لنتصارح إذا أردنا أن نتصالح (1)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
جميع المؤشرات في العراق تظهر أن الحرب الطائفية أصبحت قاب قوسين أو أدنى، إن لم تكن قد بدأت بالفعل. ويبدو أن بعض الساسة العراقيين، وعلى اختلاف انتماءاتهم الطائفية، ومعهم بعض المشرفين على المواقع العراقية على شبكة الانترنيت، لا يعرفون ماذا يعني اندلاع هذه الحرب، ولا مقدار حجم الخراب البشري والمادي الذي ستحدثه، أو أنهم، وهذا هو الأصح، يعرفون ذلك كله لكنهم لا يبالون، وشعارهم الأوحد الذي يهتدون به هو:علي وعلى أعدائي يا رب. فهولاء جميعا يتعاملون مع الحرب الطائفية بطريقة تخلو من أي مسؤولية إزاء مصائر الملايين من العراقيين. إنهم يتعاملون مع الحرب وكأنها مجرد نزهة، ستستمر عدة أيام أو أسابيع، ثم تحط أوزارها، ويبدأ كل فريق بعد مغانمه. فهل أن تفكيرا كهذا ينطبق على الواقع العراقي؟
إن جميع الأدلة تبين أننا نسير بسرعة جنونية إلى المسلخ بعينه. فإذا نشبت الحرب فأن الأوضاع داخل العراق لن تسير على غرار اللبننة أو الصوملة، إنما نحو "المفرمة" و"المطحنة" و"الشرذمة"و"البعثرة". وهذه المسميات ستجتمع تحت تسمية واحدة هي "العرقنة".
خصوصية عراقية: العراقي يضرب بعدة سيوف
فالعراق ليس لبنان ولا الصومال، ولا الجزائر، ولا أنغولا، ولا أسبانيا، ولا فرنسا، ولا أيرلندة، ولا الولايات المتحدة، وهذه أشهر الدول التي شهدت مجتمعاتها حروبا أهلية. العراق هو العراق. أي أن هناك خصوصية عراقية، خلقتها عوامل سياسية، وسوسيولوجية، وسايكولوجية، وتاريخية، وجيوبوليتكية، وجيوقتصادية، وديموغرافية. وهذه الخصوصية تقول أن الفرد العراقي الواحد ذو ولاءات متعددة: قومية، ودينية، ومذهبية، وعشائرية، ومناطقية، وسياسية، وطبقية.
وبالطبع، فأن هذه الولاءات أو "الهويات" المتعددة والمتنوعة داخل الفرد العراقي الواحد، تستطيع أن تتواجد وتتعايش بسلام، وتتحول إلى مصدر "غنى" وثروة روحية ومادية، لكن شرط أن يعيش هذا الفرد داخل دولة ومجتمع تتوفران فيهما الشروط الصحية الطبيعية، والتي يمكن تلخيصها بمفردتين هما "التسامح" و"العدالة"، بجميع الأنواع والدلالات. ولكن هذه "الهويات" تتحول إلى منابع مضاعفة للعنف، في ظروف الاحتراب الداخلي الذي ينشب داخل المجتمع. أي أن العراقي إذا ضرب "عدوه" العراقي، فأنه سيضربه بخمسة سيوف، إن لم يكن بأكثر، وليس بسيف واحد. وسيرد "عدوه" بقوة السيوف الخمسة نفسها. وعلينا أن نقدر، آنذاك، حجم العنف الذي سيمارسه العراقيون فيما بينهم، وغزارة الدماء التي ستسيل.
يضاف إلى هذا وجود تراكم تاريخي محلي من العنف، وغياب تقاليد راسخة لثقافة الحوار. ومع هذه العناصر كلها، توجد عناصر أخرى ستزيد نار العنف اشتعالا، وهي وجود ثروة بترولية هائلة، وتداخل ديموغرافي طائفي عشائري وقومي، بالإضافة إلى عنصر أخر سيظهر هو النزاع الجيبوليتيكي، أي إعادة ترسيم خارطة العراق السياسية، أو ما بدأ البعض يسميه، من الآن، "إعادة ترسيم حدود المحافظات" الشيعية والسنية.
وعلينا أن لا ننسى، لحظة واحدة، أن جميع العراقيين، ما خلا الذين تقل أعمارهم عن سن الثامنة عشر، يجيدون استخدام السلاح بطريقة احترافية، سواء كجنود أو كضبط سابقين، أو كأعضاء في الجيش الشعبي وفدائيي صدام وجيش القدس، وهي المليشيات التي كانت موجودة سابقا. وهناك العديد من العراقيين الذين تحولوا إلى خبراء في تصنيع وتطوير الأسلحة، إثناء عملهم السابق في هيئات التصنيع العسكري.
لن ينجو أحد
وبسبب هذه المعطيات التقنية، وبسبب تشابك وتعقد العناصر البشرية وتصادمها، أيضا، فأن أي شيء موجود في العراق هذه الأيام من الصعب أن يبقى على حاله، إذا نشبت الحرب الطائفية: لا الشعب، ولا الجغرافية السياسية، ولا الدولة، ولا الحكومة، ولا العائلة، ولا الطوائف، ولا المرجعيات، ولا القيم العشائرية، أو ما تبقى منها.
وإذا نشبت الحرب الطائفية، فأنها لن تظل طائفية، وستتلون وفقا لتلون الأطياف الموجودة في المجتمع، الذي سيتشظى، بدوره، إلى شظايا. و ستشمل الحرب العراق من أدناه إلى أدناه، ولن تسلم منها منطقة واحدة. وستنشب الحرب وتنتهي، هذا إذا انتهت فعلا، بخسارة جميع الفرقاء، والعودة إلى نقطة الصفر التي بدأت عندها الحرب، ولكن، هذه المرة، بتعقيدات وبمشاكل جديدة تفرضها استحقاقات الحرب، داخليا وإقليميا ودوليا. بمعنى آخر، أن ما تسمى "المسألة العراقية" الآن ستصبح، بعد نشوب الحرب، "المعضلة العراقية الكبرى".
وإذا كان هذا الفريق العراقي أو ذاك قد رسم في ذهنه بعض الأهداف التي يظن أن الحرب الطائفية ستساعد في تحقيقها، فهو على وهم كبير. فقد تعتقد هذه الجهة العراقية أو تلك أن الحرب ستؤدي إلى تقسيم العراق، وفقا لما تريد وتتمنى. هذا أمر مستحيل. لن ينجح أي طرف عراقي من تحقيق انتصار حاسم وكامل، وفرض شروطه على بقية الأطراف. لا الشيعة بمقدورهم أن ينجزوا ذلك، ولا السنة ولا العرب مجتمعين، ولا حتى الكورد الذين ينعمون بالطمأنينة الآن.
أضغاث أحلام، لكنها قاتلة
قد يتصور الكورد أنهم سيعتصمون بحبل المشاعر القومية، وسيتحصنون داخل حدود فيدراليتهم الحالية، بعد أن يضموا إليها، ولو بالقوة، محافظة كركوك النفطية، فيكونون في منأى عن الصراع، وينعمون بهدوء وسلام.
وقد يتصور الشيعية أنهم سيشكلون فيدراليتهم وأقاليمهم الشيعية، ويجبرون الآخرين على التعامل معها ك"أمر واقع"، وستدفع الفيدرالية الموعودة عموم الشيعة إلى التوحد وتجعلهم بعيدا عن نار الحرب، مستفيدين من تصدير الثروة النفطية في الجنوب.
وقد يتصور السنة أنهم، مثلما صرح بعض زعمائهم، سيقطعون مياه الفرات عن الشيعة، وسيعتمدون على الدعم العربي السني، ومساعدة ألاف المقاتلين العرب الذين سيفدون لدعمهم، وسيستفيدون من الحدود المفتوحة مع بعض البلدان العربية لتأمين احتياجاتهم، ويصبحون في مأمن.
هذه كلها أوهام وأضغاث أحلام، لا أكثر. فالعراق ليس جزيرة معزولة، إنما هو تقاطع تلتقي فيه مصالح، بل وأطماع إستراتيجية لقوى دولية وإقليمية. والفرد العراقي، كما ذكرنا توا، لا يحمل هوية واحدة، وإنما هويات متعددة وتتنازعه ولاءات متعددة.وبالتالي، فأنه من الوهم أن نتحدث عن "نقاء" أو "انسجام" طائفي أو عشائري أو قومي أو أثني أو مناطقي. الطائفة الواحدة ستنقسم على نفسها، والعشائر ستناطح المرجعيات الدينية، طلبا للسلطة وتثبيتا للجاه، والمحافظات الغنية و"المتقدمة" ستدخل في صراعات مع المحافظات الفقيرة و"المتخلفة"، حتى لو كان الجميع ينتمون لنفس المذهب.
وقد بدأت هذه القضايا تظهر من الآن. فمحافظة البصرة الغنية بالنفط بدأ أهلها منذ الآن يتحدثون عن إقامة فيدرالية خاصة بهم، غير عابئين بمصير "أشقائهم" في المحافظات الجنوبية الأخرى. وأهالي مدينة النجف بدأوا يستعدون لافتتاح مطارهم الدولي، ليجعلوا مدينتهم منذ الآن تصبح عاصمة الفيدرالية الشيعية. والنخب الثقافية والسياسية في محافظة ذي قار، بما فيها التنظيمات الشيعية، بدأت تردد في مجالسها الخاصة بأن محافظتهم لن تقبل بعد الآن أن تظل إلى الأبد "مدينة المليون عريف"، تتعب وتشقى وتقطف، هذه المرة، ارستقراطية النجف الدينية ثمار هذا الشقاء. ومدينة الصدر الشيعية بدأت تسمي نفسها "مدينة الصدر المنورة"، وهي أشارة إلى أن هذه المدينة المليونية لا يمكن أن تظل إلى الأبد صفرا في المعادلة الاجتماعية/ السياسية ومستودعا لضخ الزبالين والحمالين وعمال الخدمات، بينما ستنفرد العائلات الارستقراطية الدينية النجفية، بالزعامة وبتقرير المصير نيابة عنها. ومدينة سامراء "التاريخية" ستثأر من مدينة تكريت التي اشتهرت وأصبحت مركز محافظة على حساب الأولى. ومدينة تكريت ستصبح مسرحا للقتال بين عشيرة ألبو ناصر التي خسرت مواقعها، وعشيرة الجبور التي حلت محلها. ومركز مدينة الموصل "المتحضر" سيرفض سيطرة "الأشقاء" السنة من العشائر الريفية المحيطة بالمركز. والعراقيون التركمان سيتحولون إلى ملل شيعية قبلتها النجف، وسنية قبلتها الفلوجة، وطورانية قبلتها استانبول، ولن يحتكموا إلا بالسيف لحل خلافاتهم.
وهكذا، ستظهر من رحم الطائفة الواحدة والقومية الواحدة والأثينية الواحدة، والقرية الواحدة، مطالب متناقضة، تؤدي إلى خنادق متقاتلة، تؤدي بدورها إلى إقامة المزيد من الجمهوريات أو الأمارات، أو المشيخات أو المقاطعات أو الكانتونات المتناحرة.
وما نقوله هنا، ليس مجرد تكهنات نطلقها لتخويف الآخرين من الكارثة المحدقة، إنما يستند على معاينة بعض التجارب و الشواهد المحققة على الأرض.
تحذير مسعود البرزاني
ففي كوردستان العراقية، التي يفترض أنها "صافية" قوميا ومذهبيا، ما تزال أثار الاقتتال الكوردي الكوردي شاهدة للعيان حتى هذه الساعة. وقد دخلت الآن على خط الصراعات الحزبية، قوى جديدة هي الحركات الإسلامية الكوردية، إلى حد أن الزعيم الكوردي مسعود البرزاني حذر قبل أسبوع، من ظهور "حماس" "كردية" داخل منطقة كوردستان العراق. بمعنى آخر، أن البرزاني يحذر من انقلابات وأصطفافات جذرية، يرى أنها بدأت تلوح داخل كوردستان العراقية، وتؤدي إلى تغيير جذري في الخارطة الجيوستراتيجية لكوردستان العراقية. وبالطبع، فأن أي حديث عن مستقبل كوردستان العراقية، لا يكتمل إلا بذكر تركيا، وحساسيتها الفائقة إزاء ما يحدث في كوردستان. إذ، من المستحيل أن تقبل تركيا ب"الأمر الواقع" الذي قد يعتقد كورد العراق بأنهم سيفرضونه من جانب واحد، إذا رأت تركيا انه يتعارض مع مصالحها الإستراتيجية. وإذا كانت الدولة العراقية، بمركزيتها العريقة والقوية، قد أصابها هذا التبعثر، بعد الاجتياح الأميركي، فهل ستصمد الفيدرالية الكوردية، في حال اجتياح تركي للمنطقة.
أمراء المناطق السنية سيتكاثرون ألف مرة
وعلى مستوى المناطق السنية، فأننا بدأنا نشهد منذ الآن، بل منذ ثلاث سنوات، عشرات الجماعات المسلحة المتنافرة، وكل جماعة لا تأتمر إلا بأوامر "قائدها". وقد حصدت هذه "الأوامر" رؤوس شيوخ عشائر متنفذين، كان كلامهم في الظروف الاعتيادية هو المسموع والمطاع، وحصدت هذه الأوامر رؤوس رجال دين مهمين، يجتمع لسماع خطبهم ألاف الناس، مثلما حصدت رؤوس شخصيات بارزة من المجتمع المدني. وما تزال ترن في الأذن الاتهامات القاسية التي وجهها القائد السني صالح المطلك ضد "شقيقه" السني، السيد محمود المشهداني رئيس مجلس النواب، خلال التنافس بين الفرقاء السنة على المناصب الحكومية.
من سيمثل العراقيين الشيعة؟
وفيما يخص الطرف الشيعي، فقد أثبتت أحداث السنوات الثلاث الماضيات وجود كل شيء، ما خلا وجود طرف "شيعي" واحد وموحد. فقد تعددت خارطة "الأطراف" الشيعية، إلى حد لم نعد، بسبب هذا الانشطار والتشظي، قادرين على تعداد هذه الأطراف. وحتى المرجعية الشيعية التي يفترض أن يكون كلامها مسموعا من قبل جميع أبناء المذهب الشيعي وموحدا لهم، فأن تجربة السنوات الثلاث الماضيات أظهرت أن جميع الأطراف الشيعية تريد لهذه المرجعية أن تكون غطاءا لها تستمد منه الشرعية والشعبية، لكن هذه الأطراف مستعدة تماما لعصيان فتاوى وأوامر المرجعية، متى ما تيقنت هذه الأطراف أن ما تقوله المرجعية يتعارض مع أطروحاتها الخاصة. وقد أظهرت الوقائع، أكثر من مرة، أن ما يقوله المرجع السيستاني يبدو وكأنه صرخة في البرية، لا يسمعها أحد.
وفي موازاة ذلك، ظهرت وتكاثرت منذ ثلاث سنوات حركات وتنظيمات شيعية سياسية تتزعمها "مرجعيات" دينية، لها مواقفها وأرائها التي لا تتناغم، بالضرورة، مع مواقف المرجعية الكبرى في النجف، وتحظى بأتباع ومريدين ومؤيدين يكثرون يوما بعد يوم. ويكاد لا يمر يوم واحد من دون حدوث مواجهات عسكرية مسلحة، بين أتباع هذه التنظيمات الشيعية. ويكفي أن نذكر أن مدينة البصرة الغنية بالنفط وبقية مدن الجنوب والوسط الشيعية، تتنازع سلطتها الرسمية والاجتماعية، عشرات التنظيمات الشيعية، بينها: حزب الفضيلة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، والتيار الصدري، وأنصار السيد الحسني الصرخي، وحزب الله العراقي، وحركة ثأر الله، وحركة سيد الشهداء، ومنظمة بدر، ومنظمة العمل الإسلامي. ومع هذه التنظيمات وغيرها الكثير، توجد سلطات العشائر داخل المدن وعلى محيطها، التي ستتقاتل بينها، طلبا لتعزيز النفوذ. وقد أقدمت بعض العشائر، ولمرات عديدة، على قطع الطرق العامة، دون أن تبالي بأوامر السلطات الحكومية أو بأوامر المرجعيات الدينية. ولا ننسى عصابات الجريمة المنظمة، ومافيا تهريب النفط، التي تحول قادتها إلى زعماء ذي نفوذ لا يقهر.
وهذا كله يحدث في العراق، مع وجود جيش وحكومة مركزيتين، فماذا سيحدث لو انفرطت حبات العقد، ونشبت الحرب الداخلية؟
وقد يعول هذا الطرف العراقي أو ذاك، لتعزيز مواقفه وتحقيق أهدافه المستقبلية، إذا اندلعت الحرب، على القوات الأميركية المتواجدة حاليا. وهذا أكبر الأوهام. فهذه القوات سيكون أمامها ثلاث خيارات: إما الانسحاب والعودة من حيث أتت، أو البقاء مع عدم التدخل، مثلما أعلن صراحة، وزير الدفاع الأميركي رونالد رامسفيلد، أي انتظار أن تتعب جميع الأطراف المتقاتلة وترفع الراية البيضاء، أو البقاء مع الاكتفاء بدور حراسة أبار النفط.
أمراء الحرب الجدد سيغرقون العراق بالدم
إما الزعامات الحالية، العربية والكوردية والشيعية والسنية، الدينية والسياسية، فإنها لن تظل تتسيد المشهد إلى ما لا نهاية، على غرار ما حدث في لبنان، وغيرها من المجتمعات التي عاشت أهوال الحروب الأهلية. فالخصوصية العراقية تؤشر إلى أن الزعماء الحاليين سيتحولون، بعد اندلاع الحرب واستمرارها، إلى مجرد أمراء حرب آخرين يتنازعون على الزعامة ضد أمراء حرب سيفرضون أنفسهم قادة جدد، والذين سيتكاثرون بطريقة سرطانية.
ولكن هولاء "الزعماء الجدد"، ومن كل الطوائف والأماكن، سيكونون في حل من كل رادع ووازع، لأنهم قضوا طفولتهم ومراهقتهم، في فترة الحصار وحكم صدام، داخل فراغ أخلاقي وروحي وسياسي وديني. فهولاء الذين دخلوا المدرسة الابتدائية عندما وصل البعث إلى السلطة عام 1968 ، تجاوزت أعمارهم الآن الرابعة والأربعين. ووفقا لشعار صدام حسين "خذوهم صغارا"، فقد حرم هولاء من التعرف على أي مصدر للمعرفة، غير تعاليم البعث وخطابات صدام، في تنظيمات الأشبال والطلائع والفتوة والجيش الشعبي وجيش القدس وفدائيي صدام. هولاء لم تتح لهم فرص النهل من مصادر ثقافية غنية ومتنوعة، ولم تتوسع مداركهم من خلال منابر حزبية تعددية، كما كانت الأمور قبل وصول البعث إلى السلطة، ولم يتسنى لهم الجلوس في مضائف عشائرية يتعلمون منها الحكمة والكياسة والمسؤولية والصبر علي حل المشاكل، ولم تتوفر أمامهم فرص الاستفادة من نصائح وتعاليم مرجعيات دينية. لقد عاشوا في فراغ روحي، بعيدا عن التقيد بمبادئ وبمثل عليا، ما خلا أفكار براغماتية متناثرة، تنظر للحياة كساحة قتال، وشريعة غاب، لا يصلح لها غير الأقوى. وهولاء هم الأدوات التنفيذية الضاربة التي تتكون منها جميع المليشيات في جميع مناطق العراق.
وأمراء الحرب الجدد هولاء، الذين سيتكاثرون في أنحاء العراق كله، هم الذين سيملأون هذا الفراغ، لكنهم سيملؤنه بالجثث ويغرقون العراق بأنهار الدم، أكثر ألف مرة مما يفعله الآن أقرانهم الأكبر سنا منهم، الناشطون في المليشيات والجماعات المسلحة في جميع أنحاء العراق. هذه ليست مبالغة ولا نبوءة زائفة. يكفي أن نشاهد ما يفعله هولاء في الحاضر، حتى نعرف ماذا سيحدث في المستقبل.
وما يحدث في الحاضر من أعمال عنف، ليس فيه أي ذرة من المروءة والنخوة والشهامة والرجولة، ولا حتى أي حد من الآدمية، وقد تعدى كثيرا حدود الخيال: جثث مقطوعة الرؤوس، جثث رؤوسها ثقبت بألة "الدريل"، بشر يذهبون للتفتيش عن أقاربهم في برادات المستشفيات، فيحولهم رصاص المسلحين إلى جثث جديدة، أرملة عجوز لا حول لها ولا قوة، تتقطع أوصالها وأوصال أبنائها بسيوف المسلحين، انتحاريون يفجرون أنفسهم داخل مستشفى أو سوق مزدحم أو مكان تعزية أو دار للعبادة.
ويتناقل العراقيون، هذه الأيام، في مجالسهم قصة حقيقية تقول إن جماعة عراقية مسلحة أخطتفت طفلا من جماعة عراقية أخرى. وبعد أن قتلوه، شقوا بطنه بالسكين وملئوها بالبصل والباذنجان والطماطم، تماما كما يفعل العراقيون في مطابخهم وهم يحشون الدجاج والخراف. ثم شووا الطفل على النار وأرسلوه بعد ذلك "هدية" إلى عائلته وهو على هذه الحال.
هذه مجرد مقدمة، ليس إلا، لصورة الرعب القادم الذي يترصد العراقيين، إذا نشبت الحرب الطائفية.
والحل؟
هل ما يزال ثمة أمل للخلاص من هذه المطحنة المرتقبة؟ هذا هو السؤال الأعظم.
يتبع