كتَّاب إيلاف

رجالات لبنان بين الحكمة والتخاذل

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

ليس من الخفي ولا من قبيل المبالغة القول أن ما يتحدد الآن ليس مصير لبنان وحده، وإنما مصير الشرق كله، الصراع واضح الآن بلا أي أقنعة، فالكيان اللبناني الجميل والرهيف، ومعه الشرق الكبير بعامة أمام طريقين لا ثالث بينهما:

- أن يمسك بمقاليد الأمور فيه العقلاء ودعاة السلام والحداثة والليبرالية، ليقوموا بإنهاء الصراعات وفك الاشتباكات بيننا وبين العالم، تمهيداً للبدء في رحلة التغيير والتحديث الطويلة والشاقة، سعياً لالتحاق شعوب هذه المنطقة بالمسيرة العالمية، لتحذو هذه الشعوب حذو سائر البشر، في السعي نحو توفير حياة أفضل للأبناء والأحفاد، والتوقف عن الاندفاع المحموم نحو التخريب والتدمير لكل ما هو إنساني وحضاري.

- أن يستكمل المتهوسون من مجانين الكراهية اختطاف شعوبنا، والسقوط بها في هاوية لا رجعة فيها، في مواجهة العالم كله، لنصبح آفة البشرية وطريدتها، فنركز كل جهودنا على إنجاز أكبر قدر ممكن من التدمير لمراكز الحضارة العالمية والإقليمية، ليطاردنا العالم ويعمل فينا قتلاً وتدميراً، كما تُطَارَد الذئاب والعقارب، يدمر مدننا وقرانا، ويتتبعنا في الكهوف والجحور.

نقول أمامنا طريقان لا ثالث لهما ليس من قبيل العجز عن رؤية الظلال وتعدد درجات اللون الواحد، ولا من قبيل التعصب وأحادية الفكر ورفض الاعتراف بالآخر، ولكن لأن حالتنا الراهنة حالة غير اعتيادية وربما غير مسبوقة في تاريخ البشرية، حالة استقطاب حادة بين معسكر الحضارة ومعسكر أعداء الحياة ذاتها، هذا الاستقطاب الحاد والذي لا يقبل الحلول الوسط واضح من الناحية النظرية في مقولات الطرفين، طرف ينادي بالحداثة والاحتفاء بالحياة وبإثرائها، والطرف المقابل يريد أن يهدم كل ما تم تشييده على رؤوس من شيدوه، للعودة للبداوة والتصحر والتداوي ببول الإبل، وتمجيد الموت والازدراء بالحياة، طلباً للنعيم في حياة الأخرى، ومن الناحية العملية يتضح الاستقطاب الحاد بين المعسكرين من حالة العنف والتدمير المجنون الذي شهدته المنطقة منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001، التاريخ الذي ذاقت فيه القوة العظمى في العالم الثمار المرة لما تم استزراعه ورعايته في منطقتنا، يظهر أيضاً فيما يحدث في العراق من صراع دموي مجنون، يستعصي على الفهم والتحليل والتبرير، لكنه يؤكد أمراً واحداً هو أن شعوب المنطقة قد أصيبت بسرطان يتفشى في كل أعضائها، ليدمر كل ميراث الحضارة والإنسانية في عقول وقلوب قطاعات واسعة من الجماهير العاجزة عن التفكير والتمييز.

نبت الفيروس المدمر بالمنطقة آخذاً صورة الفكر القومي العروبي، والذي لاشك بدأ بسلامة طوية، هادفاً لخلق حالة من التعاون والتكافل بين شعوب المنطقة، يتيح لها الوقوف نداً محتملاً للقوى العالمية الكبرى، في عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى، لكن نظراً لطبيعة المنطلقات النظرية لذلك الخطاب القومي، وربما أيضاً نتيجة طبيعة الثقافة السائدة بين شعوب المنطقة منذ قرون طويلة، تباعد الخطاب عما يمكن اعتباره نهجاً إيجابياً محفزاً على البناء والتحضر، عبر التعاون بين شعوب المنطقة في كافة المجالات، وعبر تقديم المنطقة لمختلف شعوب العالم، بوصفها مركزاً أساسياً وفعالاً من مراكز دعم ورفد الحضارة الإنسانية، بدلاً من ذلك أخذ ذلك الخطاب نهجاً فاشياً، اعتمد على تجميع الشعوب ليس حول مصالحها المشتركة، ولكن على قاعدة الكراهية والتخوف والعداء للآخر، وربما بدا للصفوة وللحكام الراديكاليين في أنظمة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أن هذا النهج هو الأسهل والأكثر فاعلية في استثارة الجماهير العاطفية والجاهلة في الأغلب الأعم، فلم يكن لدى الزعماء شديدو الطموح متسع من الوقت للسير في رحلة بناء طويلة وشاقة، تفتقد لبريق الشعارات التي يمكن أن توقظ الجماهير التي أدمنت السبات في غفوتها الطويلة، كما افتقدوا هم والصفوة المحيطة بهم الرؤى الإيجابية الخلاقة.

إزاء خيار الفكر الفاشي العروبي كعامل تجميع لعقول وقلوب الجماهير، كان وجود إسرائيل في قلب المنطقة هدية مجانية، بل وعامل إغراء وترجيح لهذا الخيار، فقد أتاح هذا على المستوى القومي رفع شعارات تحرير أرض العروبة المسلوبة بواسطة شعب غير عربي، وعلى المستوى الفكر الديني المتأصل بالمنطقة تم المناداة بقتل وقتال اليهود أعداء الله، وقد تضافر الجانبان معاً للتركيز على قضية فلسطين بالذات دون سواها من القضايا العربية التي تزامنت معها، مثل قضية لواء الإسكندرونة السوري الذي التهمته تركيا، فقد وجدت القضية طريقها إلى غياهب النسيان ثم التصفية بالتخلي، لعدم استكمالها لمقومات استثارة الجماهير، فالطرف المقابل هو تركيا المسلمة، مما يفقد القضية الجناح الأهم في تعبئة عواطف الجماهير حديثة العهد بمشاعر الانتماء القومي، بعد عهود طويلة من العيش في ظلال الخلافة الإسلامية العثمانية.

هكذا كانت إسرائيل أيضاً بعد فضيحة وانكسار النهج القومي عام 1067 هي عامل الترجيح لتنامي المد الديني المتأسلم، والذي بلغ درجة من الجماهيرية والتعصب المتهوس، لم يبلغها سلفه المد القومي، أيضاً شاءت الصدفة أن يكون الخلف أوفر ثراء، وقد جاء في زمن الثروات البترولية الفلكية، لتنتقل مراكز إشعاع التيار الراديكالي الجديد، من النظم العسكرية الثورية اليسارية النهج، إلى النظم التقليدية المحافظة ذات الطابع الديني، والجالسة فوق خزائن البترول العامرة.التطرف الديني الأصولي الراهن إذن هو ابن شرعي للتطرف القومي، الذي لم يعدم حتى الآن فلولاً تعمل للتخديم على الحصان القوي الجديد، ويعني هذا أن ما أسميناه سرطان التعصب والكراهية المتفشي بالمنطقة هو داء أصيل ومتوطن، وليس مجرد عاصفة عابرة، وهو يتحرك بثبات وثقة مستنداً إلى عوامل قوته المادية والثقافية الجديرة بالاعتبار، وهو لهذا لم ولن يقبل بأنصاف الحلول، أو ما يسمى بالحلول التي ترضي جميع الأطراف، فهذا مخالف لطبيعة هذا الفكر، ومخالف أيضاً لموازين القوى على أرض الواقع، وحين نقول بهذا فإننا لا ننطلق من رفضنا نحن لتواجد هذا الفكر بالساحة التي نسعى لأن تكون ليبرالية، لكننا ننطلق من رفض هذا الفكر لأن يكون له شريك، فهو يصادر الوطن ويصادر الدين، ليمتلك الدنيا وهو يلوح لنا بمفاتيح الآخرة، ولنا في قضية حزب الله خير دليل على صحة قراءتنا.

حزب الله يصادر الدين لصالحه بداية من التسمية التي اتخذها لنفسه، فهو ومن يشايعه حزب الله، في مقابل حزب الشيطان الذي يضم الآخرين، ويصادر الدنيا بما يمتلك من دولارات (لم تعد أمريكية نجسة بعد أن ضمتها جيوبه المقدسة)، وبما يمتلك من أسلحة وصواريخ، والأهم بما يمتلك من شعبية جارفة، تقبل الدمار والموت في سبيل معاركه، تخلصاً من بؤسها الراهن، وطمعاً في نعيم الآخرة.

قبل أحداث 12 يوليو (تموز) 2006 كان هنالك سؤال تمت الإجابة عنه بالإيجاب:
هل يصلح حزب الله بظروفه وتكوينه هذا لأن يكون أحد أطراف معادلة لبنانية، تضم ضمن ما تضم ليبراليين من دعاة الحداثة والانفتاح على العالم؟
بتأثير وهم الإجابة بالإيجاب، وبدافع من الإخلاص في الدعوة والإيمان بالوحدة الوطنية، وتحت ظلال انعدام القوة العسكرية، راحت القبائل الليبرالية اللبنانية تحاول ترويض حزب الله، تشكل معه حكومة مشتركة، دون أن تتساءل عن الأساس الذي ستبنى عليه هذه الشراكة، هل هو الانفتاح على العالم، سواء الكافر أم المؤمن، أم هو أساس محاربة العالم والكفار أينما وجدوا؟!
راح الليبراليون أيضاً وبراءة الملائكة في عيونهم يحدثون حزب الله عن نزع سلاحه، أو يلفلفون طلبهم في عبارات مطاطة مثل دمجه في الجيش اللبناني، وكانوا يتلقون إجابات مراوغة ومعسولة، صدقوها أو تظاهروا بتصديقها، بدافع من الحكمة أو قلة الحيلة، بل ودفعت حالة الغيبوبة الهلامية تلك العماد ميشيل عون، من كنا نعتبره بطل التحرير، إلى ركوب حصان الرهان (حزب الله) ليصل إلى رئاسة الجمهورية، دون أن يتوقف ليسأل نفسه أي جمهورية تلك سيتخايل في ربوعها على ظهر حصانه الجامح.

كان صبر جماعة 14 آذار جميلاً خلال جلسات الحوار الوطني، وكان المشهد بالنسبة للمراقبين هزلياً، ونحن نرى حملاناً تتفاوض مع ذئب على خلع أنيابه وتقليم مخالبه، ومع ذلك فلقد كان من الجيد أن لم يتوقفوا هم عن الحوار والمحاولة، وجاء كل ما حدث بعد ذلك منطقياً وطبيعياً، فلقد انتهز الذئب فسحة من الوقت بين جلسات الحوار المثمرة، راح يمارس فيها بعض الفعاليات التي تمليها عليه طبيعته، فكان أن تحطم لبنان، لكن حزب الله يدعي -وربما عن حق- أنه انتصر، ما بقيت لديه القدرة على إيقاع المزيد من الأذى ولو الرمزي بإسرائيل، حتى لو أدى هذا إلى انتقال كل الشعب اللبناني إلى جنة الخلد، وتحولت جنتهم الأرضية (مروج لبنان ومدنها الزاهرة) إلى أرض محروقة وحفر تتجمع فيها المياه الجوفية وبقايا جثث الشهداء!!
ما كان قد كان، بشرط أن تتعلم الأمم من دروس الحياة، ويمكن لهذا أن يتحقق بالحذر من كل تشويش يعوقنا عن أن نعي الدرس جيداً، ولنستعرض بعض ما نسمع في الأجواء من تشويش:

-التركيز عن مسئولية سوريا وإيران عما يحدث الآن، لا ينبغي أن يصرفنا عن حقيقة أن الأطراف الخارجية لم تفعل أكثر من توظيف واقع لبناني وعربي أصيل ومتجذر، فلبنان -شأن كل شعوب المنطقة- لديه جماهير تعيش في بيئة ثقافية متعصبة، وتتعرض لغسيل مخ من وسائل إعلام تمجد قيم العداء والقتل والكراهية، وتجعل من المجرمين أبطالاً، ومن المنادين بالسلام خونة ومنبطحين، جماهير تمجد الموت وتعزف عن الحياة، هذه الجماهير وتلك الثقافة هي ذخيرة تستدعي أي لاعب ماهر ليوظفها كيفما شاء، ما دام يسعى في ذات الاتجاه التدميري إلى حد الانتحار، بالطبع من المفيد هنا كإجراء عاجل أن نقطع الأيدي الخارجية العابثة، لكن الحل الدائم لا يتأتى إلا باستئصال أورام التطرف السرطانية.

-الأصوات المخادعة التي تنادي الآن بأولية وقف إطلاق النار، وترك مسألة نزع سلاح حزب الله للحوار الوطني بين اللبنانيين، تريد تفريغ الدرس من محتواه، في محاولة للخداع بعد أن تولى حزب الله بنفسه الكشف عن حقيقته، وعن استحالة أن يقوم طواعية بالتخلي عن أنيابه ومخالبه، وبأن تفكيره وأيديولوجيته المبنية تكفير الآخر ونفيه لا يفيد معها حوار، فالحوار كلمة لا وجود لها في قاموس تلك الجماعات.

- الأحاديث - ولو الخجولة- عن نزع سلاح حزب الله، ليتحول إلى قوة سياسية مع سائر القوى اللبنانية، هذا الفكر لا ندري بأي لفظ - لا يخرج عن اللياقة- يمكن أن نصفه، المشكلة ليست أبداً في سلاح حزب الله، فهو لا يمتلك غير صواريخ تافهة وبدائية، لا تزيد فاعليتها كثيراً عن فاعلية القنابل اليدوية، التي يمكن أن يتسلل أي فرد ويلقي بها في الموقع المراد تدميره، كما تفعل المنظمات الفلسطينية، والمصريون يشبهون أمثال تلك القذائف بالطلقات التي تطلق في فرح العمدة، مشكلة سلاح حزب الله في الفكر الذي يحرك حاملي هذا السلاح، الفكر المتأسس على الإجرام واللا إنسانية، فإذا ما تحول حزب الله إلى قوة سياسية بذات الخطاب، فأي التقاء معه تحت قبة برلمان أو دواوين حكومة، أو لم نر جميعاً ما فعلته جماهيره وبدون سلاح في قضية البرنامج التليفزيوني الساخر الذي تناول السيد، ثم رأينا ما فعلته ذات الجماهير وقلة مخدوعة معها بمقر الأمم المتحدة خلال الأحداث الجارية؟!

إن الدولة الحديثة القابلة للتطور والنمو لا تقع في منطقة وسطى بين الليبرالية والفاشية الأصولية، وعلى رجالات لبنان العقلاء والحكماء وكذا المتخاذلين المتسربلين بلباس الحكمة والتعقل، على كل هؤلاء أن يكفوا عن خداع أنفسهم، وأن يواجهوا ما عليهم مواجهته بشجاعة، فلم يبق من لبنان الكثير الذي لم يدمر، ومن العبث إعادة التعمير والبناء المادي، لتعود الفاشية الأصولية الدفع به إلى الجحيم والدمار، فليس من المنطقي أن يظل لبنان ومعه المنطقة كلها في دورات لا نهاية لها من التدمير وإعادة البناء، دورة عام 1956 على يد العروبيون، ثم دورة 1982 على يد الفلسطينيين والعروبيين، والثالثة والتي نرجو أن تكون الأخيرة على يد من يدعون أنهم حزب الله.
الأمر كما في لبنان هو كذلك في العراق وفلسطين وأفغانستان وباكستان وإيران والسودان وكل مساحة الشرق الكبير، هو خيار فرض علينا، خيار ما بين الموت والحياة، إما أن نختار الموت لنحطم ما تصل إليه أيدينا ليكون مصيرنا النهائي الدمار كما تشير موازين القوى، وإما أن نختار الحياة فنهم باستئصال سرطان التطرف من عقولنا وقلوبنا وثقافتنا، ونمد أيدينا للعالم سعياً لمستقبل أفضل للإنسانية.
kamghobrial@yahoo.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف