في وداع رمسيس
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
لا ادري لماذا يتصور بعض القائمين علي المهرجانات السينمائية العربية، وأغلبهم من الموظفين الرسميين المعينيين في الحكومة،، أن دعوتهم للنقاد والصحفيين، معناها أنهم يصرفون عليهم من أموال أجدادهم، ويمدون لهم موائد الغداء والعشاء من مصروف عيالهم في المدارس، في حين ان ميزانيات المهرجانات، هي من أموال الشعب المصري، ولقمة عيش الشعب المغربي، وجهد وعرق الخليجيين؟
غير أن هؤلاء يتصرفون في تلك الميزانيات للأسف وفقا لأهوائهم، ومزاجهم الشخصي، فيغدقون الكثير علي الصحافيين الصغار، الذين يفردون الصفحات في جرائدهم لتصريحاتهم وهرائهم بالهبل، كما يحسب هؤلاء أن الدعوة التي يتحصل عليها المرء، لحضور المهرجان والكتابة عنه، ملزمة بالتغزل ضروريا في محاسن الإقامة والسكن والأكل وطواجن الحفلات، ومن دون تقييم حقيقي لفعاليات المهرجان ككل، أفلامه وتنظيمه وأجوائه، وانتقاد أخطائه وعثراته، والتنبيه عليها، للمبادرة إلي إصلاحها وعلاجها..
ان كل المهرجانات السينمائية في العالم، ومن واقع خبرتنا الطويلة في حضورها والكتابة عنها، ومنذ أكثر من 25 سنة، معرضة أحيانا للزلل، ولا توجد مهرجانات من دون أخطاء، غير أن المهرجانات السينمائية الحقيقية، تتقبل النقد والانتقاد، وتفتح صدرها للعين النافذة المتفحصة الناقدة من الخارج، إلا عندنا في بلادنا، حيث تعتبرك مهرجاناتنا السينمائية خائنا ،إذا دعيت إلي إحدها ، ثم رحت - ياويلك بعد انتهاء المهرجان - تنتقده ، فإذا بك تجد نفسك علي رأس قائمة المبعدين عنه، كما ذكر حديثا الناقد أمير العمري في رسالته المنشورة في " سينما ايزيس ، ومن واقع تجربته مع تلك المهرجانات العربية، التي لا تتقبل أبدا كلمة الحق والنقد، وترفض الحوار والجدل، وتعتقد دوما، انه ليس في الإمكان أبدع مما كان، ولابد بعد حضور أي مهرجان عربي، ان تصبح مغردا له في السرب، ومن حملة المباخر والمداحين.
أعتقد أن معظم القائمين علي تلك المهرجانات، من جنس هؤلاء الموظفين المخضرمين، يخشون من لوم وتقريع رؤسائهم وتقريظهم، ولا يشتغلون إلا علي مزاج الوزير، وابن الحاكم ، وزوجة الأمير. ومن تلك المهرجانات مهرجان الإسماعيلية للسينما التسجيلية، الذي يدار كما كل شيء في مصر بواسطة الحكومة، وصار الشعب المصري بسبب ذلك، كما يؤمن البعض، صار متواكلا ومتخاذلا ومتكاسلا ، يعتمد عليها في أكله ومنامه وشربه، بعد أن أممت الحكومة كل مبادراته الإبداعية الديمقراطية الخلاقة، وصادرت حقوقه في إنشاء الجمعيات الأهلية، وشغلته بأمور البحث المسعور عن لقمة العيش، ومصاريف الدروس الخصوصية للعيال، وعلاج الأولاد المحرومين، وكتمت علي أنفاسه، وكانت آخر حماقاتها بعد حادثة القطار، التي راح ضحيتها العشرات بسبب الإهمال وتردي المرافق.. نقل تمثال رمسيس، جدنا الأكبر من مكانه، وإخلاء الميدان من أي اثر، يذكر المصريين بحضارة بلادهم وأجدادهم، ومنجزاتها الإنسانية العظيمة، لكي تتكسب وزارة الثقافة من عملية نقل التمثال علي ما يبدو، بضع آلاف من الدولارات ، وتتقاسم المبلغ الذي كان مخصصا لعملية النقل مع المقاولين، او بالا حري المخربين العرب..
وكانت المظاهرات التي خرجت بالآلاف لتوديع التمثال، وإلقاء المصريين نظرة أخيرة علي جدهم- مماثلة كثيرا لما حدث ويا للعجب، عند نقل المومياوات الملكية إلي مركب في النيل ، أثناء تصوير فيلم " المومياء " للراحل شادي عبد السلام ، الذي شهد كيف خرج الأهالي والنسوة اللواتي يرتدين الحداد ، لتوديع تلك المومياوات علي شكل إكسسوارات من خشب وورق، وكأنها أجساد أحبائهم أجدادهم بالفعل، التي غيبها الموت، وقد قرروا مدفوعين بقوة غامضة خفية، قرروا أن يصاحبونها في رحلتها الأخيرة، بعيدا عن الوادي والجبل، وان يودعونها وهي مجرد إكسسوارات، كما لو كانت.. مومياوات حقيقية..
ولذلك لم يكن ذلك "الخروج" المصري الكبير لتوديع تمثال رمسيس، إلا تعبيرا عن الضياع الذي يعيشه المصريون، والفراغ الذي يستشعرونه، في غياب أي مشروع قومي حقيقي للنهوض بمصر، من التخلف الذي تعيشه في مجالات التربية والتعليم والصحة والمواطنة والثقافة. ولم يكن خروج الحشود من المصريين يقينا لتوديع تمثال من الحجر، بل لتوديع قطعة من أرواحهم. قطعة كانت مزروعة في قلب الميدان، لتستقبل عزيزا قادما من آخر بلاد الصعيد وأعماق الريف المصري، أو لكي تودع عزيزا آخر في طريقه إلي طنطا، لزيارة شيخ العرب، السيد البدوي. فلم يكن تمثال رمسيس في الميدان تمثالا، بل قطعة من كيان مصر الروحاني، وشاءت الحكومة اقتلاعها من مكانها ، لتطمس وتشوه معالم المكان، وتاريخه وذاكرتنا، وتنكد كالعادة علي كل المصريين، متحججة بحركة المرور، وتلوث البيئة وتأثيراتها المدمرة ، ولكي تنضم عملية نقل التمثال هكذا إلي الانجازات العبقرية لوزير الثقافة المصري، وتابعه الأثري الملهم ، ويصفق لهما الأجانب في بلاد بره..
وعودة إلي مهرجاناتنا السينمائية ، نقول انه لا يتصور أي عاشق للسينما في مصر، ان يكون في بلد يصل عدد سكانه إلي أكثر من 70 مليون نسمة، إلا مهرجانا واحدا يتيما مخصصا للسينما التسجيلية، ويدار مثل كل شيء بواسطة الحكومة، ولا يدعي إليه فقط سوي المقربون من ذلك الموظف الحكومي المخضرم الذي يديره، والذي يشغل عدة مناصب سينمائية في مصر، ويجمع بين كل الوظائف السينمائية في البلاد، فهو مدير المركز القومي للسينما، ورئيس جهاز الرقابة علي المصنفات الفنية، ورئيس المهرجان القومي للسينما في مصر، ولا يعلم أحد شيئا عن تلك "الوظائف الاخري" التي يحتمل أن يكون مضطلعا أو مكلفا بها في الخفاء، وكلها عند بعض المصريين أرزاق من عند المولي..
والادهي من كل ذلك، ان ذلك الموظف يعتبر نفسه مؤرخا سينمائيا ، بسبب كتاب هزيل له بعنوان "تاريخ السينما المصرية في مائة سنة " من إصدار ذات المركز الذي يترأسه ، وقد جمع فيه بمعرفة أحد الموظفين في المركز، بعض المعلومات وتواريخ صنع الأفلام. ولا يوجد في كتابه هذا أي جهد توثيقي او تأريخي أو تحليلي حقيقي، بل آن الكتاب ما هو إلا "أكذوبة" كبري صنعها ذلك الموظف، لكي ينصب نفسه علي الجميع ، وبقوة الحكومة والنظام الحاكم مؤرخا،ومن لا يعجبه الأمر، يشرب من ماء النيل..في حين كان الأستاذ الناقد والمؤرخ السينمائي الكبير أحمد الحضري وضع كتابا قيما، ولاغني عنه، لفهم ودراسة والتعمق في تاريخ السينما في مصر، وانفق علي جمع معلوماته سنوات طويلة، وسافر إلي فرنسا وآخر بلاد المسلمين، لكي يتحقق من دقة المعلومات الواردة فيه، ثم راح يستقرأها علي ضوء الحاضر والتاريخ، ليفصح عن رأيه، ويقدم تفسيراته، ويعلق علي الأفلام في إطار الواقع العياني والظروف الاجتماعية والتاريخية والسياسية التي أفرزتها، ثم يطبع الكتاب بمعرفة جمعية كتاب ونقاد السينما، وهي جمعية أهلية مستقلة، وعلي الرغم من كل ذلك، لم يقل احمد الحضري عن نفسه انه مؤرخ ويشار إليه بالبنان، بل اعتبر نفسه وبكل تواضع مجرد"باحث سينمائي" فقط ، في حين يعرف ذلك الموظف المخضرم في كتالوج البينالي الثامن بنفسه، فيذكر ببجاحة ومن دون حياء، انه مؤرخ للسينما المصرية، وهو ليس اكثر من موظف كبيرفقط، سلمه الوزير مفاتيح السينما المصرية ، وجعله وصيا علي شئونها والتحكم في مآلها..
إن تلك الأحوال والأحداث والموارد الغريبة المتناقضة للمهرجانات السينمائية التي تقع علي ارض مصر ، وفي بلاد العرب، وعلي خارطة الثقافة العربية بشكل عام، باحتفالاتها ومهرجاناتها وأحداثها، تدعو حقا إلي العجب. بل إنها تجعلنا نتساءل بعد أن ودعنا جدنا رمسيس: ألسنا بالفعل تلك الأمة التي تضحك من جهلها وتخلفها الأمم، بسبب عقلية الموظفين البيروقراطيين الحكوميين المتخلفين الذين مازالوا يتحكمون فينا وفي جل شئون حياتنا، ويركعون تحت أقدام السيد الوزير، وابن الحاكم، وزوجة الأمير!