لنتصارح إذا أردنا أن نتصالح (2)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
عندما يتم الحديث، في كل زمان ومكان، عن "مصالحة" سياسية فأن ذلك يعني وجود قضية شائكة تتطلب حلا. وعندما يتم اللجوء إلى استخدام السلاح، أو التهديد باستخدامه لحل هذه القضية فأن ذلك يعني أن هذه القضية أصبحت مشكلة مستعصية على الحل بالوسائل التقليدية المتعارف عليها. وعندما تتعلق هذه المشكلة، مثلما هو الحال في العراق، بمصير الملايين من البشر فأن عدم حلها يؤدي إلى كارثة بشرية ومادية. وفي هذه الحال فأن أي محاولة لتأخير الحل أو تأجيله أو فرض الأمر الواقع، وأي محاولة للتشاطر والتذاكي و الابتزاز وتضييع الوقت واللعب بالكلمات ودفن الرؤوس في الرمال تصبح، ليست ترفا سياسيا فحسب، وإنما انتحارا ونحرا للآخرين.
وحتى ندخل في صلب الموضوع، سنحدد القضايا الرئيسية التي نرى أنها تحتاج إلى توضيح.
تغير الخطاب السياسي
عندما عاد سماحة آية الله الشهيد محمد باقر الحكيم إلى وطنه بعد سقوط نظام صدام حسين، فأنه ألقى خطابا بتاريخ 10 مايو/أيار 2003 في مدينة البصرة، وأبرز ما قال فيه: "نريد أن يحكم الشعب نفسه بنفسه. نريد حكومة ديمقراطية. نريد حكومة تمثل المسلمين جميعا شيعة وسنة، وتمثل المسيحيين أيضا وكل طوائف العراق، ليتمثل جميع أبناء الشعب، إن أولوياتنا هي وحدة الكلمة. نحن نرفض الوجود البعثي بين أبناء الأمة. نعم نعم للحرية. نعم نعم للاستقلال ولجميع فئات الشعب من عرب وكرد ومسيحيين ومسلمين. نحن نريد العدالة للجميع ولا نقبل غير العدالة".
هذه هي الثوابت الوطنية الكبرى التي طالب الحكيم أن تسود عراق ما بعد صدام حسين: الاحتكام لإرادة الشعب، كل الشعب وليس لطائفة واحدة، والتأكيد على الوحدة الوطنية الشاملة، ورفض الديكتاتورية السياسية، والتمسك بالتعددية، والتأكيد على الديمقراطية كأسلوب في الحكم، من شأنه إذا طبق، أن يحقق مطالب جميع العراقيين، وإطلاق الحريات العامة، ورفض عودة حزب البعث إلى الحياة السياسية، بسبب نهجه الديكتاتوري ونزعته التسلطية، أي لرفض البعث أن تكون في العراق "حكومة ديمقراطية"، وليس لأي سبب آخر.
وهذه الثوابت الوطنية هي نفسها التي كانت تؤكد عليها جميع قوى المعارضة العراقية، بكل أطيافها وألوانها، خلال العمل ضد نظام صدام حسين الذي كانت تقف ضده تلك القوى بسبب طبيعته السياسية الديكتاتورية، وليس لأي سبب آخر. وقد ظلت تلك الثوابت بمثابة دليل عمل لجميع القوى السياسية، بعد سقوط النظام البعثي. ووجدت هذه الثوابت أجماعا وترحيبا من قبل الغالبية الساحقة من الشعب العراقي.
وعلى هدى هذه الثوابت وتمسكا بها، شرع العراقيون، فور سقوط النظام البعثي، في تنظيم حياتهم الجديدة، فظهرت عشرات الصحف اليومية والقنوات الفضائية، وتشكلت أحزاب سياسية عديدة، انضمت إلى الأحزاب السرية التي كانت قائمة، وظهرت المئات من منظمات المجتمع المدني في أنحاء العراق كلها، وتحولت الساحة التي أسقط فيها تمثال صدام حسين، من مكان يرمز للديكتاتورية والتفرد والاستئثار واحتكار السلطة، إلى مكان يتظاهر فيه العراقيون وتعلو أصواتهم وتتعدد مطالبهم التي كانت تؤكد على ضرورة ظهور عراق جديد تعددي ديمقراطي، يجد فيه كل عراقي، فردا أو جماعة ضالته.
لكن هذا الخطاب الوطني العراقي الشامل بدأ ينكفئ ثم يتراجع، شيئا فشيئا، وحل محله خطاب طائفي تبلور، في نهاية المطاف، على شكل محاصة طائفية، ثم احتقان طائفي، ثم صرنا على مشارف حرب طائفية.
ما علاقة التكفيريين والصداميين ب"المعادلة الظالمة"؟
في أخر تصريح له، قال سماحة السيد عبد العزيز الحكيم، رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق ورئيس الإتلاف الشيعي الذي يشكل الأكثرية البرلمانية: "إن أعداء العراق من التكفيريين والصداميين يحاولون اليوم إرجاع المعادلة الظالمة التي حكمت العراق طيلة ثمانين سنة ومارست خلالها الأنظمة المتعددة الاضطهاد والتمييز والإبادة في أحيان كثيرة بعد أن تخلص منها الشعب العراقي وإلى الأبد بعد سقوط صدام." /صحيفة الاتحاد البغدادية في 15/8/2006./
هذا الخطاب يعتبر تحولا نوعيا، ليس فقط عن خطاب الثوابت الوطنية الجامعة، الذي ألقاه الشهيد آية الله باقر الحكيم، بعد سقوط صدام حسين، ولكنه يعد تحولا عن الخطاب السياسي العام الذي كانت تتمسك به جميع القوى العراقية السياسية المعارضة، بل هو تحول عن الفكر السياسي العراقي الذي كان سائدا منذ بداية القرن الماضي، وساهم في صياغة مفرداته زعماء العراقيين الشيعة، بما في ذلك رجال الدين الشيعة أنفسهم.
فإذا كان حديث السيد الحكيم، هو عن خطر "الصداميين والتكفيريين" على إفشال العملية السياسية الجارية والتجربة الديمقراطية القائمة، فما علاقة ذلك بفترة "الثمانين سنة" الماضية، أي عمر الدولة العراقية الحديثة؟ وما علاقة الصداميين والتكفيريين، ب"المعادلة الظالمة التي حكمت العراق طيلة ثمانين سنة"؟ إن صدام، كما نعرف، وصل إلى السلطة عام 1968 وليس قبل ثمانين عاما. والتكفيريون، وفقا للتعريف الدارج لهم هذه الأيام، بدأوا ينشطون داخل العراق منذ ثلاث سنوات، وبالتالي فأن الطرفين ليس لهما علاقة بفترة الثمانين سنة الماضية.
البعثيون مسؤولون عن الخراب الذي حل في العراق منذ ثلث قرن، أي منذ وصولهم إلى السلطة عام 1968 . والتكفيريون مسؤولون عن الخراب الذي ما يزال يحل في العراق منذ ثلاث سنوات. وهذه المعلومة التاريخية يعرفها حتى الرضيع العراقي، فما بالك في زعيم سياسي مثل السيد الحكيم؟ أم أن المفردة اللغوية عند سماحته لها معنيان، أحدهما ظاهر ومعروف ومتفق عليه، والآخر مستتر غامض لا يعرفه غيره؟
ودعونا نطرح هذا السؤال بصيغة أخرى: هل أن تعبير "الصداميين والتكفيريين" يعني، عند السيد الحكيم، جميع أولاءك الذين تعاقبوا على حكم الدولة العراقية الحديثة منذ تأسيسها وحتى لحظة سقوطها قبل ثلاث سنوات؟
يبدو أن الأمر كذلك. السيد عبد العزيز الحكيم يعني بتعبير "المعادلة الظالمة التي حكمت العراق طيلة الثمانين سنة الماضية"، الدولة العراقية الحديثة منذ تكوينها في بداية عشرينات القرن الماضي. وسنكون ظالمين أو سذجا لو خالفنا ما يقوله السيد الحكيم، وقلنا أن تلك المعادلة لم تكن ظالمة. فالجميع يعرف أن الدولة العراقية الحديثة لم تكن ممثلة لجميع مكونات الشعب العراقي. فقد ظل الشيعة (ومعهم، بالطبع، مكونات أخرى، لكننا نتحدث الآن عن العراقيين الشيعة) على هامش تلك الدولة، وليس في متنها. ولكن ذاك التهميش لم يتم بعيدا عن الطبيعة "السياسية" لأنظمة الحكم التي تعاقبت على قيادة الدولة، أي عدم وجود ال"حكومة ديمقراطية" التي طالب سماحة آية الله باقر الحكيم بوجودها. وسنلغي تاريخ العراق كله، ونستهين بتضحيات ألاف، بل ملايين العراقيين خلال الثمانين سنة الماضية، لو اختصرنا الصراعات التي خاضها العراقيون خلال عمر الدولة العراقية الحديثة، بصراع شيعي/سني. وسنبتعد عن العدل والإنصاف لو ضعنا في خانة واحدة، الحكم الملكي، وحكم ما بعد ثورة تموز 1985، وحكم البعثيين في عام 1963، وحكم العارفين، وحكم أحمد حسن البكر، وحكم صدام حسين.
إن للعراقيين، مثلما لكل الشعوب، ذاكرة جمعية سياسية، لا يمكن أن نشطبها بجرة قلم. وبعض تفاصيل هذه الذاكرة تقول أن العراقيين الشيعة ظلوا يعانون من "الظلم والتهميش والإبادة" حتى في الفترات التي كان فيها الشيعة يحكمون البلاد، أي عندما قاد البلاد عبد الوهاب مرجان وصالح جبر وفاضل الجمالي وناجي طالب، ومجموعة علي صالح السعدي ومحمد حمزة الزبيدي.وكان الرصافي السني، وليس الشيعي، هو الذي هجا بقسوة بالغة، الملك فيصل الأول السني. وكان الشيعي الجواهري هو الذي هجا هجاءا لاذعا، الشيعي صالح جبر. وكان أبناء النجف والفرات الأوسط الشيعة هم الذين قطعوا أوصال أترابهم وأبناء مدنهم، الشيعة سلام عادل ومحمد حسين أبو العيس وحسين عوينة في قصر النهاية بعد انقلاب شباط عام 1963 . وكان القوميون والإسلاميون السنة في محافظة الأنبار هم الذين قطعوا أجساد "أشقائهم" البعثيين السنة في الحرس القومي في تلك المحافظة، مباشرة غب سقوط نظام البعث في 18 تشرين عام 1963.
فهل نستطيع أن نقول، بعد ذلك، أن الصراع الذي خاضه العراقيون خلال العقود الماضية، كان صراعا مذهبيا صافيا، علما بأننا لم نستشهد إلا بنتف متناثرة استقطعناها من تاريخ طويل، كتبت حوله مئات الكتب التاريخية والمذكرات الشخصية والأطروحات الجامعية؟
فقراء الشيعة لاقوا ظلما على أيدي أثرياء الشيعة
لا نعتقد أن أحدا ينكر أن فقراء العراقيين الشيعة لاقوا، وفي أحيان كثيرة جدا، ظلما شديدا من قبل "أشقائهم" العراقيين الشيعة، أكثر ألف مرة مما لاقوه على يد الدولة العراقية "السنية" الظالمة". والدولة العراقية "السنية" التي يشير إلى "ظلمها" سماحة السيد عبد العزيز الحكيم، كانت "عادلة" تماما مع شيوخ وأثرياء العراقيين الشيعة. وبفضل دعم وتشجيع تلك الدولة "السنية" "الظالمة" تعاون أثرياء العراقيين الشيعة مع مواطنيهم السنة "الظالمين"، ونسوا تماما خلافاتهم المذهبية، عندما كان الأمر يتعلق بنهب أفضل الأراضي الزراعية، حتى أن عائلة السعدون وعائلة موحان الخير الله كانت كل منهما تملك في محافظة الناصرية، في أواسط القرن الماضي، ما يزيد على 300 ألف دونم، بينما كان الفلاحون الشيعة في هذه الأماكن لا يحصل أحدهم على رغيف واحد من الخبز. إما في محافظة العمارة فقد كانت توجد، في نفس الفترة التاريخية، 18 عائلة تتصرف بالإيجار الدائم وبأسعار رمزية بما مقداره 2492977 دونما، في الوقت الذي كان فيه فلاحو العمارة الشيعة يفرون نحو العاصمة بغداد، ليسدوا رمقهم عن طريق العمل في إزالة قاذورات أغنياء بغداد، الشيعة والسنة.
وفي مقابل ذلك، كان عراقيون شيعة وسنة يتناسون، هم أيضا، ولكن على طرقهم المغايرة، خلافاتهم المذهبية، ليؤسسوا أحزابا وحركات سياسية تهدف إلى تغيير تلك "المعادلة الظالمة" منذ الأيام الأولى لتشكلها، وتعديل الخلل في الميزان السياسي والاجتماعي. وإنها كثيرة جدا تلك الأحزاب التي أسسها وقادها وشارك في عضويتها الشيعة والسنة وبقية المكونات العراقية، ليس أولها ولا أخرها حزب الاستقلال الذي اشترك فيه، منذ الأيام الأولى لتشكل "المعادلة الظالمة"، محمد مهدي كبة وداود السعدي وخليل كنة واسماعيل الغانم وفاضل معلة وعلي القزويني وعبد المحسن الدوري ورزوق شماس وعبد الرزاق الظاهر ومحمد صديق شنشل وفائق السامرائي.
هل نسينا "جمعية بين النهرين"؟
إما رجال الدين الشيعة، وسماحة السيد عبد العزيز نجل واحد من كبارعلمائهم، وواحد من أبرز قادتهم الآن، فقد كان همهم الأكبر، منذ الأيام الأولى لظهور تلك "المعادلة الظالمة"، بل وقبل وبعد ظهور تلك المعادلة، هما وطنيا شاملا، أي مصلحة العراق، كل العراق، ومصالح العراقيين كل العراقيين. ولعل الذاكرة الجمعية العراقية لا تنسى "جمعية بين النهرين"، أو "اللجنة العليا لممثلي العراق في طهران"، التي كونها رجال الدين الشيعة الذين هجروا إلى إيران في بداية عشرينات القرن الماضي، والمطالب الوطنية، وليس الطائفية التي كانت تطالب بها. وسنعجز إذا حاولنا تعداد ذكر تلك الأسماء اللامعة لرجال الدين الشيعة الذين وضعوا الهم العراقي الوطني في أولوية مطالبهم، بدءا من محمد تقي الحائري الشيرازي وشيخ الشريعة الأصفهاني وأبو القاسم الكاشاني والسيد محمد الصدر وميرزا محمد رضا الشيرازي والشيخ مهدي الخالصي ومحمد الخالصي، مرورا بالسيد محسن الحكيم وبالصدرين، وانتهاء بالمرجع الحالي سماحة السيد علي السيستاني.
النظام الديمقراطي كفيل بإلغاء كل المعادلات الظالمة
وكل هذا الذي قلناه لا ينفي وجود "المعادلة الظالمة". ولكنه لا ينفي، أيضا، أن تلك "المعادلة الظالمة" تزول عندما يزول النظام "السياسي" الظالم الذي خلقها. وهذا الظلم لا يزول إلا (ونكرر على مفردة إلا) بخلق نظام ديمقراطي حقيقي يعتمد على صناديق الانتخابات، أولا وأخيرا. وما من فترة في تاريخ العراق الحديث ظهر فيها نظام كهذا، مثل فترة ما بعد سقوط نظام صدام حسين، رغم كل ما عرفته هذه التجربة من ملابسات قاسية وشديدة الإيلام، أولها سقوط النظام بأيادي أجنبية أميركية.
ورغم جميع هذه التعقيدات، إلا أن العراقيين نجحوا في إيصال ممثليهم تحت قبة البرلمان، وانهارت تلك "المعادلة الظالمة"، مرة واحدة وإلى الأبد ولن تعود مرة أخرى، وحلت محلها، بفضل التجربة الديمقراطية الجديدة، معادلة ديمقراطية جديدة.
وبموجب هذه المعادلة أصبح "الإتلاف" الذي يتزعمه السيد عبد العزيز الحكيم، أكبر كتلة برلمانية، وهو أمر يؤهل هذه الكتلة، نظريا وعمليا، لقيادة البلاد، والتحدث باسم جميع العراقيين. فالمعروف، في كل الأنظمة الديمقراطية، أن تؤلف أكبر الكتل البرلمانية، الحكومة. ولو كان العراق يعيش في ظروف صحية، مثل بقية المجتمعات الديمقراطية، وليس في هذا الظرف الاستثنائي المؤقت، لكان من حق كتلة الإتلاف، من حقها تماما، أن تشكل الحكومة على هواها ومثلما تريد، ما دامت أكثرية الناخبين العراقيين قد اختاروها لتمثيلهم. وفي كل الأحوال فان زعماء أو زعيم الأكثرية البرلمانية يصبح زعيما وطنيا للعراقيين، لكل العراقيين. أي أن زعيم الإتلاف، السيد عبد العزيز الحكيم هو زعيم العراق كله، وليس زعيم "الإتلافيين" وحدهم، ولا زعيم الشيعة وحدهم، ولا زعيم القوى الإسلامية وحدها، ولا زعيم العرب دون الكورد ولا زعيم المسلمين دون المسيحيين والصابئة، ولا زعيم المؤمنين دون غيرهم، ولا زعيم الرجال دون النساء.
"أتباع أهل البيت": تعريف غريب للمواطنة
عندما أدلى السيد عبد العزيز الحكيم بصوته في الانتخابات العامة، فانه ظهر أمام شاشات التلفزيونات وهو بصحبة امرأة من أل بيته، متلفعة بالسواد من أخمص قدميها حتى قمة رأسها. وقبل ذلك أو بعده، ظهر سماحته وهو يبكي بحرقة مستعرضا مواكب الزائرين في إحدى المناسبات الدينية الشيعية.
سيكون من السفه والحمق لو أتهمنا احد بأننا نصادر حق الناس في أداء طقوسهم الدينية مثلما يشاءون، أو نصادر حقهم في اختيار التربية البيتية التي يفضلون لتنشئة أبنائهم وبناتهم. فهذا حق يجب أن يتمتع به المواطنون أجمعين. ثم، أن سماحة السيد عبد العزيز الحكيم هو، قبل كل شيء، رجل دين له نظرته الخاصة للحياة وله سلوكه اليومي الخاص وله رؤيته الخاصة للأمور. لكننا نتحدث هنا عن عبد العزيز الحكيم باعتباره قائدا وطنيا عراقيا، ورئيسا للأكثرية البرلمانية.
فعندما يصطحب عراقي ما، يطمح أن يكون قائدا للبلاد وزعيمها، سيدة متلفعة بالسواد إلى مقر انتخابي، ليدلي هناك برأيه في انتخابات تقرر نتائجها مستقبل العراق، فكأنه يريد أن يقول للعراقيين: هذا هو نموذج المجتمع الذي نريد، نحن الأكثرية البرلمانية، ظهوره. وعندما يظهر زعيم الأكثرية البرلمانية باكيا وهو يستعرض الحشود في مناسبة شيعية، فأن واجبه كزعيم وطني عراقي، أن يظهر باكيا، أيضا، داخل جامع أو تكية في مناسبة دينية سنية، وداخل كنيسة للمسيحيين وداخل معبد للصابئة أو الأيزيدية، وفي حفل تأبيني لشهداء القوى الديمقراطية المغايرة لأفكار ولسياسيته.
وتاريخ العراق حافل بالقيادات والزعامات الوطنية التي فرشت جناحيها على العراقيين كلهم. فما كان رئيس الوزراء العراقي عبد الكريم قاسم خائفا، ولا متملقا وهو يزور، في آن واحد، المرجع الشيعي محسن الحكيم في المستشفى، ويفتتح كنيسة للمسيحيين في قلب بغداد، ويختار السنة في الحكومة وفي مجلس السيادة. وما كان جعفر أبو التمن وجلا وهو يضم في صفوف حزبه كل المكونات العراقية. وما كان المرجع محسن الحكيم بحاجة أن يحابي أحدا، وهو يشجب ما كان يعانيه الكورد من ظلم، وينتقد أفعال البعثيين ضد عموم العراقيين أثناء تقلدهم الحكم عام 1963 . والمرجع السيد علي السيستاني لا يرجو شفاعة وعطف أحد، عندما يلح، هذه الأيام، على وحدة العراقيين، كل العراقيين.
إن أي ممارسة توحي، ولو مجرد إيحاء، بانحياز لجماعة عراقية دون أخرى، تبعد الزعيم، أي زعيم، أن يكون زعيما لكل الشعب، فما بالك لو أن هذه الممارسة تصنف المواطنين العراقيين إلى درجات أو أصناف. ونحن نشير، هنا، إلى تعبير "أتباع أهل البيت" الذي بدأ يتكرر في الخطاب الديني الشيعي العراقي.
كيف يراد مني، أنا العراقي السني والمسيحي والصابئي والشيعي الديمقراطي، الذي منحت ثقتي لقائمة الإتلاف الموحد (وبالمناسبة هناك الكثير من هولاء من أعطوا أصواتهم لهذه القائمة) أن أفرح وأن يطمأن قلبي وان أشعر إني مواطن من الدرجة الأولى، وأنا أقرأ وأسمع زعماء القائمة التي انتخبتها، يعتبرونني مواطنا من الدرجة الثانية، ولا يتحدثون إلا عن معاناة جماعة واحدة داخل المجتمع؟ وحتى لو لم انتخب هذه القائمة، فان من حقي أن أشعر بالخذلان والغبن والتهميش، وانأ أجد زعماء الأكثرية البرلمانية في بلادي، لا يتحدثون إلا عن "فئة" واحدة من العراقيين، حتى لو كان هولاء الزعماء لا ينتمون للجماعة العراقية التي انتمي إليها. إذ، في اللحظة التي يدخل فيها هذا الشخص أو ذاك تحت قبة البرلمان الوطني، فانه يصبح، بالضرورة، ممثلا لجميع مواطنيه.
قد يقول هذا الزعيم أو ذاك من قائمة الإتلاف بأنه لم يلفظ قط تعبير "أتباع أهل البيت". وقد يكون هذا صحيحا، لكننا لم نسمع واحدا من هولاء الزعماء وهو يعترض على استخدام التعبير.
ثم، من هم "أتباع أهل البيت"؟ هل هم مؤيدو قائمة الإتلاف، أم عموم الشيعة، أم نخبة مختارة داخل الشيعة؟ وإذا كان مصطلح "أتباع أهل البيت" يعني كل فرد شيعي، فلماذا، إذن، تتم تصفية الشيعة البعثيين،دون تقديمهم أمام القضاء؟ ولماذا تمت أكثر من محاولة لاغتيال النائب إياد جمال الدين وهو، كما نعرف من عائلة شيعية متدينة ومعروفة؟ ولماذا يتم حرق مقرات لأحزاب سياسية ديمقراطية في مدينة الصدر والناصرية وسوق الشيوخ، والقائمون على هذه المقرات هم من الشيعة، ولماذا يقال عن هذا الموظف الشيعي الكبير أو ذاك، بأنه لا يمثل الشيعة، بمجرد أنه لا يتفق مع التصنيفات أو المحاصة الطائفية؟
الماسوني حارث الضاري
تعج مواقع شيعية على شبكة الانترنيت بشتائم قاسية ضد قادة وزعماء عراقيين سنة. ولو كانت هذه المواقع من سقط المتاع لهان الأمر، لكنها تعود لزعماء مرموقين وأعضاء في البرلمان. فهل من اللائق أن نجد من يصف، في واحد من هذه المواقع، الشيخ الدكتور حارث الضاري، الأمين العام لهيئة علماء المسلمين، "الماسوني حارث الضاري"؟
قد يوجد خلاف كبير مع الضاري في أفكاره ومواقفه السياسية (ونحن شخصيا نخالف بعض أراءه)، ولكن هل من المعقول أن يقود هذا الخلاف لإطلاق هذه الشتائم. فإذا لا تأبه هذه الشتائم بحارث الضاري لكونه سليل أحد زعماء ثورة العشرين، فعلى الأقل لصفته كأمين عام لهيئة دينية لها أنصارها وأتباعها، وإن لم يكن فلصفته كأكاديمي معروف، فأن لم يكن فلصفته كشيخ لأحدى العشائر الضاربة في العراق، فأن لم يكن، فلصفته كشخصية عراقية لا أكثر، سيتم التحاور معها، غدا أو بعد غد.
بالطبع، نحن نعرف أن هذه الشتائم لا تصدر من جهة واحدة، وإنما هي شتائم متبادلة. ولو كان العراق يعيش ظرفا طبيعيا لهان الأمر كثيرا، لكن العراق يعيش في ظرف تصبح فيه المفردة أقسى،أحيانا، من تفجير سيارة مفخخة في جمع من الناس.
وكما يجد القاريء، فأننا لم نتحدث هنا إلا عن الطرف الشيعي، وزعماء "الإتلاف". والسبب في ذلك هو، أن الإتلاف يمثل الأكثرية البرلمانية التي انتخبها الشعب وفوضها أمره. وبهذه الصفة، فأن من حقنا عليه أن نطالبه بأن يضم تحت جناحيه جميع المكونات العراقية، مثلما يحدث في جميع التجارب الديمقراطية في العالم.
فهل سيكف الجميع عن السير في هذا المنقلب الخطير، ويسارعون لإعادة القطار العراقي إلى سكته، قبل ينحدر مع ركابه، نهائيا، إلى الهاوية؟
بل دعونا نقول: هل يبادر زعماء الإتلاف، هم الذين انتخبهم الشعب وفوضهم أموره، بإدهاش العالم كله، فيحققون مبادرة دراماتيكية، ويسارعون، على سبيل المثال، إلى زيارة مقرات هيئة علماء المسلمين ومقرات الأحزاب والجهات السنية والوقف السني، وزعماء العشائر السنية المعارضة، ولكل من يختلف معهم زعماء الإتلاف في الطرف السني، ليتناقشوا في قضايا الاختلاف، قبل أن يحل طوفان الدم؟
يتبع