات الرسمية العربية، ناهيك عن القنوات الغربية كالسي إن إن وبي بي سي العالمية، لم تبخل على الرأي العام العربي و الدولي بنقل صورة غاية في الموضوعية، فمن الذي كان يحتاج مزايدات الجزيرة الإعلامية؟
كما البطولة المزعومة في لبنان وفلسطين، هناك بطولات مزعومة للجزيرة في العراق وأفغانستان وغرناطة، حيث لا نظام يكدر الصفو، إذ يغلق مكتبا أو يمنع مراسلا من تسلم بطاقته المهنية، ولعل هذه البطولات الوهمية التي تهدر أموال من أجل تحصيلها، كان من باب أولى صرفها في مجالات بطولة حقيقية، من بينها كشف المستور المتعفن - وما أكثره- في بلادنا العربية، أو على الأقل صرفها في مجالات تثقيف وتوعية نوعية، من خلال الصرف على حركة الأفلام الوثائقية، بدل الاكتفاء بالربورتاجات التلفزيونية والمنتجات المدبلجة المستوردة.
الدرس الثالث المستوحى من ريح "الإخوان" العاتية، أن أمتنا ما يزال لديها استعداد لخوض معارك الوهم ومقارعة طواحين الهواء، فبمجرد وجود أزمة اقليمية أو دولية يجب أن تتوقف الحياة ويمتنع النقاد والمحللون عن الخوض في القضايا المطروحة، وبالتالي فإن كل من يتجرأ على طرح قضية غير واردة في أجندة الاهتمامات العقائدية، يصبح طرفا في مؤامرة أمريكية وصهيونية، وكل من لم يساير القطيع يضحي نعجة قاصية لا بد للذئب من أن يتعشاها.
عندما ينظر المرء إلى هؤلاء الأعداء الأمريكان والصهاينة، يجد أن حكوماتهم تعاني الأمرين من نقادها ومن المتضاهرين المحتجين من مواطنيها على سياساتها في عز الحرب والأزمة، أما في بلادنا السعيدة فإن قائد حركة إسلامية منع النقد والتغيير بقرار جمهوري أو ملكي لمدة شارفت على العقدين، لا لشيء إلا لأن الزمن زمن أزمة، ومن الخيانة الحديث عن الوهن زمن الأزمات، وهو الأمر نفسه الذي سار عليه صدام طيلة ما يقارب العقود الأربعة في الحكم، والأسد وابنه أيضا، ومن قبل عبد الناصر وحكام عرب كثر، كانت أوقاتهم دائما أزمة، ولهذا وجب الصمت، ولأن الجزيرة تخرج من تغطية أزمة لتذهب لتغطية أخرى، - و ليس أغنى من العالم العربي بالأزمات-، فإنه سيكون من الواجب الصمت على النقد دائما، ولا بأس من كتب المديح الصادرة، الواحدة تلو الأخرى، ومن الإدلاء ببيانات البطولة بنفسها على مسامع مشاهديها، تماما كما تفعل تلفزيونات الأنظمة المتهافتة.
ختاما، لا بد من الإجابة على السؤال المطروح في عنوان المقالة، فما سر اهتمامي (غير المفاجئ بالجزيرة)، ولماذا أهتم بالإخوان؟.. أما الجزيرة فلأنها برأيي أهم من الجيوش العربية مجتمعة، وهي آلية في غاية الأهمية بالنسبة لمشروع التغيير الديمقراطي في العالم العربي، ولهذا لا بد من العمل لاستعادتها وتوظيفها في هذا السياق، وتحريرها من الخطاب الشعبوي والشعاراتي الذي طالما كان سببا في الهزائم الحضارية المتكررة التي يجب أن لا تكون قدرنا. وأما "الإخوان" فلأنني كنت ولا أزال من دعاة دمجهم في السياق الديمقراطي، ومن المؤمنين بأنه لا حل إلا بترويضهم ديمقراطيا بدل تهميشهم ومحاربتهم وإقصائهم، ومن هذا المنطلق فإن سلوكهم الفئوي الضيق في تسيير الجزيرة، لا شك وأنه يقوي من حجج الدعاة إلى استئصالهم.. وليس الأمريكيون على أية حال من بين هؤلاء، بل إن في الكنيست الإسرائيلي نفسه نواب عن الحركة الإسلامية، ويا لها من مفارقة.
كاتب تونسي