وداعا لأحمد مستجير.. نص مقاله: نار هيرقليطس
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
لهذا الرجل دين كبير في عنقي. وبكتابة هذا التعقيب، على خبر وفاته المؤلم، وطباعة المقال الذي يليه، آمل أن أفيه ولو جزءاً يسيراً من هذا الديْن. فهو مَن ترجم كتاب [بحثاً عن عالم أفضل] للفيلسوف كارل بوبر - صدر عام 96 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. وهو من قدّم كتاب [نار هيرقليطس: فصول من سيرة حياة في
كتاب بوبر، هو مجموعة من المقالات والمحاضرات، ألقاها الفيلسوف اليهودي الأصل، في عدة مناسبات مهمة، خلال ثلاثين عاماً من عمره الطويل، فجاءت كسيرة ثقافية كاملة لهذا العقل الأوروبي الفذّ، صاحب المؤلّفات الكبرى، في مجال عمله وتخصصه. عندما قرأت هذا الكتاب، للمرة الأولى، قبل عقد من الزمن، عرفتُ بأنه كتاب يُرجع إليه دائماً: كتاب سوف يرافقني طويلاً. وهذا ما حصل معي بالفعل. فبين السنة والأخرى، وأحياناً بين الشهور والشهور، أرجع إليه، لأتزوّد من نبعه الثرّ، بما يعينني على قلّة الزاد ووعورة الطريق.
أما مقال أحمد مستجير، عن إيفرين شارغاف، الذي نشره في عدد ديسمبر 1997من مجلة الهلال المصرية، والذي لم أجده على شبكة الإنترنت، فقد فتح عيني على عالِم عظيم لم أسمع عنه من قبل، عالم يذوب إنسانيةً ورهافةً، وجدته أقرب إليّ كشاعر من جل الشعراء المحيطين بي!
لن أرثي أحمد مستجير، عالم الهندسة الوراثية، والفنان المرهف، وقبل ذلك وبعده وخلاله: الإنسان الفائق النُبل والانتماء، فقد كفاني مؤنة ذلك، زميلي د. خالد منتصر، الأسبوع الماضي، في هذا الموقع بمقاله: د. أحمد مستجير... عالم إحترف الدهشة. وأيضاً لن أكتب عنه شيئاً ذاتياً، فأنا للأسف لم أعرفه شخصياً، وإن كنت، في زيارتي الوحيدة الخاطفة للقاهرة، العام الماضي، بعد غياب 24 عاماً، قد سألت عنه أحد الشعراء المصريين، فأخبرني بأنه لا يعرف عنوانه. لكني أتذكّر هنا، جواباً لسؤالٍ كنت سألته لأحمد عمر شاهين عن الرجل، فأسهب في امتداحه، وقال لي حينها، إنه عالم جليل في إهاب فنان مرهف. وهو ما أكدّه مرة أخرى الزميل خالد منتصر في مقاله السابق.
بل سأفعل شيئاً أفضل من ذلك: سأعود إلى مقاله عن شارغاف في الهلال، وسأعيد طباعته إلكترونياً، وهو أمر جد ثقيل على نفسي لو تدرون! وفاءً لبعضٍ من تراث هذا العالم الكبير، وأملاً في أن تعيد مجلة الهلال أو جهة نشرٍ ما، إعادة تجميع مقالاته المتناثرة في الهلال وسطور وغيرهما، ونشرها في كتاب أو كتب. فهذه المقالات، أو بعضها على الأقل، تستحق أن تُنشر في كتب، وأن يعود المرء لها بين الحين والآخر. فهي جهد علمي مكثف، لعقل كبير رصين، يحتاجه المثقفون العرب، خصوصاً، العلمانيون منهم والإنسانيو التوجه والمرام، وخصوصاً أيضاً، بعدما انتشرت ثقافة الخرافات، من المحيط على الخليج، واندحرت أمامها الثقافات الأخرى. فبهذا يُكرّم أحمد مستجير، وكل من هم من نفس طينته، خير تكريم، إذ لا أبهى ولا أجمل ولا أبقى للمثقف الحقيقي المهموم بهموم مجتمعه ومنطقته ومستقبلهما، من أن تشيع ثقافة العلم والعقلانية، فتطرد ظلمات الثقافات الأخرى، التكفيرية والتخوينية.
والآن إليكم المقال، وأعتذر للناشر عن طوله:
نار هيرقليطس
بقلم د. أحمد مستجير
كان نقاشاً طويلاً ذلك الذي دار ذات ليلة، في شهر مارس 1995، بيني وبين البروفيسور ياكوبسين، أستاذ البيولوجيا الجزيئية، بجامعة هانوفر - وكان في زيارة سريعة لبلادنا. كان موضوع الحوار هو أهمية الهندسة الوراثية في بلادٍ كبلادنا، وكيف نوجّه البحوث في هذا المجال لمصلحة الوطن. ليبدو أنّ آرائي جعلته في النهاية يسألني: هل قرأتَ كتاب إيرفين شارغاف؟ كلا، ما عنوانه؟. قال لا أتذكّر، فقد مضى على نشره زمنٌ طويل، لكني سأرسل إليكَ العنوان حال عودتي. وبعد بضعة أيام من مغادرته القاهرة وصلني فاكس يحمل اسم الكتاب: [نار هيرقليطس: فصول من سيرة حياة في حضرة الطبيعة]. وتاريخ نشره: 1978، أرسلتُ في طلب الكتاب، لكنه كان قد نفد من زمان.
لاسم شارغاف رنينه الخاص لدى كل دارس لعلم الوراثة الحديث، فهو صاحب [قاعدة شارغاف] التي كانت الدليل الرئيسي لاكتشاف واطسون وكريك تركيب الدنا - مادة الوراثة. لكن ما زلتُ أحتفظ لهذا الرجل بملخص لحديثٍ صحفي طويل ظهر عام 1987، هاجم فيه الهندسة الوراثية هجوماً حاداً (على عكس رأيي تماماً)، وهاجم فيه مشروعَ الطاقم الوراثي البشري، وقال إنه سيبيّن في النهاية، أنّ كل الناس مرضى " وراثياً "، وقال إنه ليس من نمط يُقاس عليه. كل فرد منا يختلف عن كل فرد آخر. رأى أن المشروع - ولم يكن قد بدأ رسمياً - مشروعٌ غبيّ، هو ليس إلا وسيلة يستولي بها البيولوجيون على قدر وفير من المال العام. هم من خلال البيولوجيا الجزيئية يريدون أن يصبحوا مثل علماء الذرة. سيبدءون في تحريك عجلة آلة شيطانية لا يمكن إيقافها - إلا من خلال الفقر أو الكارثة. ولقد تكيّفت السرعةُ مع منجزات العلم الحديث، ليتضاءل الزمن ما بين الكشف العلمي وتطبيقه. مضت مائتا عامٍ ما بين اكتشاف الكهرباء وإنشاء محطات الكهرباء في نهاية القرن الماضي، لكنّ الأمر لم يستغرق سوى سبع سنوات بعد اكتشاف هان وستراسمان حتى أُلقيت قنبلة هيروشيما. أما التسارع في الهندسة فقد كان أكبر، فبعد مرور ثلاث سنوات أو أربع من بدء بحوث تكنولوجيا الجينات، بدأ الرأسماليون في تأسيس شركات الهندسة الوراثية.
لقد فقد العلم عذريته يومَ ألقيت قنبلة هيروشيما - كما قال أوبنهايمر - ولم يعد لنا أن نتخيّله تلكَ العذراء الطاهرة الحنون. لكن شارغاف يرى أن العلم قد فقد عذريته قبل ذلك: مع بدء مشروع مانهاتن - أول معسكر اعتقال علمي جُمعَ فيه أكثر العلماء عبقريةً، من كيماويين وفيزيائيين، تحت حراسة عسكرية مشددة، وقيل لهم: هيا إلعبوا واقتلوا.
كانوا يعرفون جميعاً أنهم سيقومون بأكبر اكتشاف شيطاني: تفجير الذرة، وان هذا الاكتشاف سيستخدم في أكبر مذبحة في تاريخ البشرية. طاقة نواة الذرة لا تشبه طاقة نواة الخلية - هذا صحيح، فلا أحد يفنى من الطاقة الأخيرة، لكنّ تفجير نواة الخلية يعني انفجار ضمير الإنسان، وإعلاءه من شأن وحشية التفكير والغرور - فالأخلاقيات، كما نعلم، كانت دائماً كالمطاط، خير ما يمكنه أن يلائم نفسه مع الظروف.
لاقت معظم أفكار شارغاف في نفسي قبولاً عظيماً، وجدتُ فيها الكثير مما أومن به. في عام 1985 كتبتُ مقدمةً قصيرة لكتابٍ عن الهندسة الوراثية كنتُ قد ترجمته، قلتُ فيها: [تعلمنا أن الذرة لا تنقسم، ولدهشة العالم انشطرت الذرة، ذات يومٍ حزين، سيظل في ذاكرة البشرية تأملاً حزيناً بعد هذا الدمار الهائل الحزين الذي حلّ بهيروشيما. وتعلمنا أن الجين - وحدة الواراثة - لا ينقسم، وها هو ذا ينقسم ويُبنى، لقد غدت إمكانات التطعيم الجيني بين الكائنات جميعاً أخطر من أن تمضي هكذا دون تفحص، هل سنترك العلماء وحدهم ليصنعوا (القنبلة الجينية)، ربما لتكتوي البشرية بنتائجها غير المحسوبة]
في مكتبة شكسبير
في صيف 1995 كنتُ في فيينا، وفي أحد أيام شهر أغسطس، قمتُ بزيارة لمكتبة " شكسبير "، بوسط المدينة، أبحثُ عن كتبٍ جديدة (بالإنجليزية). انتقيتُ بضعة كتب، ووقفتُ في الطابور كي أدفع. وجدتُ بجانبي كوماً من الكتب القديمة، فتملكتني على الفور غريزةُ " الأزبكية "، تركتُ الطابور إذن، وأخذت أقلّب في هذا الكوم، وإذا بي أجد نسخة من " نار هيرقليطس ". يا لله! سألني صاحبُ المكتبة وأنا أدفع: " كيف انتقيتَ هذا الكتاب؟ ". قلتُ إنه كتاب مهم بالنسبة لي. قال إنه سيخفّض سعره من أجلي (من 350 سنتاً إلى 250). طيب. بعد أن دفعتُ، أمسك الرجلُ بيدي وترك الخزينة، ثم قادني إلى رواق قصير داخل المكتبة. كان الحائط مزيناً بالعديد من الصور المؤطرة. أشار الرجل إلى واحدة منها وقال: هذا شارغاف، ابن فيينا. هل شاهدته منذ أيام على شاشة التلفزيون؟ - كلا - لقد احتفلت النمسا كلها ببلوغه سن التسعين. ياه! كم يُقدّر هؤلاء الناس علماءهم! وعكفتُ على الكتاب.
مع الكتاب
قرأتُ الكتاب فوجدته قريباً إلى عقلي وقلبي. يقول شارغاف إنك لا تأخذ من الآخرين إلا ما هو موجود بداخلك. حقاً كان الكثير مما يحويه هذا الكتاب الحميم في جوفي حبيساً، وأفرجَ عنه هذا المؤلف الجميل. أسلوبُ أديبٍ لا شك، وخيالُ شاعرٍ رومانسي حزين، وحكمة فيلسوف مجرّب، وعقل حاد لمثقف جاد واسع الاطلاع، وأخلاقياتُ عاشقٍ للطبيعة. ثم أنه يمزج هذا كله بسخرية محببة: عندما تحيله الجامعة على التقاعد، فهي إنما ترسلهُ " لإعادة التدوير "! (for recycling).
يحكي الكتاب سيرته الذاتية. والسيرة الذاتية العلمية في رأيه تنتمي إلى ضربٍ من الأدب بشع. فإذا كانت الصعاب التي تواجه كل من يحاول تسجيل حياته كبيرةً - ولم يتغلّب عليها بنجاح، في الحق، إلا قلّة - فإنها مركّبة بالنسبة للعلماء، الذين كثيراً ما لا يعرفون كيف الكتابة! معظم السير الذاتية العلمية تعطي الانطباع بأنها كُتبت كي توضع على الفور فوق الرف مع الكتب الراكدة لتباع مخفضة، فالعلماء يكتبون تاريخ حياتهم بعد أن يكونوا قد انسحبوا من الحياة النشطة - يكتبون بعد أن انقضت أيامُ التوق واللهفة والحماس - ولم يبق لهم إلا أيام الكآبة. أنت تتوقع داخل الصفحات الذابلة لهذه الكتب أن يطلّ عليك قلبُ إنسان، أن تسمع في طياته نبض قلبٍ بشري، لكن ما يعرضه معظم هؤلاء العلماء ينصرف في أفضل الأحوال إلى وصف شعورهم في استكهولم وهم ينسحبون من حيث يقف الملك، أو إحساساتهم في الاحتفال بحصولهم على الدكتوراه الفخرية العشرين! كتبهم المملة عادة ما تكون تقارير عن مهنتهم، لا عن حياتهم. تنجح أخلاقياتُ مهنتهم وقواعدها في إخفاء عواطف القلب - القلة فقط هم من يستطيعون أن يعبّروا عن نبوغهم، أو على الأقل عن موهبتهم. " وأنا لستُ منهم " كما يقول شارغاف. إنّ معظم ما يُعتبر اليومَ فناً أو أدباً أو علماً، ليس سوى إهاب ذي مظهر غضّ متورد، وقد شُدّ فوق هيكل عظمي متداع! ولكنه في الحق " منهم ". مضى يحكي عن تاريخ حياته في هذا الكتاب، بطريقة لم أر لها مثيلاً. هو يتحرك في الزمان رائحاً غادياً، يُثري كلامه بالكثير مما يقتطفه من قراءاته الواسعة في اللغة والأدب والتاريخ، ثم أنك تحس بنبض قلبه في كل صفحة. كان عمره عندما ظهر الكتابُ ثلاثة وسبعين عاماً. لا بد أنه قد نسي الكثير، لكنه يقول أنه إذا لم يكن في مقدورنا أن ننسى، فلن يكون في استطاعتنا أن نتذكّر! ومرت به ليال في لون الورد، ومرت ليال سوّدتها السحب. " تأوّه إنسانٍ يموت، يدٌ تمسح شعري، صوتٌ عائد من محرقة النسيان. الرماد يتكلم لكن في همهمة محطمة. إنعكاساتٌ قصيرة من البهجة، كما من مرآة متكسّرة، تُعيد سواد ماضٍ حاضر أبداً. أحكي ما سمعته، من يتكلّم إذن؟ إذا كانت هي الذاكرة، فبالله لماذا تهمسُ حيناً، وتصيح حيناً، وتهدر أحياناً، وتظل غالباً في صمتٍ متجهم؟. إذا نظرنا إلى حياتنا من بُعد، فهل هي متصلة؟ نولد جميعاً بطريقة واحدة، لكننا نموت بطرقٍ شتى. يقولون إنا نولد كُلاً ونموت كُلاً. لكن ماذا عن الفترة ما بين الولادة والموت؟ [التي يرى أنها قد طالت معه]. يقول بريخت " من هذه المدن سيبقى ما مرّ خلالها: الريح! ".
أيام الصبا
ولد شارغاف في 11 أغسطس 1905، في قرية شيرنوفيتس بالنمسا، وكان حالماً منذ الطفولة. يتذكّر أنه لا يزال وهي تقف أمامه في ردائها الريفي الجميل، وعلى رأسها قبعة عريضة: شابة جميلة حزينة، تعود إليه دائماً صورتُها باهتةً مرتجفة، تمشي على شاطىء ضبابي، تطفو فوق ستارٍ من الدموع. قرأ في سن العاشرة أعداداً من مجلة " المشعل "، كتبها بالكامل كارل كراوس. كان لهذا الرجل تأثير هائل عليه في سني حياته الأولى، لكن تعاليمه الأخلاقية ورؤيته للجنس البشري، وشعره، لم تغادر قلبه طيلة حياته. جعلته يكره التفاهة، علمته كيف يرى الكلمات وكأنها أطفال صغار، أن يزن دائماً عواقب ما يقول. كانت اللغة عند كراوس هي مرآة لروح الإنسان، وإساءة استخدامها هي المقدمة للأعمال الشريرة. كان كراوس بعيد النظر: رأى الزمن الهمجي الدموي الآتي في جوف الصحافة اليومية، ورأت فيه الصحافةُ أعدى أعدائها، فكافأته بمؤامرة من الصمت والتجاهل، استمرّت طيلة حياته. كان كراوس عند شارغاف هو معلمه الأوحد، فبقي مثله طول عمره بعيداً عن آلة الإعلام وعن رجال الصحافة. حالة نادرة - كما يقول - لأرنب ينوّم الثعبان مغناطيسياً! شهدَ سقوط أل هابسبورغ. كانت الملكية عندما فتح عينيه على الدنيا في وضع مقلقل. تذكّرَ خطاباً من خطابات هاينريخ فون كلايست (تاريخه 16 نوفمبر 1800) إذ كان يمر من تحت بوابةٍ على شكل قوس، فكتبَ " تفكّرتُ، لماذا لا ينهار هذا القوس وليس ثمة ما يدعّمه على الإطلاق؟ وأجبتُ: إنّ البوابة قائمة لأن كل أحجارها تريد أن تسقط في الوقت نفسه! "
ثمة علاقة سحرية ربطته باللغة منذ الصبا، يقول أن لا أحد يكتب الآن، من يكتبون لا يشبهون إلا كلاب بافلوف، سوى أن لعابهم يسيل دون أن يسمعوا الجرس. اللغة هي الموهبة الغامضة التي تميّز الإنسان عن الحيوان، وهي التي تميّز شخصاً عن آخر، هي أصدق مرآة تعكس التقدم والتدهور. لو أنه مُنح حياةً ثانية لاختار دراسة اللغة. وانشغل فعلاً بدراسة اللغات، فعلّم نفسه نحو خمسة عشرة لغة. كان يعشق الطبيعة وهو صبي. كانت هي دم الكون وعظامه، فجره وغسقه، إزدهاره واندحاره، سماءه وقبره. كانت عنده، مثلما كانت عند الشاعر الإنجليزي جيرالد مانلي هوبكنز: نار هيرقليطس، الجوهر الأول. كان يجلس طفلاً في الغابة الشاسعة سعيداً، يتلذذ بضخامتها دون أن يتساءل عن أسماء الأشجار. كان يرى الغابة، لا الأشجار. كان في الحق يصلح أن يكون رساماً أو شاعراً. في الأمسيات والليالي كثيراً ما كان يمشي مع صديقه ألبرت فوكس، في شوارع فيينا الجميلة، يتحدثان طويلاً عن الكتابة: ما الذي يجعل النص أصيلاً؟ ما الذي يجعل القصيدة رائعة؟ فرق كبير بين أن تعرِض وبين أن تُعبّر. العبقري وحده هو من يستطيع أن يعبّر، لكنّ كل موهوبٍ يمكنه أن يعرض. هذا ما توصلا إليه، وهذا ما بقي معه طول عمره. أنت تستطيع أن تترجم ما يُعرَض، لكنك أبداً لن تستطيع أن تترجم " التعبير ". يسهل أن تترجم توماس مان، ويصعب أن تترجم رامبو.
كان حالماً، ولا فائدة تُرجى من الحلم إذا لم تكن تعرف أنك تحلم. كان موهوباً في أشياء كثيرة، ومن ثم كان عطلاً من المواهب! كان - كما يقول - كسولاً خجولاً، ينصب شباكه حيث لا تمشي فريسة، يطفو متراخياً إلى حيث يأخذه التيار، فإذا توقف التيارُ، توقف هو الآخر وارتبك. كان يحلم ببرج عاجي قصي - به مكيّفُ هواء، ومزوّد بالماء الساخن والبارد " كل ما يريده الفرد منا في صباه هو أن يقهر ذلك الوحش الأسود الرهيب الذي يُسمّى المستقبل ". هل يتغيّر الفردُ منا في حياته؟ كلا - فكما بدأتَ ستبقى، كما يقول هولدرلين في قصيدته " الراين ".
أيام الشباب
حصل شارغاف على الدكتوراه في الكيمياء الحيوية من جامعة فيينا عام 1928. كانت المهمة الأولى للجامعات الأوربية - في ذلك الحين على الأقل - هي إصدار الشهادات. فإذا نظرَ إلى الوراء، تأكّدَ أنه لم يتعلّم كثيراً من أساتذته. الطريق إلى قمة الجبل في العلم، تمهّده خطاباتُ التوصية وهمساتُ الأصدقاء عند اللقاء، والأحاديثُ التلفونية أثناء الليل. لم يستطع أن يستفيد من هذا كله. تقدّمَ ليعمل كمساعد باحث في جامعة ييل الأمريكية، فقبلَ طلبهُ، فكان عليه أن يبدأ العمل في أكتوبر 1928. يتزايد خوفه كلما اقترب موعدُ سفره. كان يخشى الحياة في دولةٍ يقلّ عمرها عن معظم دورات المياه في فيينا! وصل إلى نيويورك بجواز سفر يحمل لقب دكتور قبل اسمه، وتأشيرة دخولٍ لطالب. قُبضَ عليه على الفور، وحوكم بعد يوم أو يومين، وحُكمَ بترحيله: إذا كان دكتوراً فهو لا يمكن أن يكون طالباً، وإذا كان طالباً، فكيف يمكن أن يكون دكتوراً؟ أرسلَ برقية إلى الجامعة، فخرج بعد يومين، وسافر إلى نيوهافن، ليقابله على المحطة أستاذُ الكيمياء. في حجرته وجدَ لوحة كُتبَ عليها: [فليعشش عصفورُ السعادة الأزرق في بيتك]. حرّكت اللوحةُ مشاعره. كانت الطيور في بلده النمسا قد غدت رمادية. فكّر كثيراً في معنى أن يُقال إن شخصاً ما " بلا جذور ". لم يستطع عندما قرأ هذا التعبير لأول مرة وهو صغير، أن يفهمه. فالإنسان ليس نباتاً. لكنه عرف الآن أن الإنسان بالفعل نبات. إننا نذبل إذا حُرمنا من التربة التي نمد فيها جذورنا. المتدين جذوره في دينه. التقاليد يمكن أن تكون جذوراً. القومية كذلك. والوطنية أيضاً. ولقد تحوّل العلمُ عند الكثيرين ليصبح البديل الذي يُبقيهم أحياء. كان عمره عندما وصل أمريكا 23 عاماً. أحسّ بأنه لقيط أُلقيَ أمام بوابة. لقد ترك كل شيء خلفه. هو لم يأت كمهاجر. لكن نيويورك صدمته. كانت أصواتها المشئومة وضجتها قاسية عليه للغاية. لم يتحمل النبض العصبي لمدينة أبداً لم تنم، لأنها أبداً لم تكن يقظانة. ظل يمشي الساعات الطويلة في شوارع حزينة يبحث عن وجه إنسان. وما رآه أصابه بالذعر. يبدو أن العالم الجديد قد اصطنع لنفسه ملامح جديدة: فارغة أحياناً، حزينة أغلب الوقت، فاترة الهمّة أو مشوهة تحمل بسمةً شاحبة. الناس في كل مكان يبدون تعساء، كأنما يحاولون أن يقولوا شيئاً استعصت عليهم كلماته. يهرعون يختبئون في يأس من مصير لا يعرفون إلا أنّ اسمه الفقر. فإذا سمعَ شيئاً يبدو كالضحك، استدار فلم يجد حوله إلا أوجهاً سوداء. إنه الآن في بلد يحمل فيه الفقراء فقرهم على صفحات وجوههم. يا ترى هل كان مثل دانتي الذي وصف الجحيم بشكل يفوق كثيراً وصفه للجنة - لأنه عاش في الجحيم فنسي الجنة؟.
مكثَ بقسم الكيمياء في جامعة ييل سنتيْن، أجرى فيهما أبحاثاً على التركيب الكيماوي لبكتيريا السلّ وغيرها من الميكروبات، ونشر سبعة أبحاث. في هذه الفترة عاد إلى فيينا، ليرجع بخطيبته بيرا ويتزوجا في نيويورك. حاول بعد نهاية السنتين أن يجد مكاناً آخر في زيوريخ أو في موسكو - فقد كان يتوق إلى العودة إلى أوروبا - لكنه فشل، فعاد إلى فيينا - " حالة نادرة يعود فيها الفأرُ إلى السفينة الغارقة ". ثم وجد مكاناً في جامعة برلين، ليقضي فيها أسعد أيام حياته من أكتوبر 1930 حتى أبريل 1933. كانت ألمانيا آنئذٍ في محنة اقتصادية رهيبة، وكان ثمة غشاء من الزيف يغلّف كل شيء، وثمة تعاسة غريبة في أعين الناس. بدا العالمُ في ذلك الوقت أعقد من أن يتحمله بشر. لم يعد أمام الناس إلا التفكير في الهروب، الهروب الأعمى إلى الجنون أو العنف أو التخريب. في جامعة برلين قابل الكثيرين من العباقرة: فريتس هابر، أوتوفاربورغ، ماكس بلانك، وأدرك أن العباقرة يتعلمون بما يشبه التناضح [الأسموزية]. ثم وصلته دعوة من معهد باستير في باريس، فسافر هو وزوجته إليها في إبريل 1933، حيث استمتع بذلك المرح [البحر أوسطي]، وبالمشي مع زوجته في شوارع باريس العتيقة الجميلة. وفي نهاية عام 1934 أبحر وزوجته - يا للعجب - إلى أمريكا ثانية، إلى كلية الطب بجامعة كولومبيا، حيث بقي إلى أن أُحيل إلى التقاعد.
في جامعة كولومبيا
بدأ في هذه الجامعة العمل على تجلط الدم، فنشر ما بين عامي 1936، 1948، عدداً كبيراً من البحوث في هذا الموضوع. " تجلّط الدم آلية وقائية غاية في الخطورة، لكن ثمة تناقضاً غريباً هنا: لا بد أن يبقى الدم في الجسم سائلاً، فإذا نزفَ فلا بد أن يتجلّط، وإلا كان هناك مرضاً ما ". حاول طول عمره أن يؤكد هذه الصفة الجدلية لعمليات الحياة. ذاع صيت هذه الأبحاث ثم نُسيت. تمضي الحقائق والمفاهيم العلمية إلى عالم النسيان قبل أن تُدرك قيمتُها الحقيقية. تتكاثر الحقائق الجديدة والمفاهيم الجديدة ثم تُستبدل بعد سنة أو سنتين، لتحلّ محلها أخرى أكثر طزاجة. تسارعت خطى العلم كثيراً خلال فترة حياته، حتى ليصبح الجديد تاريخياً ولمّا يجف مداد طباعته، وليصبح حتى على شباب العلماء أن يكافحوا من أجل البقاء. كان كل بحث يُنشر يحمل في ذيله قائمة من مراجع تعود أربعين أو خمسين سنة إلى الوراء، كان الكاتب يحسّ عندئذ أنه ينتمي إلى تقاليد عريقة تنمو في هدوء بمعدل يمكن للعقل البشري أن يستوعبه، وتتلاشى بمعدلٍ يمكنُ أن يقبله. كان للعلم بُعد بشري. أما اليوم فتولد معظم البحوث ميتة، مجرد أخبار لا تكاد تعيش يومَ ظهورها.
لم تعد التقاليد العلمية تعود أكثر من ثلاث سنوات أو أربع. المسرح هو هو، لكنّ المناظر تتغيّر بسرعة، كحلم رجل محموم، ما أن توضع ستارة خلفية في مكانها حتى تُستبدل بها أخرى مختلفة تماماً.
لا يريد شارغاف في كتابه أن يحكي للعامة بالتفصيل عما أجراه من بحوث، فالأغلب أن يقولوا ما قاله شاه إيران وهو يرفض دعوة الإمبراطور فرانتس يوسف كي يشهد معه سباق خيل: " أن يكون هناك حصان أسرع من الآخر، هذا أمر أعرفه من زمان. ثم أنني لا أهتم بمعرفة أيهما الأسرع! ". والهمهمة الحقيقية للعلم هي أن يعرف " أيهما الأسرع ".
وبدأ يعمل على الدنا
وفي عام 1928 نشر فريدريك غريفيث الأنجليزي بحثاً خطيراً بيّن فيه أنه إذا حُقنت في فئران بكتيريا حية غير ضارية ومعها مستحضر مقتول من بكتيريا ضارية، ظهرت الآثارُ المميتة على الفئران. سُمّيت هذه الظاهرة باسم " التحوّل البكتيري ". ثم أوضحت التجارب فيما بعد أن البكتيريا الضارية تحوي مادة يمكنها أن تحوّل البكتيريا غير الضارية إلى ضارية، تحولاً مستديماً يورث. وفي عام 1944 ظهر بحث لأوزوالد إيفري وآخرين عن الطبيعة الكيماوية للمادة التي تحفّز هذا التحوّل البكتيري. تمكنوا من عزل هذه المادة - وكانت هي الدنا. كان إيفري في ذلك الوقت قد بلغ السابعة والستين من العمر - حالة نادرة جداً لعجوز يقع على كشف علمي ضخم. رأى شارغاف بثاقب نظره أن بهذه المادة تكمن قواعد النحو والصرف لعلم البيولوجيا. هناك شيء يجمع الكائنات الحية جميعاً عند الفحص البيو كيماوي -ذاك أنها تتألف أساساً من أربعة مجاميع من مركّبات رئيسية: البروتينات والكربوهيدرات والدهون والأحماض النووية. دُرستْ جميع المجاميع الثلاث الأولى بنجاح فترةً طويلة، أما الأحماض النووية (ومنها الدنا) فلم تحظ بما تستحقه من بحث.
بدأ شارغاف عام 1945 يفكّر جدياً في الأحماض النووية، لكنه لم يجد فيمن حوله من يتحمس للعمل في هذا الموضوع. يصعب على الناس أن يخرجوا عن المفاهيم الذائعة المقبولة، الآمنة. نشر عام 1950 بحثاً أوضح فيه أن (الدنا) من الحيوان والميكروبات يحتوي على نسب من مكونات [أو قواعد] نيتروجينية أربعة: الأدنين (أ)، الجوانين (ج)، السيتورزين (س) الثايمين (ث). يختلف الدنا على ما يبدو باختلاف النوع، لا النسيج. هناك إذن عدد هائل من الأحماض النووية (الدنا) مختلفة البُنية، عدد لا شك أكبر من أن تكشفه كل طرق التحليل المتاحة.
وجد أيضاً أن نسبة (أ + ج) إلى (ث + س)، وأيضاً نسبة أ إلى ث، وكذا نسبة ج إلى س، كلها لا تختلف كثيراً عن الواحد الصحيح.
لم يلحظ عمره مثل هذا التساوي في الطبيعة! أصابه من الارتباك أكثر مما أصابه من السعادة. وفي عام 1951 ألقى محاضرة أكّد فيها صراحة اختلاف الدنا بين الأنواع، فهذه تختلف في مدى سيادة زوج القواعد أ - ث على زوج القواعد س - ج.
لم يكن لبحثه المنشور على ما يبدو وقع كبير، بل إنه يرى أن أكثر من استفادا منه [يقصد واطسون وكريك] لم يشيرا إليه - وهو يعتقد أن هذا قد يكون متعمداً.
في مايو 1952 كان عليه أن يلقي محاضرة في غلاسكو باسكتلندا، فعرج على كامبريدج، وهناك طُلب منه أن يقابل اثنين في معمل كافنديش، يحاولان مع الأحماض النووية، قابلهما [واطسون وكريك] وكان انطباعه عنهما غاية في السوء.
كانا يريدان - ولم يعوّقهما جهلهما بالكيمياء، أن يوائما الدنا في صورة لولب. دفعهما إلى ذلك على ما يبدو نموذج لولب ألفا للبروتين الذي ابتكره ليونوس بولنغ. رأى فيهما طموحاً جارفاً وعدوانية، يصطحبهما جهلٌ مطلق بعلم الكيمياء. يقول إنه أخبرهما بما يعرف، لو كانا قد سمعا بما أعلنه قبلاً عن قواعد الاقتران [أ دائماً تقترن مع ث، وس دائماً مع ج] فإنهما قد أخفيا ذلك عنه. ولما كانا لا يعرفان الكثير عن أي شيء، فإن ذلك لم يثر عجبه.
ذكر لهما محاولاته الأولى في تفسير العلاقات التكاملية وهو يعتقد تماماً أن نموذج اللولب المزدوج للدنا [الذي حصل به واطسون وكريك على جائزة نوبل] قد جاء نتيجة لحديثه معهما. عندما نشر واطسون وكريك سنة 1953 بحثهما القصير عن اللولب المزدوج لم يعترفا بمساعدته لهما، وإنما أشارا إلى بحث له قصير ظهر عام 1952. لم يذكرا ما نشره عام 1950 و 1951، وبعد أن ذاع أمر نموذج اللولب المزدوج سئل شارغاف: لماذا لم يكتشفه هو؟ لماذا تضيع منه نوبل هكذا؟ فقال إنه كان مغفلاً حقاً! لو عملت معه واحدة مثل روزاليند فرانكلين، فلربما تمكن منه في ظرف عام أو اثنيْن، ولما ضُخّمَ من شأن هذا اللولب ليصبح ذلك الرمز الذي حلّ لدى الكثيرين محل الصليب!.
من يكون هيروستراتوس؟
عندما احترق معبد آرتمسيون في إيفليوس - أحد عجائب الدنيا القديمة - عام 356 قبل الميلاد، أُعتقلَ شخصٌ اعترفَ بأنه أحرقه كي يُخلّد اسمه! أصدر القضاةُ حكماً بأن يظل اسمه مجهولاً. وبعد فترة قصيرة من صدور الحكم، إدعى أحد المؤرخين أن اسم الرجل كان هيروستراتوس. ولا أحد يعرف إن كان هذا هو الاسم الحقيقي للرجل. وعندما ذكر شارغاف اسم هيروستراتوس في مقال أرسله للنشر، اتصل به المحرر قائلاً إن أحداً في مكتب التحرير لم يسمع بهذا الاسم. لقضاة إيفيسوس أن يرتاحوا!
يقول شارغاف "إذا كان هيروستراتوس قد اكتسب الخلود لأنه أحرق معبد آرمتسيون، فالواجب ألا يُنسى ذلك الرجل الذي أعطاه أعواد الثقاب! ولقد كنتُ ذلك الرجل".
هو يخشى أن يساء فهمه إذا قال إن كل الاكتشافات أو الفتوحات العلمية كما يسميها البعض، تحمل عنصراً هيروستراتوسياً!
لم يكن أحد ليلحظ هذا عندما كان العلم صغيراً وضعيفاً. من اكتشف النار؟ من صاغ مفهوم الزمان أو القوة؟ تبقى أسماؤهم مخبوءة في الضباب القديم. وتظل عنده الأسماء الثلاثة الكبيرة في علم البيولوجيا خلال المائة عام الأخيرة: دارون، مندل، إيفري.
العلم في زماننا
أصبح الدنا هو رمز عصرنا، سلم حلزوني نرجو أن يهدينا إلى السماء. تم ترويجه بشكل مذهل. أُستخدم كشعار، رُسم على أربطة العنق. زُينت به أوراق الخطابات. وضعَ كتمثال خارج المباني. لم يعد معظم الطلبة يدرسون الطبيعة، إنما يختبرون نماذج! تحوّلت دراسة الحياة، تلك الرقيقة الحنون، واستُبدلت بها بحوث محمومة صاخبة، وامتلأت المعامل والمؤتمرات بنوع جديد من العلماء. سئل شارغاف: ألم تساهم ولو بقدر ضئيل في هذا؟ فأجاب " والله ما قصدت هذا أبداً ". تضخم العلمُ - ذاكرة البشر المتراكمة - حتى لم يعد أحد قادراً على أن يعرف ما يكفي عن موضوعه، فظهرت فئة من العلماء لا يفعلون أكثر من الجلوس في اللجان. وليس ثمة إبداع عقلي يتم بلا جهد، قصيدة كان أو عملاً موسيقياً أو صورة زيتية، لكن هناك الآن من " الفتوح العلمية " ما لم يُبذل فيه مجهود على الإطلاق. وظهر من يظن أن البيولوجيا الجزيئية تمثل كل علوم الحياة. وهذا غير صحيح إلا بالمعنى السطحي القائل إن كل ما نراه في هذا العالم مؤلف من جزيئات. لكن هل هذا كل شيء؟ هل نستطيع أن نصف الموسيقى بقولنا إن كل الآلات الموسيقية مصنوعة من الخشب والنحاس إلخ.. وننسى الأصوات؟ إن في الموسيقى شيئاً أكبر، شيئاً في عقل مؤلفها يدفعه، هناك موسيقى دون كل هذا الخشب والنحاس. وكذا الأمر في العلم. العالِم الحق يحثه ويدفعه إحساسٌ غامض كذلك الذي يدفع اليرقة على أن تصبح فراشة " قوة ترى في عماء، تسمع في صمم، تتذكر بلا وعي ".
يقول شارغاف إنك لن تكون عالماً إذا لم تخبر تلك الرجفة الباردة تسري في نخاعك، إذا لم تواجه ذلك الوجه الهائل غير المرئي، فحركتك أنفاسُه وبكيت. قلة ممن يدخلون حقل العلم يصبحون علماء، ويتحوّل الباقي إلى " أخصائيين " ذوي رؤية ضيقة.
عندما سئل عن مستقبل العلم، قال إن العلماء يواجهون مأزقاً: هناك في ناحية، جمالُ العلم ونظامه وانفتاحه وفتنته التي تأسر العقل الذكي الباحث، وهناك من ناحية أخرى، تلك الأغراض اللاإنسانية التي أُستخدم فيها، ثم وحشية التفكير والخيال التي نجمت عنه، وعجرفة ممارسيه. ليس بين الأنشطة الذهنية البشرية مثيل له في هذا. الفنُ والشعر والموسيقى لا تمنح قوة ولا سلطة، لا يمكن استغلالها ولا يمكن إساءة استخدامها. لو كان لموسيقى الموشحات الدينية أن تقتل، لدعمَ البنتاغون البحوث في الموسيقى من زمان طويل.
إذا كنت واقعياً فستعطي الاهتمام لوجهيْ المأزق، وإذا كنتَ يوتوبياً، اتجهت فقط إلى الناحية المشرقة وتجاهلتَ أي ظلال سوداء قد يلقيها الحاضر. وهو يميل إلى الخيار الواقعي، ويرى أننا سنشظي رؤيانا للطبيعة أكثر وأكثر، ستتكاثر التخصصات، وتتباعد فروعُ العلم عن بعضها أكثر وأكثر، وتتزايد تكاليف حفظ المؤسسة العلمية وتوسيعها، وتزداد الهوة ما بين ادعاءات العلم ومنجزاته.
فإذا كان هدف العلم أن يعلّمنا حقائق الطبيعة، أن يكشف لنا الغطاء عن واقع العالَم، فإن نتيجته لا بد أن تكون حكمة أكبر، وحباً أعمق للطبيعة، وعشقاً مضاعفاً لقوة الإله، ومساهمة فعالة في القضاء على شقاء البشر. لكن العلم في رأيه قد تحوّل من مهمة صُممت لتفهم الطبيعة، إلى محاولة تفسير الطبيعة، ثم التحسين عليها، ومن ثم مضى العلم يؤكد على الناحية الميكانيكية. والتأكيد على الآليات قد أنتج واحدة من لعنات هذا العصر: الخبراء! أصبح الطبيب ميكانيكي أجساد، أصبح البيولوجي ميكانيكي خلية، وإذا لم يكن الفيلسوف قد تحوّل بعد إلى ميكانيكي مخ، فليس ذلك إلا دليل تخلفه!
عندما تقاعد
في عشرين نوفمبر 1975 كان عليه أن يتقاعد. كان معمله مجهزاً جيداً، ولديه مكتبة علمية ضخمة، وقدر كبير من الأوراق البحثية والمراسلات جمعها في أربعين عاماً. وكان ثمة خزانة تحوي مستحضرات تحتاج إلى عناية خاصة، فتركها ليوم تال.
خرج وعندما عاد لم يستطع الدخول. كان بعضهم قد غيّر الأقفال جميعاً!