التضامن مع الجزيرة.. دعوة للقتل
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
أذكر أنني قمت سنة 1997 بتنظيم ندوة للأستاذين الدكتور نصر حامد أبو زيد والدكتور حسن حنفي، في إحدى دور الثقافة في مدينة روتردام الهولندية، حول "الإسلام والحداثة"، وكانت حينها أول ندوة علنية تنظم للدكتور أبو زيد خارج أروقة الجامعة بعد محنته المعروفة. وقد جاءني ليلة تنظيم الندوة بعض الشباب المغتربين من أعضاء إحدى الحركات الإسلامية المغاربية، وطالبوني حينها بإلغاء الندوة لأن فيها اعتداء على مشاعر المسلمين، فالضيف الرئيسي للحدث "كافر" و"مرتد" و"زنديق"، لا يجوز الترويج لأفكاره ومعتقداته.
رفضت دعوة الإلغاء بشكل لا يقبل النقاش، وشرحت للشباب أنني لست أقدس شيئا قدر الحرية، وأن ما يمكن أن ألام عليه فعلا هو أن أحرمكم حق النقاش إذا حضرتم الندوة غدا وطلبتم الكلمة، أما غير ذلك فإنني لن أقبل حتى لو كان الثمن دمي، وما جئت هذا البلد مهاجرا إلا طلبا للعيش في مجتمع حر، يفكر فيه المرء ويقول ويكتب كما يشاء. نظمت الندوة واستهل الدكتور نصر كلمته بالبسلمة والصلاة على محمد وآل محمد، فبهت القوم، وغادر بعضهم القاعة مسرعين، وقد جاءوا إليها مسلحين بالعصي والهراوات رغبة في الدفاع عن حياض الله وشرف الدين والأمة.
قبل ما يقارب الشهرين، وبالتحديد قبل أيام قليلة من افتتاح الدورة السادسة لمهرجان الفيلم العربي في روتردام، الذي تشرفت بتأسيسه وإدارته منذ مطلع القرن، وصلتني دعوات مشابهة للإلغاء، لكن الأمر يتعلق هذه المرة بفيلم "ماروك" للمخرجة المغربية الشابة "ليلى مراكشي"، الذي جرت برمجته ضمن برنامج خاص خارج مسابقات المهرجان، يحمل عنوان "قافلة السينما العربية الأوربية"، وقد استندت الدعوة أيضا إلى أن الفيلم يتضمن إساءات للإسلام، وأن مخرجته الشابة "كافرة" و"مرتدة" و"زنديقة".
تهديدات دعاة الإلغاء بلغت الصحافة الهولندية فكتبت عنها بإسهاب، وهو ما دفع أجهزة الأمن للاتصال بي عارضة علي توفير حماية خاصة، لأنهم يتوقعون أن تتحول التهديدات الكتابية إلى ممارسات عملية، غير أني رفضت ذلك بشدة. جوابي أنني أرفض الخضوع لسلطان الخوف، وأنني أعيش في بلد حر وديمقراطي يوفر الكلمة للجميع، وأن هؤلاء المعارضين للفيلم مرحب بهم في قاعات العرض، لمناقشة العمل والتعبير عن آرائهم بكل حرية، كما أن برنامج المهرجان حافل بأفلام تشيد بالإسلام، من بينها فيلم "الرحلة الكبرى" للمخرج المغربي الشاب أيضا "اسماعيل فروخي"، وأفلام تتعارض بشدة مع وجهات نظر مدير المهرجان السياسية، في قضايا المنطقة العربية والإسلامية، وخصوصا منها أفلام حول العراق تنتقد بشدة التغيير الذي جرى في بلاد الرافدين، وتعد الدور الأمريكي احتلالا لا تحريرا.
فيلم "ماروك" حقق نجاحا جماهيريا مدويا في الدورة الأخيرة لمهرجان الفيلم العربي في روتردام، حيث كانت القاعة ممتلئة خلال كافة العروض التي برمجت له، بل لقد اضطررنا في إدارة المهرجان إلى برمجة عرض إضافي خاص، وكان هذا الفيلم قاطرة الدورة السادسة حقيقة ودليلا على أن الجدل والحرية أمران متلازمان يزيلان الكثير من "غبش" العقول والنفوس، ويهزمان الخوف الذي يستغله بعض ضيقي النظر للتضييق على العقل واغتيال الإبداع وعرقلة النهضة بذريعة الدفاع الكاذب عن المقدس.
أخيرا، أي قبل أيام، جاء مقالي النقدي ل لخط التحريري والإعلامي الحالي لقناة الجزيرة، واعتراضي على عملية اختطافها من قبل التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وتسخيرها لخدمة خطاب شعبوي فئوي ضيق يبيع الأوهام والمخدرات الدينية والسياسية للشباب، بدل دعم مشروع تحرير العقول وتنويرها ودعم المشروع الديمقراطي العربي، من خلال التركيز على الثغرات في الواقع القطري العربي وفضح مظاهر الفساد والاستبداد فيه، فما كان من الرد الزاعم الغيرة على الدين والعروبة والوطنية، إلا أن جاء مجددا دعوة قتل، وكأن الجزيرة تمثل الأبعاد الثلاثة المذكورة، و أن الإسلام من الضعف بحيث تهز أركانه ندوة لنصر حامد أبو زيد أو فيلم لليلى مراكشي أو مقال لخالد شوكات.
هؤلاء الغيورين جدا على الدين، المهددين بالقتل، "طيور الظلام" كما جاء وصفهم في أحد أفلام الزعيم عادل إمام، و على الرغم من أنهم يزعمون شرف الدفاع عن الدين والعروبة والوطنية لأنفسهم، فإنهم لا يوقعون تهديداتهم أو مقالاتهم بالاسم، إنما بأسماء مستعارة أو بدون أسماء، تماما كما يذبحون الأبرياء في العراق وبلدان كثيرة أخرى، وهم يرتدون أقنعة تخفي وجوههم الجبانة، فإنهم أيضا يحملون ذات الأقنعة وهم يذبحون حرية الفكر والكلمة وينشرون الذعر والخوف في نفوس الناس، حتى لا يتجاوزوا ما يرسمونه لهم من خطوط حمراء قانية بالدم.
صاحب المقال المتضامن مع قناة "الجزيرة"، والمنشور في موقع تونسي معروف، قريب من المعارضة الإسلامية التونسية في الخارج، يعتذر لإخوانه وأخواته في القناة القطرية عما بلغهم من إساءتي وهو مقنع، ربما على غرار المقنعين الذين يرسلون بأشرطة القتل والإرهاب لتكون سبقا صحفيا تحافظ به القناة على الريادة عربيا وعالميا، وقد كان القناع مقبولا لو تعلق الأمر بنص نقدي للحكومة التونسية، لكن الأمر يمضي في حق عبد ضعيف من عباد الله، لا حول له ولا قوة، إلا ما وهبه الخالق عز وجل من "القلم" و "ما يسطرون".
صاحب المقال على غرار الإخراج البعثي و طالباني لا يعتبر الرأي في نقد الجزيرة وجهة نظر، إنما عمالة بينة هدفها "البترو دولار" السعودي، وجزاؤها الإعدام الذي يتوقع أن ينفذه أحد بسطاء الناس، وهو لا يعرف أن مقالات الرأي غير مدفوعة الأجر، وأنها مكتوبة لوجه الله، ووجه الحقيقة والحرية، وأن كاتب الأسطر قد تحدى فيما سبق - وسيظل يتحدى- أن يأتيه أحد بدليل واحد على أنه قبض يوما من نظام أو جهة ثمن ما يكتب من آراء أو يفكر.
الكاتب المجهول صاحب الغيرة على "الدين" و"الجزيرة" يقول ما يلي: "مختصر الكلام أن الفرق شاسع جدا بين وجهات النظر والآراء الحرة والنقد، وبين الاصطفاف خلف الغزاة وتبرير جرائمهم، ومهاجمة من يكشف تلك الجرائم ويشرحها ويعرضها حية ملتهبة أمام أنظار الناس. ولو عاش السيد شوكات أيام ثورة التحرير في الجزائر ودافع مثلا عن مجزرة 8 ماي 1945، متنبأ بأن تكون مقدمة لديمقراطية ينشدها الجزائريون من أفواه مدافع الاحتلال، لوجد من يقتله من بسطاء الجزائريين، الذين يفرقون بحسهم السليم بين الرأي ووجهة النظر وبين الخيانة الموصوفة".
لقد كنت من السباقين لإدانة جريمة إسرائيل الأخيرة في لبنان، حيث كتبت مقالا لا يقبل التحريف أو التأويل، بينت فيه كيف أن الدولة العبرية لا ترغب في التخلي عن طبيعتها الاستيطانية، وأنها لا تعيش إلا على الحروب والجرائم ضد الإنسانية، لكن هذا الأمر لا يستحق أن يقف عنده هؤلاء المتاجرين بالعقيدة والدين، وقد آلمهم أن فضح أحدهم الهوة بين أقوالهم وأفعالهم، وبين شعارات براقة وممارسات حزبية متعفنة، قائمة على الرغبة في الهيمنة وتسخير كافات الإمكانيات والقدرات بأي وسيلة لصالح مشروع شمولي، يهدف إلى تعويض حالة استبدادية تستلهم مبرراتها من الأرض، إلى حالة استبدادية جديدة تعتبر القتل والسحل والإرهاب عملا يتقرب به إلى الله وطاعة..حاشى لله أن يكون قتلة ومجرمون حماة لدينه ورسالاته وكلمته الطيبة لأحبائه وعياله..الخلق عيال الله، وهو حسبهم، حسبي الله ونعم الوكيل.
كاتب تونسي