مناخ التعددية عبر التاريخ
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
المرور عبر التاريخ من شأنه أن ينزع الشك من قلوب البعض الذين ما لبثوا أن شككوا في الكثير من المفاهيم والموضوعات، واشترطوا عودتها للتاريخ من أجل قبولها. فمن شأن هذا المرور أن يكون ضمانة لتأكيد فطرية المفهوم وأصالته الإنسانية عبر التاريخ، كما انه يثري الموضوع بتلك التجارب الناصعة والجبارة.
لذلك تعتبر التعددية ظاهرة قديمة قِدم التاريخ. وكما قلنا في وقت سابق، هي ظاهرة أزلية يعود تاريخها إلى ميلاد الكائن البشري على وجه الأرض.
فظاهرة العنف التي جاءت في قصة ولدي آدم (قابيل وهابيل) تعبّر أصدق تعبير عن ظاهرة إلغاء الآخر رغم أن الذي مارس اللاعنف قد خسر في النهاية. ولكننا نتساءل هل خسر بحق؟
فمجرد إخفاء هابيل لآثار الجريمة بعد قتله قابيل، أصيب بنوبة من تكبيت الضمير والندم على ما فعل. فالندم هو أول الطرق إلى التوبة، والتوبة هي استيقاظ للضمير، واستيقاظ الضمير هو إحياء أفكار الذي مات.
ففي الوقت الذي مات الأول، كان ذلك هو السبب في إحياء ضمير الثاني وتبنيه لأفكار الذي مات (أفكار اللاعنف واحترام الآخر المختلف). فالأول دفن بالثرى وعاد الجسد إلى مصدره الترابي، ولكن الفكر الذي حمله انخلع من الزمان والمكان والجسد الترابي ليدخل إلى عالم المطلق والخلود.
فللرأي الآخر كامل الحرية في التعبير عن آرائه وأفكاره وتصوراته العقيدية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها دون ممارسة أي عنف أو إلغاء تجاهه. فليس لأحد كائنا من كان أن يفرض رأيه على الآخر.
ويقول لنا التاريخ أن الخليفة الرابع علي بن أبي طالب أعطى مخالفيه أثناء خلافته ثلاثة حقوق: 1- حق الكلام. 2- حق الفيء. 3- حق التردد. أي بيّن لهم أولا حق إبداء الرأي من غير المواجهة بالقوة واستخدام العنف، ثم ثانيا حق الفيء وما لهم على الدولة من رواتب وغنائم وصدقات، وأخيرا حق التردد على المساجد والتي كانت حينئذ مراكز للحكم.
كما يؤكد التاريخ أن الخليفة الرابع لم يرفع السلاح بوجه معارضيه ومخالفيه، ولم يقاتلهم إلا حين تجاوزوا حرية الكلمة والرأي إلى فرض الكلمة والرأي بقوة السلاح والعنف. فالخوارج خالفوه ثم كفروه، فلم يفعل لهم شيئا، وعندما انتقلوا إل الخطوة التالية وهي رفع السلاح واستباحة الدماء قاتلهم.
فـ"الجهاد" استخدمه علي بن أبي طالب لرفع الظلم من أجل إقامة العدل، العدل المتمثل حينئذ بحرية العقيدة والسماح للطرف الديني الآخر المختلف بالبقاء، بل بالمحافظة عليه وحمايته، من أجل التعبير عن رأيه حتى وإن كان معارضا في العقيدة أو في السياسة.
وفي أوروبا القرن الثامن عشر برز مفهوم التعددية بشكل لافت أمام مفهوم "الحق المطلق" الذي تبنته ودافعت عنه المؤسسة الدينية (الكنسية). وكانت الغلبة في النهاية لمفهوم التعددية الذي هزم الأصولية الدينية الكاثوليكية المتحجرة التي أعطت الملوك الحق الإلهي الذي لا يناقش ولا يمس، وبالتالي كانت الشرعية اللاهوتية للملوك مطلقة. وعندما كان يعترض عليها أحد فإنه كان يعتبر زنديقا أو منحرفا وخائنا للإيمان والسلطان، وبالتالي فمصيره الإعدام أو النفي في أحسن الأحوال.
على سبيل المثال، كان زعيم المذهب الكاثوليكي في فرنسا "بوتسويه" هو منظر الأرثوذوكسية الإطلاقية أو المعصومية الكاملة، حيث كان يرى أن الأرثوذوكسية الدينية والأرثوذوكسية السياسية متداخلتين مع بعضهما البعض بشكل وثيق لا ينفصم. ففي رأيه أن هناك حقيقة واحدة مطلقة هي حقيقة النظام الملكي الفرنسي الذي يمثل الله على الأرض.
فملك فرنسا ليس مسؤولا أمام أي شخص كان، وإنما فقط أمام الله، وكان دائما يردّد: الدولة هي أنا، فرنسا هي أنا، أنا ظل الله على الأرض.
أما في انجلترا من نفس القرن فإنه لم يكن فيها مذهب ديني واحد يفرض حقيقته بشكل مطلق على الجميع، وإنما كانت توجد ثلاثة مذاهب أساسية وهي: المذهب الكاثوليكي الذي ظل مخلصا لروما والذي كان كالفرنسيين يؤمن بمعصومية البابا وبالحق الإلهي للملوك. والمذهب الثاني والأهم هو المذهب الأنغليكاني الذي جسد الكنيسة القومية الانكليزية ودعا إلى التفاف الأمة حول الكنيسة والملك، وهو يمثل تسوية وسطى بين الكاثوليكية والبروتستانتية وإن كان أقرب إلى البروتستانتية. وأما المذهب الثالث والأخير فهو الكالفيني البروتستانتي بشكل كامل. وهو يمثل نوعا من الديموقراطية الدينية.
وتعود خصوصية الوضع الإنكليزي إلى أن أيا من هذه المذاهب الثلاثة لم يستطع أن يهيمن كليا ويحذف المذهبين الآخرين رغم انتصار الكنسية الإنغليكانية في نهاية المطاف، ولكن بقى هناك كاثوليك في انكلترا. وأما في ما يخص الكالفينيين المعتبرين زنادقة من قِبل روما فقد ظلوا عديدين وأقوياء في الحياة القومية الإنكليزية.
إذن المناخ الديني السياسي في انكلترا كان مطبوعا بالتعددية على عكس فرنسا، وهذه التعددية العقائدية أو الدينية هي التي منعت انتصار روح الأرثوذوكسية المتعصبة.
يقول الفيلسوف الفرنسي فولتير في إحدى رسائله الفلسفية: "لو لم يكن في انكلترا إلا دين واحد لخشينا عليها من الاستبداد. ولو لم يكن فيها إلا اثنان لمزقا بعضهما البعض إربا. ولكن فيها ثلاثين دينا وهي تعيش في بحبوحة وسعادة وسلام".
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com