كتَّاب إيلاف

شاهد على تدمير بيروت (1/4)

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

ربمّا كنت آخر الواصلين إلى بيروت مساء الثاني عشر - 12 - من تموز - يوليو 2006 في الرحلة المتوجهة من العاصمة السويدية ستوكهولم و إلى العاصمة اللبنانية بيروت، ولا أدرى ماذا حدث بالضبط عندما كنت أحجز تذكرة السفر إلى بيروت، فلأول مرّة في حياتي أحجز تذكرة الذهاب دون الإياب ولم أكن أتصور مطلقا أنني سأغادر بيروت الحبيبة على متن باخرة شحن نقلتنا من العاصمة بيروت و إلى قبرص فستوكهولم في الثامن عشر - 18 - من تموز - يوليو 2006.
في الطائرة التي أقلتنا من ستوكهولم و إلى بيروت كان الكل مسرورا بالتوجّه إلى العاصمة التي أحبها الجميع فبيروت في الذاكرة العربية و الراهن العربي أصبحت رمزا لكل الشيئ للفكركما للثقافة و التنوع والفن و المقاومة..و قد إرتبط تاريخ بيروت بالصراع العربي - الإسرائيلي إلى أبعد مدى، فبيروت و مقاوموها أنجزوا للعرب والمسلمين أول إنتصار في مطلع الألفية الثالثة..
إستغرقت الرحلة من ستوكهولم و إلى بيروت حوالي أربع ساعات أنهيت خلالها قراءة كتاب أمة من الغنم لكاتب أمريكي يعتبر فيه أنّ الحكومة الأمريكية تعتبر الشعب الأمريكي أمة من الغنم وأنّ الحكومة الأمريكية ومؤسساتها تخدع الشعب الأمريكي بوسائل إعلامية و سياسية وإستخباراتية متنوعة..
كان في إستقبالي في بيروت رجل على إطلاع واسع بالموقف الميداني في جنوب لبنان بادرني بالقول لقد وصلت في الوقت غير المناسب إلى بيروت، لأنّ حزب الله نجح في خطف جنديين إسرائيليين وقتل ثمانية، فعملية كبيرة ونوعية من هذا القبيل سيواكبه ردّ فعل جنوني من قبل الكيان الصهيوني، فقلت له أريد أن أخبرك أنني
لم أحجز تذكرة العودة، ناهيك عن أنني عشت كل مراحل المأساة اللبنانية و سأكون بدءا من يوم غد أمام حدث سيغيّر مسار حركة التاريخ في العالم العربي.
في تلك الليلة أي ليلة الثاني عشر من تموز- يوليو 2006 بلغني أنّ حزب الله إستدعى كافة عناصره بل كل جيشه الذي لا يعرف أحد تقديره لكن بالتأكيد يفوق المائة ألف عنصرا للإلتحاق بمواقعهم، كل في موقعه المقاوم العسكري في موقعه والراصد في موقعه والإعلامي في موقعه و أعترف أنّ حزب الله يملك قدرة رهيبة على تنظيم نفسه وقد حمى نفسه من الإختراف الأمني الكامل سواء أكان إختراقا محليا أو إقليميا أو دوليّا...
عناصر جيش حزب الله كلهم مؤمنون عقائديون هاجسهم الدعاء والعبادة وقراءة دعاء كميل في ليالي الجمعة و هم يعشقون الشهادة كما يعشق الصهاينة الحياة، و يملك معظمهم خبرة قتالية عالية لأبعد مدى..
وفي نفس الليلة صدر أمر بإخلاء الضاحية الجنوبية و كافة المؤسسات التابعة لحزب الله وذلك مؤشّر على أنّ حزب الله أخذ في حساباته السياسية إستهداف مراكزه كل مراكزه و أبعد منها.
إذن هي أجواء حرب تسود لبنان وهل هناك أخبر من حزب الله في معرفة تفاصيل النيات الإسرائيلية....
قمت بجولة ميدانية في الضاحية الجنوبية ليلة الثاني عشر من تموز، كان الناس كل الناس على أهبة الإستعداد لمواجهة الكيان الصهيوني، عجوز قالت لي : اللهم خذ عمرى وأطل عمر حسن نصر الله زعيم المقاومة الإسلامية في لبنان، كان الناس يستعدون لمغادرة الضاحية وتحديدا العوائل بإتجاه الجبل في بحمدون والقماطية و كيفون وعالية وغيرها، وأنا أتجوّل في الضاحية الجنوبية طلب من عنصر من عناصر
حزب الله هناك بترك الضاحية فورا حفاظا على سلامتي لأنّه كان يشاهد بعض برامجي في قناة الجزيرة وغيرها من الفضائيات العربية، فقلت له و إذا غادرت المكان فمن ينقل صمودكم و جهادكم ضدّ الكيان الصهيوني الذي يذبح إخوتنا في فلسطين إلى الرأي العام العربي و الدولي.
و بعد لقاءاتي المتعددة والمتنوعة تشكلّ لديّ إنطباع بأنّ لبنان مقبل على عاصفة ليست كالعواصف السابقة، وتسنى لي أن أنام ساعتين فقط في تلك الليلة بين الساعة الرابعة وإلى السادسة..
وأعترف أنّه بعد الإتصالات التي أجريتها بمختلف المصادر تكونّ لديّ إنطباع حقيقي بأننا على أبواب حرب ضروس لأنّ الكيان الصيوني صفع في عموده الفقري و الذي هو المؤسسة العسكرية، غير أنني لم أتصور أنّ الإبادة الإسرائيلية ستكون بهذه الطريقة للبنان، فقد غطيت كل المآسي اللبنانية و أعترف أنّ ما شاهدته بدءا من الثالث عشر من تموز في لبنان فاق كل مشاهداتي المأساوية السابقة...
في الثالث عشر من تموز قمت بجولة أخرى في ضاحية بيروت الجنوبية و أجريت إتصالا بالصديق العزيز غسّان بن جدو مدير مكتب الجزيرة في بيروت وقد نصحنى غسان بضرورة ترك بيروت فورا لأنّ المنطقة مقبلة على تطورات دراماتيكية، لم أسمع لنصحيته لأنّ الصمود في هذه الحالة يصبح واجبا، كنت على موعد مع صحفي في تلفزيون المنار لكن قبل وصولي إلى هناك بعشر دقائق قصف مبنى التلفزيون عن بكرة أبيه، إنها الحرب إذن قد بدأت فعليا...
تقديرات البعض في بيروت كانت تشير إلى أنّ إسرائيل ستستهدف مؤسسات حزب الله، لكن الذي حدث أنها دمرت لبنان من أقصاه و إلى أدناه ، فمطار بيروت الدولي الذي كنت أتابع قصفه من الجبل اللبناني في بلدة كيفون التي تطل بشكل كامل علىضاحية بيروت الجنوبية حيث تصبح الضاحية أماك كلوحة محترقة تحول إلى مكان للأشباح، ولم تشبع الألة الحربية الصهيونية من حرق صهريج واحدللوقود، فقامت بقصف كل الصهاريج التي ظلت النيران تشتعل فيها لمدة خمسة أيام..
لم تدع إسرائيل أي شيئ على حاله في لبنان، فقد دمرت البيوت والطرق و الجسور ومحطات الكهرباء وسعت إلى تفكيك الجغرافيا اللبنانية تفكيكا كاملا، و فصلت كل المناطق عن بعضها البعض ليتسنى لها لاحقا كما تزعم الإنقضاض على رجال المقاومة بعد حرمانهم من الإمدادات..
وعندما قصفت إسرائيل جسر المطار الواقع في بلدية الغبيري كنت متواجدا في نفس المكان على بعد 500 متر شعرت كأنني أقفز فوق الأرض تلقائيا، فالصورايخ التي تقصف تحفر الأرض وتخرمها ثمّ تنفجر القنبلة في باطن الأرض محدثة إرتدادات كإرتدادات الزلازل، و بعد ساعة واحدة من التفجير إلتقيت بزميلي غسان بن جدو حيث تحدثنا عن خطورة المرحلة المقبلة ونصحني مرة أخرى بمغادرة بيروت بأي طريقة..
في هذه الأثناء فتحت إسرائيل فوهات نيرانها البحرية والجوية و الأرضية بإتجاه كل شيئ متحرك في لبنان بحيث تمكنوا وفي ظرف يومين من ردم لبنان بشكل كامل، و حسنا فعل رجال المقاومة عندما منعوا التصوير في الضاحية الجنوبية، حيث بعد الضربات الأولى ونشر صورها في الصحف اللبنانية إستفاقت إسرائيل إلى الأماكن التي لم تضرب فعاودت قصفها بالكامل..
مقاوم لبناني قال لي أنقل للرأي العام العربي والعالمي أننا لم نتحرك لحدّ الآن و أن أبا هادي حسن نصر لا يمكن أن يغامر بمصير الأمة الإسلامية و لذلك ترقبوا النصر ، لكن الصمود ضروري في هذه المرحلة، و بدأت صورايخ الكاتيوشا والرعود بكل أقسامها تنزل على حيفا وعكا وطبريا ونهاريا..أقسم هذا المقاوم أنّه لدى المقاومة الكثير الكثير..
و إسرائيل التي كانت تهزم الجيوش العربية في بضعة أيام وأمريكا التي أسقطت النظام العراقي في ظرف أسبوع لم تتمكن من الإجهاز على المقاومة الإسلامية في لبنان التي غيرت قواعد اللعبة فمن اليوم فصاعدا إذا ضربت إسرائيل ستضرب - بضمّ التاء وإذا صفعت ستصفع - بضمّ التاء أيضا -
حرب تختلف عن كل الحروب السابقة.
قد يمحى كل شيئ من ذاكرتي، الأشياء الجميلة التي مرّت بمسلسل حياتي و الأشياء المؤلمة و المحزنة والتي منها فقدي لإثنين من إخوتي في الجزائر في أقلّ من خمسة أشهر، حيث مات أخي الكبير عبد الرحمان وبعد ذلك بخمسة أشهر توفيّ أخي الذي يصغره بسنتين وعمره خمسون سنة، إحتسبت ذلك عن الله و قلت إنا للّه و إنّا إليه راجعون..كل ذلك قد تطويه ذاكرتي وينشغل العقل بقضايا أخرى ملحّة في الحياة، غير أنّ البربرية الصهيوينة التي شاهدتها في بيروت ولبنان بشكل عام بدءا من الثالث عشر من تموز - يوليو 2006 لا يمكن أن تمحى من ذاكرتي وسوف تظل مشاهد التدمير الصهيونية لعاصمة الثقافة والفكر والجمال تلاحقني إلى أن ألتحق بإخوتي عبد الرحمان ورشيد رحمهما الله تعالى..
لقد كنت في بيروت و لبنان بشكل عام منذ بداية إستباحته من قبل الألية العسكرية البربرية الصهيوينة، فشاهدت مشاهد لم يسبق لي أن شاهدتها حتى في أفلام هوليهود ذات الجودة العالية في مجال الخدع السنيمائية، ربما بعض مشاهد إنهيار برلين عقب الحرب الكونية الثانية تشبه حالات الدمار في لبنان كل لبنان....
لكن قبل الغوص في تفاصيل مشاهداتي اليومية التي كانت مسجلة بالصوت والصورة والقرطاس والقلم، فهل كانت عملية إستباحة الجغرافيا اللبنانية نتيجة لخطف حزب الله لجنديين إسرائيليين وبمعنى أوضح هل كانت هذه العملية سببا أو ذريعة...
مصادر حزب الله ولدى تقييمها للعملية تشير إلاّ أنها كانت تتوقّع الردّ لكن ليس إلى هذه الدرجة من الهمجية المطلقة، وهو الأمر الذي يؤكدّ أنّ العملية الإسرائيلية كانت مخططة سلفا وبالتالي فخطف الجنديين الإسرائيليين كان ذريعة للعملية العسكرية في لبنان وليس سببا...
فالكيان الصهيوني الذي يرصد بدقة مسار تطور حزب الله سياسيا وعسكريا على الساحة اللبنانية، كان يأمل أن تنفلت الأوضاع بعد إغتيال رفيق الحريري وينجرّ لبنان إلى دائرة المجهول، و بالتالي يتورطّ حزب الله في المستنقع اللبناني الداخلي وينخرط في الفتنة الداخلية الأمر الذي يجعله يقصّر في أدائه العسكري في الجبهة الجنوبية وعلى سلاحه أيضا..، و أصحاب هذه النظرية يجزمون أنّ الموساد الإسرائيلي يقف وراء إغتيال رفيق الحريري..
وعندما عجزت إسرائيل عن إرباك الوضع الداخلي اللبناني، حاولت إيجاد شرخ في الجدار الوطني اللبناني عبر دعم قوى سياسية طالبت بإقالة الرئيس اللبناني إميل لحود و تجريد حزب الله من سلاحه و تنفيذ القرار 1559، وعندما نجح حزب الله و حركة أمل ممثلة في الرئيس نبيه بري وتيار ميشيل عون في إبقاء لحود في مكانه إلى تشرين الثاني المقبل 2007 و تأجيل النظر في سلاح المقاومة، تخوفت إسرائيل من إخفاق مشاريعها السياسية في لبنان و التي أرادت لها أن توصل لبنان إلى حافة القرار 1559، إنتقلت إلى الخطوة التالية وهي عسكرة القرار الأممي القاضي بتجريد حزب الله من سلاحه و حصلت على دعم أمريكي واضح للشروع في المهمة و بدأت المهمة الصهيونية القذرة في لبنان.
لجأ الجيش الصهيوني في لبنان إلى دكدكة الجغرافيا اللبنانية وتفكيكها و تحطيمها و تمزيقها إلى جغرافيا مهشمة، ولهذا بادر إلى قصف كل الجسور الفرعية والرئيسة والطرقات الفرعية والمركزية، بالإضافة إلى البيوت والمدارس و المصانع ومحطات الكهرباء من طرابلس و إلى صور...وكان الخبراء العسكريون الإسرائيليون يتصورون أنّ هذه الخطوة ستحول بين المقاومين في حزب الله والحصول على الإمدادات، وفيما يتعلق بقصفهم للمطار والطرق المؤدية إلى دمشق عبر ظهر البيدر والشمال اللبناني، فكان الجيش الإسرائيلي يتوقع
أنّ حزب الله سيهرّب الأسيرين الصهيونيين مثلما جرى تهريب الطيّار رون آراد حسب زعمهم.........
كان واضحا منذ البداية أنّ الكيان الصهيوني يهدف إلى تأليب الشعب اللبناني بكل شرائحه على المقاومة، وهي الخطوة الأولى لإفراغ حزب الله من مكانته الشعبية، غير أنّ الشعب اللبناني لم تنطل عليه اللعبة عندما شاهد بأم عينه ردم منزل بيت السيد حسن نصر الله في المربع الأمني في ضاحية بيروت الجنوبية، وكذلك بيوت معظم القادة السياسيين والميدانيين لحزب الله، بالإضافة إلى ذلك فإنّ الشعب اللبناني يعتقد جازما وهذا ما تجلى لي بوضوح من خلال حوارات متعددة مع مختلف الشرائح اللبنانية أنّ حزب الله يحمل همه و يتعاطى مع مشاكله بشكل مباشر و يحلها بشكل مباشر أيضا، فمؤسسات حزب الله تقدم الدعم المادي والطبي و المدرسي لكل المحتاجين والفقراء وبدون شروط.....
ويبدو أنّ إسرائيل تقرأ حزب الله وظاهرته إنطلاقا من خلفيتها السياسية العدوانية وليس إنطلاقا من الواقع اللبناني و التفاعل الموجود بين حزب الله وقاعدته الجماهيرية...
و قد تعودّ اللبنانيون أن يقصدوا السيد حسن نصر الله في كل صغيرة وكبيرة، فالبنت التي تريد أن تتحجبّ تذهب إلى السيد أبي هادي في الضاحية الجنوبية ليكون أول من يغطي شعرها إمتثالا للآية القرآنية التي تلزم المرأة بالحجاب ، و البنت التي تريد أن تتزوج تذهب إلى السيد حسن نصر الله ليعقد قرانها، و قد خبرتني فتاة لبنانية تدرس مادة الإعلام في الجامعة اللبنانية و تسكن في بلدة القماطية أنّ السيد حسن هو الذي عقد قرانها على زوجها غير أنها أجلت الزواج أو الدخلة بتعبير اللبنانيين إلى يوم ينتصر فيه نصر الله على الكيان الصهيوني الذي أذلّ العرب والمسلمين على مدى نصف قرن ويزيد....

يتبع

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف