التّضحية واللا عنف
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
على إحدى القنوات الفضائية خرجت فتاة لبنانية من بنات الجنوب، بعد أن شردها القصف الإسرائيلي في لبنان لتقول عن تحديها لإسرائيل، وإصرارها على المقاومة : (سنصمد حتى لوضحينا بكل الأمة العربية، ما بيهم) !. هذه الفتاة لم تخرج عن النمط العربي المألوف والشائع لمفهوم (التضحية)، وإنما هي منسجمة تماماً مع فهمها للمقاومة والتحدي والإصرار الذي هو الفهم (السائد) في المنطقة. فالتضحية هي لذاتها؛ وهي لا تخدم الإنسان، وإنما (توظفه) لخدمتها، حتى وإن (بادت) الأمة العربية كلها كما تقول تلك الفتاة؛ فالإنسان (قيمته) أنه خادم (للأيديولوجيا) لا أكثر!. كما أن الإنسان نفسه هو (وسيلة) وليس غاية في هذه الحياة، فالغاية التي يجب أن تذعن لها ولتحقيقها ولبلوغها كل الغايات هي (التضحية)!
نضحي لماذا إذن؟. لذات التضحية!. هكذا هو منطق الإنسان المؤدلج.
الكاتبة التونسية الدكتوره رجاء بن سلامة والمتخصصة في (تشريح النص)، تقول تعليقاً على قول حسن نصر الله: (مهما عظمت التّضحيات فنحن خرجنا من رحمها)، ما نصه : (هذه الجملة لها دلالة على طبيعة المقاومة التي يتزعّمها هذا الخطيب. إنّها مقاومة لا تضحّي من أجل الدّفاع عن الوطن واستقلاله وحرمة أهله، بل تعتبر التّضحية أصلا وأساسا تنطلق منه وتعود إليه : إنّها تضحّي من أجل التّضحية، إنّها تدافع عن الوطن من أجل التّضحية ولا تضحّي من أجل الوطن، وهذا هو الإشكال في هذه المقاومة : إنّها ولدت "من رحم" التّضحية، ولدت من رحم الرّغبة في الموت، وستعود إلى هذا الرّحم الذي تعجز عن الخروج منه على نحو مرضيّ يتّخذ شكلا ثقافيّا. التّضحية لا الحياة هي الأصل والمآل في إيديولوجيا المواجهة المسلّحة هذه، وواجب الشّهادة لا الحقّ في الحياة هو الأصل والمآل فيها). (انظر مقالها)
وفي كتابه (كبش المحرقة - نموذج لمجتمع القوميين العرب) يحاول مؤلفه (فاضل الربيعي) أن يُشرّح مفهوم (التضحية) في الذهنية العربية، ويتحدث عنه على أنه مفهوم يعتمد على تقديم الشعب والمواطن والوطن (قرباناً) من أجل القائد صاحب الأيديولوجيا، لتصبح الجماعة (الإنسان) مجرد وسائل في ما سماه ( بفقه الإفناء).
وعندما نلتفت إلى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، نجد أن كل (التضحيات) التي مارستها الدول العربية في الصراع مع الإسرائيليين انتهت بهزائم لهم، وبالتالي للفلسطينيين، سوى نوع واحد من المقاومة، لم يكن فيه للسلاح أو العنف أو القتل إلا دور من طرف واحد، الطرف الإسرائيلي.. (الانتفاضة)، أو مواجهة العنف بالحجارة، و بالصدور العارية، هي (التكنيك) المقاوم الذي أحرج إسرائيل، وأظهرها أمام العالم كله على حقيقتها، وكشفها، واضطرها في النهاية إلى السلام.. كما أن(الانتفاضة) وليس (السلاح) و(القتل) والتفجير هو الذي خلق على أرض الواقع (نواة) الدولة الفلسطينية، وجعلها حقيقة واقعة، وكانت قبل الانتفاضة مجرد حلم يبحث عن (التطبيق) على الارض.
ما الفائدة - إذن - من السلاح، والدماء، والتضحية بالإنسان، طالما أن للمقاومة شكل آخر، اكتشفه (غاندي) في الهند، فتحقق به، ومن خلاله، وعلى أساسه، أكبر وأعظم (ديمقراطية) عرفها (الشرق) في الهند، وجربها الفلسطينيون (برهة) قصيرة من تاريخهم، من خلال (الانتفاضة)، فحققت لهم ما لم تحققه كل الحروب والجيوش العربية مجتمعة طوال العقود المنصرمة، التي أعقبت وعد بلفور.
صدقوني أن إسرائيل من خلال (القوة) ستبقى، ومن خلال السلام ستنتهي. اللا عنف هو (الحل).
فإذا اتفقنا على أن (الانتفاضة)، هي التي أسست لدولة (السلطة) الفلسطينية القائمة الآن، وأعادت ياسر عرفات، ومن ثم أبو مازن، من الشتات إلى فلسطين، وأعطت لحماس من خلال الديمقراطية - فيما بعد - إمكانية (الحكم)، وفي المقابل كان العنف وفكرة التضحية بالإنسان، والعمليات (الانتحارية) هي التي تكاد اليوم أن تلغي كل المكتسبات التي بناها (المنتفضون) وليس (القتلة الانتحاريين)، فإن السؤال الذي يفرض نفسه علي هذا السياق : لماذا نصر على الطريق الوعر، ونترك الطريق (الأسهل)، والأكثر (حضارية)، الذي جرّبناه، فحققنا به ما لم يحققه لنا العنف والسلاح والعمليات الانتحارية المتوحشة؟
اللا عنف كما يطرحه غاندي هو: ( إبراز ظلم المحتل من جهة، وتأليب الرأي العام على هذا الظلم من جهة ثانية، تمهيدا للقضاء عليه كلية أو على الأقل حصره والحيلولة دون تفشيه). وهذا بالتحديد ما فعلته الانتفاضة في فلسطين.
هل هذه انهزامية - كما سأتهم - أم أنها عقلانية؟. لكم - أيها السادة - الحكم!