أحادية الثقافة.. ولا تاريخية الفكر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
قراءة في المنجز النقدي للثقافة العربية الراهنة
مثلما تنتج بعض الحضارات نظما أحادية تقوم على ترسيخ نهج ثابت، لا يتغير إلا تغيرا محوريا، يستند الى تحقيق منفعة رأسية في هذا النظام أو ذاك، تنتج نظما ثقافية أحادية، قد تشكل في كثير من الأحوال حافزا على تكوين مثل تلك الأنظمة وتكريس أثرها وترصين دعائمها، وبعيدا عن مقارنة النخب الثقافية بالنخب الحاكمة، من حيث الدوافع والوسائل والمواقع، يمكن تحديد ملامح الأحادية الثقافية بـ :
1ـ تقويض التعددية الفكرية .
2ـ الثبات في الوسـائل .
وبذلك لا تحقق التطورات المجاورة لتمركز حملة الثقافة الأحادية سوى إفراز أنظمة دفاعية واقية تعزز من ترسيخ الأحادية وتقطع الطريق على محاولات التفاعل المنتجة .
ويخضع هذا السلوك لعوامل عديدة: منها ما يرتبط بالشخصية الثقافية التي تدين لتربية ومحيط اجتماعي لا يحفزان على الاعتراف بالخطأ، ومن ثم السعي الى إصلاحه، لارتباط الرأي بالكرامة بل الوجود نفسه، ومنها ما يقترن بالعلاقة مع السلطة واتخاذ الثقافة المعبرة عنها وظيفة يعد تجاوزها تخليا عن الواجب، فضلا عن ارتباط الجهد الثقافي بمنفعة لا تفرط بعض النخب الثقافية بها، يضاف الى ذلك التعلق بمعتقدات لا تسمح بممارسة حرية في التفكير يمكن أن تخلخل التمسك بها، حتى لو فقد بعضها القدرة على الإقناع .
وقد يستر الاستقرار بمعناه الواسع الكثير من العيوب التي يبطنها الفعل الثقافي الأحادي النظرة والاتجاه، بل يمنح الثقة بوجوب تكريس هذا الفعل وتزويده بعوامل الاستمرار فضلا عن محاولة تصديره، مدمجا بالأنموذج الذي يؤطره سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، غير أن التعرض الى هزات عنيفة، لا هزات محدودة الأثر يمكن معالجتها ورأب ما تخلفه من صدع، يبرز هذه العيوب بما لا يدع مجالا للتخلي عن الموقف، ومن ثم الوقوع خارج الحدث، إن لم نقل خارج حركة التاريخ من دون امتلاك القدرة على استيعاب حراكه، وهو ما يقوم به مثقفون لهم ثقلهم في المشهد الثقافي وبذلك يتخلون عما حققوه من منجز مما يدفع الى الشك بمجمل ما أنجزوه، وتعرضه الى تهمة التشكيل الزائف .
وهذا ما يبحثه الدكتور نديم البيطار في كتابه ( المثقفون والثورة .. سقوط الانتيليجنسيا العربية ) من خلال تبني مشروع الوحدة العربية الذي لم يتحقق، وظل شبحا يطارد المنجز الثقافي عموما، شاهدا على إخفاق في الرؤية والممارسة، وُيرجع البيطار ذلك الى " غياب العقلانية العلمية، العقل العلمي، عن هذا الوعي الذي يكوّن هذه الانتيليجنسيا" ( ص8) فضلا عن أسباب أخر ، فصلها في فصول كتابه .
ولكن هذا الكتاب، ومن ثم الفكر الذي كرسته السيرة الثقافية لصاحبه عبر الكثير من المحاضرات والدراسات والكتب، يطرح أنموذجا في التفكير والتحديد والنقد انطلاقا من الأحادية الثقافية، ويبدو هذا الافتراض غريبا ومفارقة تدعوا الى الاهتمام، فكيف تقع ثقافة انتقادية أسيرة الأحادية، التي تعكس صورة من صور الجمود الثقافي وهو احد أكبر التهم الموجهة الى المثقف؟ هذا ما تكشف عنه قراءة للمنطلق الفكري للأداء الثقافي في الكتاب، ونبدأ بما يبدأ به وهو العنوان المكون من شقين: الأول هو العنوان الرئيس ( المثقفون والثورة ) والعنوان الفرعي (سقوط الانتيليجنسيا العربية)، إذ يشير العنوان الرئيس الى ناحية تعريفية ذات سمة تحديدية، تربط النخب الحاملة للثقافة ـ المثقفون أو الانتلجنسيا ـ بوصفهم" فئة اجتماعية تتألف من أناس يمارسون نشاطا فكريا"(القاموس السياسي: ب. ن. بونوماريوف، ترجمة:عبد الرزاق الصافي:60) بالثورة، سواء أكانت انقلابا جذريا "في حياة المجتمع، يؤدي الى قلب النظام الاجتماعي الذي فات أوانه، وتوطيد نظام جديد تقدمي" (م.ن:94)، أم كانت تغييرا جوهريا" في أوضاع المجتمع لا تتبع فيه طرق دستورية " (المعجم الفلسفي،1 :381 )، وهذا يعني أن هذا الكتاب لا يقترن بمعالجة فعل حضاري مستقر، ما دامت الثورة حال غير طبيعية نامية كالتطور" فهي سريعة، وهو بطيء، وهي تحول مفاجئ، وهو تبدل جذري" (م.ن :381)، وقد ورد في الكتاب أن استخدام كلمة "ثورة " بدأ في القرن الثامن عشر مقترنا بأحداث عصر العقلانية والتنوير في الثورات الغربية الثلاث، التي استدعت التوجه الى الديمقراطية : الإنكليزية والأمريكية والفرنسية وكانت هذه الثورات إيذانا بـ" بداية حركات ثورية مستمرة تلازم الديمقراطية وتقترن بها" ( المثقفون والثورة .. سقوط الانتيليجنسيا العربية:342 ) ، ويبرز التركيز على استعمال لفظة (مستمرة) اطمئنانا لما تفرضه قيم الثورة من قدرة على التحول لا تنافسها في لك وسائل التغيير الأخر، ويكشف هذا سر الاعتماد على (الثورة) منهجا للتنظير والتطبيق في المتن الفكري للدكتور العطار، من خلال مؤلفاته التي بدأت بمرادف أقل فاعلية في التغيير الجذري، وهو الانقلاب، في كتابه (الأيديولوجية الانقلابية: 1964 ) مرورا بـ( الفعالية الثورية في النكبة)، (من النكسة الى الثورة)، (حدود اليسار الثوري )، (ضرورة النظرية الثورية)، (المثقفون والثورة )، (التجربة الثورية بين المثال والواقعية)، وصولا الى الكتاب الذي نحن يصدد تناوله .
ويكشف هذا التواصل الأحادي مع موضوعة مركزية كـ(الثورة)، على الرغم من التحولات الكثيرة طيلة ما يقارب الأربعين سنة، عن الامتثال لقطبي الأحادية، بإزاحة عامل التعدية فضلا عن استمرار الثبات في الوسائل، يعزز من ذلك الثبات على موضوعة مركزية أخرى هي الوحدة العربية التي لم يغادر الكاتب كغيره فكرة الوحدة الاندماجية التقليدية في كتبه (نحو الارتباط بمصر الناصرية أو طريق الوحدة العربية :1971)، و(النظرية الاقتصادية والطريق الى الوحدة العربية) و( من التجزئة الى الوحدة)، ولم تفارق هذه الفكرة المركزي مع تقليدية ما تحركها من وسائل مقترحة آخر طروحات العطار إذ تسرب أثرها المباشر الى كتابه موضوع الفحص ، وفي ذك ما لا يحتاج الى جهد لإثبات الاحتكام الى الأحادية .
ونظرة في الاستناد الى المعطى المركزي على مساحة أوسع من حدود جهد مفكر فرد نجد انحسارا، إن لم يكن اختفاء نهائيا للاستناد الى معطى الثورة في إثبات التحولات في الغرب، يقابل الإلحاح عليها في المجتمعات الشرقية ولاسيما العربية والإسلامية، ومع أن الثورة كانت الأس الذي انطلقت منه التحولات السياسية والاجتماعية في الغرب إلا أن مرحلتها الطارئة غودرت لتفسح المجال للاستقرار الدستوري، الذي أرسيت فيه دعائم الكثير من التجارب الديمقراطية، التي قد تختلف في السبل الكفيلة بتكوين نوع النظام إلا أنها تتفق في محاولتها منح حقوق الإنسان قدرا مهما من العناية، وهذا لم يتوافر عليه في تجارب الشرق، ولاسيما في الأنظمة الشمولية ،إذ بقيت الثورة حالا مستديمة قد تكون متقدمة ـ نسبيا ـ عن بعض التجارب البدائية إلا أنها كرست الطروء ليصبح نظاما ثابتا، لذا نجد أن الثور التي تعني الوسيلة لانتقال الى وضع يغاير الرجعية أو الظلم السياسي والاجتماعي قد أصبحت نظاما شبه ملكي يحاول قادته الحفاظ على مكتسباته لصالحهم ويسعون الى توريثه للمقربين منهم، وقد برزت سلطات عليا كمجلس قيادة الثورة ، ومنصبا راسيا يتمتع بحقوق الحكم المطلقة كقائد الثورة في عودة غير معلنة لأنظمة الحكم الإلهي المطلقة التي ترتبط بالفرد ولكن هذا الحق في الثورة غالبا ما يكون مكتسبا لا موروثا، وعودة الى كتاب البيطار وغيره من الكتب ككتاب الطيب تيزيني (من التراث الى الثورة، حول نظرية مقترحة في التراث العربي) نجد أن المثقفين وبعض المفكرين قد انساقوا الى هذا المصطلح ومدلولاته التي قد تختلف ظاهرا لكنها تلتقي في نتائجها الشمولية اللازمة للتوافر على وجود يوازي من حيث القوة والتأثير بين القوى العالمية المهيمنة وتجاوز التأخر الحضاري، ويبدو أن هذا التجاوز رهين نظرة متجاوزة تتخلى عن الأطر التي لم تعد نافعة لا عل مستوى الأفكار بل عل على مستوى الاصطلاح والاستعمال اللغوي، ويبدو أن هذا الأمر كان حافزا لمفكر كالدكتور هشام شرابي الى اقتراح تحول في اللغة، رغبة في استيعاب مطيات الحداثة وما بعدها متجها الى النموذج الغربي الذي أثبت تفوقه فيرى أن هذا " لا يتم إلا بالتمكن من لغة (أو لغات) غريبة وإتقانها بشكل يمكن الباحث أو الناقد من الخروج كليا من اللغة الأبوية (وفكرها المهيمن ). وهذا هو الشرط الأساسي للعودة الى اللغة الأم وتجديدها بابتكار المصطلحات والمفاهيم التي استوعبت من خلال اللغات الأخرى" (النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين :86) ، ذلك انطلاقا من كشوف بهذا الخصوص، لعل في مقدمتها ما قرره العالم الانثروبولوجي كنيث غرغن من أن " معنى الأشياء التي نلاحظها لا يتم إلا من خلال الأدوات اللغوية التي نملك" (المصدر نفسه:50)، ومع ذلك تستهوي محاكاة الأفعال الجذرية التي مازال لها أثر في التراكم الثقافي والعرفي للشعوب أن يستعمل الرئيس الأمريكي بوش الابن مصطلح الثورة ليمارس تعديلا على استعمال المفهوم، من دون مفارقة لدلالة التغيير التي ينطوي عليها، فوصف التحولات الديمقراطية بوساطة أفعال شعبوية من دون عنف بالثورة التي عرفها سيميائيا بوساطة ما اتخذته من علامات ولاسيما لونية بوساطة ما رفعت من رايات، ففي جورجيا الثورة الوردية، وفي أوكرانيا الثورة البرتقالية، وفي العراق _ وتلك مفارقة! ـ أطلق تسمية الثورة بنفسجية في إشارة الى الحبر الذي استمل في الانتخابات العراقية، وبعد ذلك استعمل وصف (ثورة الأرز) في إشارة الى رفع العلم اللبناني في الاحتجاجات التي قام بها المعارضون للوجود السوري في لبنان بعد رفض التمديد للرئيس لحود وأسفرت عن استقالة الحكومة عن قرار الرئيس السوري سحب جيش بلاده من لبنان .
وقد دفع الارتكاز على الأدبيات اليسارية أو الثورية التي لم تعد فاعلة الى تبني آراء تنعكس على الاستعمال الاصطلاحي قبولا ورفضا فنجد تحسسا من مصطلح (نظام) ورغبة في تجاوزها، مما يشي بدلالة فوضوية غير محسوس بها في إيجاد وسائل للتجاوز والتحول، فيوصم الكيان ولاسيما السياسي غير المرغوب فيه أو المعادي بإضافة مسمى ذلك الكيان الى النظام، وهذا من الأسباب التي دفعت الكثير من المثقفين ورجال الدين الى التحسس المضاعف من فرض (النظام الجديد) الذي دعت إليه الولايات المتحدة وحاولت تطبيقه مع الأخذ بنظر الاعتبار الموقف المعروف منها نتيجة ما اتخذته من قرارات وأعمال لم تراع فيها مصلحة تتعارض مع ابسط مقومات مصالحها ومصالح حلفائها ولاسيما إسرائيل، ويبدو أن هذه الفوبيا من النظام لم تأت من وسيلة فرض السيطرة والسير على وفق نظرة أحادية، تكرس سلطة عالمية مهيمنة، فحسب بل يأتي كذلك من المعطى الحضاري الذي ينطوي عليه سلوك نظام معين لا يمنح حرية تمنح السلطة المحلية ودعاتها فرصة للممارسة المطلقة للإدارة من دون الاحتكام الى نظام أو دستور ثابت .
وهذا ما قوبلت به دعوات الإصلاح بالرفض، بحجة أنها مفروضة من الخارج في حين أنها لم تمارس من الداخل ولن تمارس ما دامت السلطات تفرض هيمنتها على مواطنيها بالوسائل نفسها التي ترفضها عندما تطبقها بعض القوى عليهم، والغريب أن مصطلح الإصلاح في التكوين العربي الإسلامي اسبق من الثورة، فقد ورد في التنظير لخروج الحسين (ع) على السلطة الغاشمة التي أعطبت النظام الذي كرسته قيم الإسلام، ولاسيما في نسخته النبوية بالقول: ( إني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وإنما خرجت لطلب لإصلاح في أمة جدي اريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر.. )، إذ لا يلغي الإصلاح ما هو متحقق سابقا بل يقر وجوده الذي تغيرت حاله الى الفساد (الانحراف) مما يقتضي الإصلاح، ومع ذلك فقد أسبغ على هذا الفعل الإصلاحي وصف الثورة وصيغها فيما حين أصبح مصطلح الثورة دالا على تقدمية في الطرح أرادها المنتمون الى فكر الحسين (ع) لإخراجه من ظرفيته الى التكريس اللا تاريخي للظواهر، وإذا ما كان الإصلاح ناتجا عن فعل التغيير لا معبرا عن الوسيلة فان من الممكن أن تكون الثورة منهجا لتحققه .
وعودة الى كتاب الدكتور العطار نجده لا يفارق النظرة الأحادية فيما يقدمه من حلول بعد تشخيص الأخطاء من خلال نظرة نقدية، وذلك بعودته الى معطى مسبق من دون الالتفات الى ما تفرضه الأحداث من تغيرات، فنجده يذكر بما توصل إليه في كتابه (من التجزئة الى الوحدة الصادر سنة 1979 ) بالقول: "راجعت تجارب التوحيد السياسي عبر التاريخ، فوجدت التجارب الناجحة التي تنتقل فيها كيانات سياسية مستقلة أو مجتمعات مجزأة من حالة تجزئة الى حالة وحدة، كانت تجارب يتوفر لها دائما كيان أو جزء يستقطب قوى التوحيد السياسي في الكيانات أو الأجزاء الأخرى، ويقودها نحو كيان سياسي أو دولة واحدة ." (المثقفون والثورة .. سقوط الانتيليجنسيا العربية، هامش :67 ) ورأى أن فشل التوحيد عائد الى عدم وجود الإقليم ـ القاعدة فضلا عن توافر مخاطر خارجية يفرضها عدو خارجي تدفع الأجزاء الى الاتحاد، يعزز ذك وجود قيادة مشخصنة لها قيمة رمزية تدعو الى التوحيد، مؤكدا أن "توفر هذه الشروط أو القوانين الثلاثة تشكل ـ وخصوصا الإقليم ـ القاعدة ـ ما أسميته " بالوضعية الوحدوية الموضوعية " (ينظر المصدر نفسه، هامش:67 ).
وعلى الرغم من امتلاك هذه الأسباب قدرة لا باس بها على الإقناع فإنها لا تستجيب الى عوامل التحول التاريخية وما تفرضه من حتميات لا تناسبها الوسائل القديمة المستقاة من التاريخ الماضي، ولاسيما في ظل ظروف تتسم بالتعقيد الذي يشهده العالم في السنوات الأخيرة، مما يدل على لا تاريخية الطرح الفكري للعطار الناتجة عن أحادية اتجاهه، وإيمانه بالمنطق المنفلت من حركة التاريخ مثلما هو الأمر فيما حدده من سمات للمفكر الذي وصفه بالكبير، لكونه " دائما مفكرا معاصرا، في انه يعلو على الزمان ويكشف عن امكانات تدعو الى تحقيقها من قبل الذين يتعرفون الى منجزاته .هذا ممكن لأنه ينشغل بقضايا أساسية متأصلة في طبيعة التاريخ، أو طبيعة لوضع الإنساني" (المصدر نفسه:47)، وعليه لا يقتصر أثر هؤلاء المفكرين على ما يغطونه ـ حضورا ـ من مرحلة بل يمتد أثره الى ما يعقب حضوره من وجود ، ليقرر أن " الحقيقة الفعلية الأساسية لتاريخ الفكر هي بالضبط وجود المفكرين الكبار الذين يوفرون الحافز الأساسي للأجيال المقبلة، والجوهر الذي تتغذى منه هذه الأجيال"(المصدر نفسه:47)، وبهذا لا يمثل الاهتمام بوجود المفكر الكبير أثرا فيما وصلت إليه الانتلجنسيا العربية من محدودية في الحراك الحضاري، لان الثبات في الذي ينضوي تحت حتميته (المفكر الكبير) لا يمنحه قدرة على استيعاب هذا الحراك مهما تذرع بالمعرفة الجوهرية لحركة الإنسان وطبيعة التحولات التاريخية، لان كل مفكر ـ كغيره من أعضاء النخب العامة ـ لابد أن يكون محاطا براهنية ظروف تشكل ثقافته وردود أفعاله، وما يصوغه من خطاب وما يتخذه من موقف، لأن ممارسته الإنسانية محكومة " بالمؤثرات والعوامل التي ينتجها التاريخ والواقع المادي" لذا " فإن مفهوم (الموقف) أو(المنظور) ينفي إمكانية رؤية الأمور من (فوق) أو من (الخارج)، خارج الزمان والمكان، ويؤكد الصفة التاريخية الاجتماعية لكل بحث أو خطاب " (النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين:36) ، ولكن رأيا كهذا يجب أن لا يشمل التغيرات الثورية المستندة الى محركات ثابتة في الأصل، لا تحرك إلا ما سواها ضمانا لمركزيتها، كما حصل في تراث مميز لهذه الظاهرة في الثورة الثقافية التي قادها ماوتسي تونغ، وكانت سببا في سقوط ملايين من الضحايا، وقد حدد ويل ويتمر المنطق الداخليthe tanner logic للثورة الثقافية في " أن الثورة الثقافية كانت تتسم ( بمنظومة من الرمزية الجدلية العنيفة) يبدو فيها ( العالم الظاهري مليئا بالنور، والطهر، والروح العامة والأعمال الفاضلة .. ويختفي وراءه عالم مظلم مليء بالأنانية ، والدنس، والتبعية الخانعة ..ولأن العدو كان مختبئا خلف الأقنعة ..كان رد الفعل هو تمزيق تلك الأقنعة بلا هوادة " (نظرية الثقافة، عالم المعرفة 223، مجموعة من الكتاب، ترجمة: د. علي سيد الصاوي)، وقد أدى موت ماوسي تونغ الى تلاشي القلق من الأعداء مما دفع مفكرا مثل (باي) الى تشخيص ذلك بالقول بان (الشخصية القلقة) لماوتسي تونغ "هي التي تفسر كثيرا تلك الرؤية المانوية خلال الثورة الثقافية"( ينظر المصدر نفسه: 335)، ويدل إيراد قضيتين هنا هما القلق الشخصي (المرضي)، بوصفه حال خاصة، والاستناد الى معطى أسطوري في علاقة الظلمة بالنور على وفق الاعتقاد في المانوية، على أحادية تتقنع بصور وأشكال متعددة على الرغم من وأحادية نواياها واتجاه فعلها .
وفي طرح آخر تظهر ورقة العبد الإله بلقزيز في الحلقة النقاشية (حول الإصلاح السياسي في الوطن العربي، 19ـ 22 نيسان 2004، مجلة المستقبل العربي،ع 304،6 /2004) قدرا من الاستيعاب لحتمية الإصلاح الذي يتطلب عملا جادا من النخب الحاكمة لتفعيله، وعلى الرغم من أن الدعوة الأمريكية للإصلاح على وفق مشروع الشرق الأوسط الكبير، هي الدافع الى عقد مثل هذه الحلقة النقاشية، فان المغالطة لدى النخب الثقافية لا تقل خطرا عن المكابرة التي تتسلح بها النخب الحاكمة، وهي تحاول الإعلان عن الانشغال بـ(الإصلاح) والعمل على تفعيل ممارسات شكلية لتجاوز قضية الإصلاح الحقيقية عمليا، وهذا الطرح غير بعيد عما ورد في ورقة بلقزيز نفسه، الذي حدد أشكالا من أساليب عدم استجابة النخب السياسية لـ" مطالب داخلها الاجتماعي بوجوب تحقيق إصلاحات في النظام السياسي، ولم تتورع ـ في أحيان عديدة ـ عن مواجهة تك المطالب بالشدة والقسوة، ومالت في حالات أخرى الى استيعاب بعض تلك المطالب والتحايل عليها وتزويرها، فيما ظلت ـ في حالات نادرة ـ قادرة على احتوائها من تحقيق بعضها شكليا وصولا الى إجهاضها" (المصدر نفسه:85)، وتكمن هذه المغالطة في خضوعها لمبدأ الأحادية التي لا يحد منها المقدمات الصائبة والكشوف الواقعية، فمع أن الدافع الى مناقشة هذا الأمر بجدية ما حصل في سقوط أحد نماذج الدكتاتورية المطلقة في العراق عسكريا، واحتلال العراق، ومع أن مثل هذه الطروحات تقدم أدلة مضافة على عدم فاعلية النخب الثقافية، وعدم قدرتها تحقيق أدنى التغيرات في الواقع العربي من دون إسناد ـ قد لا يكون متناغما مع وسائلها ـ وتمكينها من التحدث صراحة عن التغيير، ولاسيما السياسي، بفعل الضغط الخارجي للقوة الأكبر في العالم وحلفائها، إلا أنها ما زالت تردد مقولات وتبرز مواقف غير واقية استنادا الى نظرتها السلبية الى الغرب والولايات المتحدة الأمريكية على الرغم من إفادتها من بعض خطواتها فضلا عن الحاجة الى تقدمها التقني والمعرفي السابق، فنجد بلقزيز يتجاوز واقع ما يطرح من دعوات للإصلاح، مصدرها خارجي ليصطف من دون قصد مع النخب الحاكمة ويرفض ما يلوح من أثر للغرب في العالم العربي فيما يتعلق بالإصلاح، فيذِّكر بمشاريعها العربية، السابقة لما يطرحه الغرب حاليا، وهو لجوء معتاد لتكريس الاصالة عبر التراث، وحدد هذا السبق وما يرافقه من خصوصية مارست قطيعة فكريةـ سياسية بثلاث وقائع: الأولى واقعة فكرية كصدور كتاب الطهطاوي (تلخيص الإبريز في تلخيص باريز) في العقود الأولى للقرن التاسع عشر، وكتاب طه حسين (مستقبل الثقافة في مصر) في ثلاثينيات القرن العشرين، انطلاقا من أفكار التحديث في أبعادها الثقافية والسياسية التي" نشأت ابتداء، في رحم الليبرالية العربية: في كتابات أحمد فارس الشدياق ثم أديب اسحق وصولا الى أحمد لطفي السيد وطه حسين، إلا أن انتقالها الى الخطاب الإسلامي في القرن التاسع عشر، وصيرورة هذا الأخير خطابا إصلاحيا، وهو مما يبرز القول بأن فكرنا الحديث كان ـ بكافة تياراته ـ فكرا إصلاحيا، أو فكرا داعيا الى الإصلاح" (المصدر نفسه :93) وجهود المفكرين الذين قدموا طروحات متعددة في الإصلاح و" الدفاع عن حداثة سياسية واجتماعية يدخل بها العرب" ومنها " الدفاع عن نموذج الدولة الوطنية العصرية مع كل من رفاعة رافع الطهطاوي وخير الدين التونسي؛ ونقد الاستبداد السياسي والديني مع كل من احمد بن أبي الضياف وجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي؛ والدعوة الى الإصلاح الديني مع محمد عبده؛ ونقد الخلافة مع علي عبد الرزاق وعبد الحميد باديس؛ ثم الدعوة الى الإصلاح الاجتماعي وتحرير المرأة " (المصدر نفسه :93) وغيرها . والثانية واقعة سياسية يتناول فيها تراكم النضال لتحقيق الإصلاح الديمقراطي في الوطن العربي فيما بعرف بـ( الحقبة الليبرالية) بين الحربين العالميتين ويرى أن عدم استمرارها طويلا لم يمنع من تأسيسها مجال سياسي " يحتل في "الدستور ( كتعاقد سياسي)، والتعدية الحزبية، والنظام التمثيلي النيابي، وحرية الصحافة والنشر.. موقع الأركان منه" (المصدر نفسه :94)، يرافق ذلك تيارات غير إصلاحية ترى في الثورة الاجتماعية والانقلاب العسكري طريقا للتغيير ويحصرها في "التيارات الإسلامية والقومية والماركسية، إلا أن هذه التيارات لم تقاطع تماما الخيار الإصلاح التدريجي ولو كخيار تكتيكي اضطراري ومرحلي ..هكذا فعل (الأخوان المسلمون) في عهد مؤسس حركتهم ومرشدها حسن البنا؛ وهكذا فعل التيار القومي قبل دخوله في حقبة الانقلابات العسكرية وبعده، ثم فعل التيار باسم النضال من اجل مرحلة انتقالية (ديمقراطية ) نحو الاشتراكية" (المصدر نفسه :95)، ويستمر بلقزيز في متابعة الحراك السياسي للتيارات الفكرية ذات التوجهات السياسية العملية متجاوزا أسلوب إثبات السبق العربي الى أرخنة انتقالها من فكرة ـ لا تطبيق ـ النضال الديمقراطي والإصلاح السياسي ابتداء من منتصف السبعينيات بعد أن تلقى المشروع القومي " ضربة موجعة في حرب العام 1967 ثم ...في السبعينيات ( بعد حرب اكتوبر1973)؛ ولحقه التيار اليساري الذي أجهز عليه انهيار (المعسكر الاشتراكي)؛ ثم أعقبه التيار الإسلامي الذي تأذى من تجربة ممارسة الثورة ضد السلطة القائمة، فعاد الى الدعوة والإصلاح " (المصدر نفسه:95). ولا يتوقف الأمر عند هذه الصدمات إذ يورخن بلقزيز لتحولات إصلاحية في سبعينيات القرن العشرين تنبع من فكرة الديمقراطية وحقوق الإنسان، كالمراجعة الفكرية الجريئة التي قام بها مثقفون عرب، يحدد من جملتهم (عبد الله العروي وياسين الحافظ)، وأثرت في رؤية عدد من الفاعلين في التيارات السياسية، مما أنتج تغيرا في (السياسوية الافراطية) التي أسقطت من حساباتها الحوامل الاجتماعية والثقافية والتربوية، فأعيد الاعتبار للنقابات والمنظمات الشعبية والمهنية بعد أن كانت ملحقات حزبية، فضلا عن عدد من مؤسسات المجتمع المدني ( ينظر المصدر نفسه: 95ـ 96) .
الواقعة الثالثة اجتماعية شعبية، حددها بالكفاح الشعبي من أجل الحرية والديمقراطية من خلال الانتفاضات التي قمعت الأنظمة معظمها في القرن العشرين عدد منها ما كان احتجاجا على قرارات منفردة تتعلق بالتعليم كانتفاضة 23 آذار 1965 في المغرب، ومنها ما تعلق بارتفاع أسعار الخبز والمواد الأساسية كانتفاضة 18ـ 19 كانون الثاني 1977 في مصر، وانتفاضة الخبز في تونس 1978، والمغرب في 20 حزيران 1981، ومنها ما كان سياسيا صرفا كانتفاضة نيسان 1985 ضد نظام جعفر نميري في السودان، وانتفاضة أكتوبر 1988 في الجزائر، ومعان سنة 1989 وما كرسته إدراك فشل النخب الحاكمة في حل مكشلات الديمقراطية ( ينظر المصدر نفسه: 96ـ 97) .
إن نظرة فيما طرحه بلقزيز محاولا إيجاد تيارات وممارسات عربية سابقة للإصلاح، توازي من حيث القيمة والحراك ما تتجه إليه دعوات الإصلاح (المفروضة) راهنا، لكون "فكرة الإصلاح ليست جديدة على العقل العربي" (المصدر نفسه: 97)، تظهر إغفالا يبدو مقصودا للأثر الغربي العالمي في طروحات المفكرين العرب والتيارات الفكرية التي سعت الى الإصلاح، وتكفي لإثبات ذلك مراجعة بسيطة لهذا الأثر، بعد الإطلاع على التجارب العربية المتثاقفة مع الغرب بشكل مباشر، كما حصل في تجربتي الطهطاوي وطه حسين وغيرهما، أو غير مباشر وفَّره الإطلاع والمتابعة عن بعد، فضلا عن تأثر التيارات القومية بغيرها من التجارب العالمية مع أنها امتلكت خصوصية الهوية القومية ، إذ يشير محمد عابد الجابري ـ اعتمادا على آراء معظم المؤرخين ـ الى "أن الفكرة القومية العربية، إنما ظهرت أول مرة في لبنان، بعيد منتصف القرن الماضي، وذلك في أوساط مثقفين مسيحيين عرب، تأثروا بالثقافة الأوربية، ومن ثم الحركة القومية التي كانت تسود أوربا آنذاك .."(المشروع النهضوي العربي ، مراجعة نقدية: د. محمد عابد الجابري)، يضاف الى ذلك ما يظهر بشكل جلي في الارتباط الفكري والسياسي بين التيار اليساري والتجربة الماركسية ولاسيما في الاتحاد السوفييتي السابق، وقد أشار الى ذلك صراحة، ومع أن التيارات الإسلامية تخرج عن إطار التأثر بطروحات الغرب فإنها أفادت من بعض الوسائل التي يتطلبها العمل السياسي المعاصر والوسائل اللازمة للتقدم الحضاري، وهو ما نجده في طروحات سيد قطب على الرغم من خصوصية ما ينطلق منه لمعالجة الواقع العربي الإسلامي، كمناقشته لحركات الإصلاح الديني، وتاريخ الكنيسة في الغرب (ينظر: المستقبل لهذا الدين، سيد قطب:27 ـ54)، ومناقشة طروحات برتراند رسل ومحاولة إرجاع آرائه في اتجاه العالم العربي الى المعسكر الشيوعي الى عقلية تستجيب لبيئته وحضارته، في إيماضة تعد سابقة الى نقد الفكر الغربي على أساس حضاري ينطلق من مركزية الغرب تجاه غيرهم من الأمم (المصدر نفسه:55ـ 56)، لابد من التذكير إن قضية الاتجاهات الإسلامية من السعة والتعدد ما يحتاج الى اتساع في ذكرها.
أما تأثير المراجعة الفكرية الجريئة التي قام بها مثقفون عرب في رؤية عدد من الفاعلين في التيارات السياسية، فغيرت (السياسوية الافراطية) التي أهملت الحوامل الاجتماعية والثقافية والتربوية، فهو حل غير فاعلة في كل أرجاء الوطن العربي، ومن الضروري التذكير بأن الضغوط الخارجية والمشاكل الداخلية كانت العامل الأشد تأثيرا فيما حصل من تغير طفيف، وذلك لندرة الأثر الثقافي في النخب الحاكمة إلا ما كان منها موظفا في خدمة هذه النخب على سبيل الاستشارة لتجاوز الأزمات، وبذلك لم تكن إعادة الاعتبار للنقابات والمنظمات الشعبية والمهنية غير خيار شكلي غالبا ما يكون كماليا لا أسياسيا، وصولا الى الإعادة التدريجية لشغل مكان لا يبارح وظيفتها الملحقة بالأحزاب الحاكمة، وقد حصل ذلك بإحلال مرشحي هذه الأحزاب الحاكمة محل المرشحين من أخر إن وجدت، إذ أن بعض التجارب السياسية العربية وسيما في العراق ألغت حتى شكلية وجود أحزاب أخر الموجودة في بقية البلدان العربية ولم يعد غير المستقلين الذين لا يقدمون إنجازا مهما ما لم يحوزوا على رضا النخبة الحاكمة، مع ملاحظة عدم قدرتهم التصريح بمعارضة الحكم القائم أو سياساته، ويقف أمام نجاح مؤسسات المجتمع المدني، ويعرقل من فاعليتها، ما تحتاج إليه من دعم مادي يجعلها بمعزل عن تأثير السلطة الحاكمة، وفي إطار منع التعامل مع جهات أجنبية تناغما مع نظرية المؤامرة التي تقي السلطة من الفعل الخارجي فإن أثرها لا يكاد يذكر، إن لم يحظر، كما هو الحال في التجربة العراقية قبل سقوط النظام.
ويبدو أن ما يتصل بكفاح الشعوب العربية فيما ذكره من انتفاضاتها كان خاضعا ـ أيديولوجيا ـ الى توجه مسبق حددته الحلقة النقاشية التي قدمت فيها الورقة، فأزاح من أرخنته الانتفاضة الكبيرة ـ انتفاضة شعبان أو آذار ـ التي قام بها الشعب العراقي سنة 1991، وعبرت عن أمانيه في التخلص من الدكتاتورية وفرضت سلطتها على معظم أجزاء العراق لما يقارب الشهر بينما انتفاضتي السودان والجزائر حدثا مهما للغاية لاستمراره عدة أيام، ولا يتوقف الأمر عند حدود ما تفرضه طبيعة الندوة بل يتجاوز ذلك الى أن انتفاضة الشعب العراقي كانت نتيجة هزيمة النظام أمام الولايات المتحدة وحلفائها بعد غزوه الكويت، ويبدو الأمر في غاية الصعوبة ـ فكريا ـ عندما يطرأ على الذهن سبب آخر.
ومما يدل على مجاوزة الموضوعية في الطرح الصيغة الانفعالية التي واجه بها الباحث قضية الإصلاح المفروضة من الخارج إذ يقول :" ان شعوبنا تملك رصيدا من مكتسبات النضال من أجل الإصلاح والديمقراطية، وحركاتها السياسية والاجتماعية الحية تملك برنامج عمل وليست في حاجة الى أن يضع لها السيد كولن باول أو غيره مثل هذا البرنامج بل قل مثل تلك التوصيات والإملاءات " (المصدر نفسه: 97) ومع ذلك فإن هذه الشعوب لم تستطع لضراوة ما تتعرض له من عنت نخبها الحاكمة أن تفرض ما تتطلع اليه من إصلاح، لذا يعود بلقزيز ليحدد ضرورة الإصلاح في الدول العربية " بعد أن اهترأت أوضاعها وتعفنت وباتت هشة من الداخل وطازجة للقطاف من الخارج" (المصدر نفسه: 97) ويقدم مقترحات بهذا الصدد تتضمن " إطلاق الحريات العامة وكفالة حقوق الإنسان واحترامها والى الفصل بين السلط واستقلال القضاء والى إقرار نظام تمثيلي نزره وتحقيق المشاركة السياسيةـ ومنها مشاركة المرأة ـ وصولا الى التداول الديمقراطية للسلطة" (المصدر نفسه: 97ـ 98) وغير ذلك من المطالب التي لا تخرج عن ما يقرره مشروع الإصلاح المفروض من الخارج أو المتأثر بما يطرحه الفكر ممارسته الغربية ولاسيما في نسخته الأمريكية المعلنة .
ويكشف ما مر وقوع هذا المفكر/المثقف في دائرة الاتهام الموجه الى "المثقف المنحاز الذي قد لا يعاني ضعفا في اكتساب المعارف أو القدرة على تمثلها أو الدقة في المعلومات وطرق معالجة القضايا على تنوعها استنادا إلىِ خبرة مناسبة، ولكن الاتهام يكمن في الموقف الذي لا يأخذ الدعامة المعرفية بنظر الاعتبار على نحو واع بقدر ما يسخر معطيات هذه الدعامة لطرح موجه مسبقا لخدمة أيديولوجيا معينة ويفتقر هذا الموقف إلى جدية البحث عن الحقيقة لأنه يسخّر الدعامة المعرفية لأغراض لا تناسب الأصل الذي يجب أن يكون عليه المثقف ووظيفته الحضارية ( ينظر نظرية المثقف المتهم: فائز الشرع، صحيفة الأديب ،ع )
ويبدو أن الأحادية في الثقافة لا يسببها الجمود الناجم عن ضعف في القدرة على استجلاء الحقائق، أو الحصول على مصادر المعرفة اللازمة للخروج بنتائج مرجوة في اتخاذ موقف يتم التثقيف على وفقه، وإنما قد يسببها الظرف الذي يحتكم إليه المثقف أو الرغبة التي لا تستند الى القدرة وهي ناحية انفعالية أو عاطفية تتجاوز الحقائق الى ما يحاكي فعلا لا يقوم على القناعة، بقدر قيامه على مصالح معينة قد تكون ثقافية في الأصل لكنها تصب في فائدة فعل ثقافي ـ اجتماعي منغلق على خصوصية أكثر مما هو منفتح على تحقيق فعل شمولي يتسع خارج حدود النخبة ليمس حياة الجماهير، وإلا ما تفسير ما يتخذه مفكر مثل مطاع صفدي من موقف وما يكتبه من آراء لا تتناسب ما قدمه من اسهامة مهمة في تفعيل نسق الثقافة الغربية ضمن تكوين الثقافة العربية من خلال ما نشره في مشروعه من خلال مركز الإنماء القومي ومجلتي الفكر العربي، ثم ومجلة الفكر العربي والعالم فضلا عن مجلة الفكر العربي المعاصر التي كانت تنشر في الغالب نتاجات فكرية تتثاقف مع الثقافة الغربية، المنساقة في اتجاهات الحداثة وما بعد الحداثة، ولم يكلف نفسه في مشروعه التحذير من بعض هذه الطروحات، ومحاولة فحص أثرها سلبا أو إيجابا على الثقافة العربية، بحجة ضرورتها لإصلاح الثقافة العربية وتفعيلها بوساطة الثقافة الغربية، فكرس حالة من حالات الانبهار بالآخر بمواجهة تقزِّم في عرض الخصوصية الذاتية العربية ضمن مشروعه، وإذا كانت تلك الممارسة تتعلق بمسوغات التأثر الثقافي فحسب، وهو ما لا يمكن تقنين أثره خارج مجال الثقافة باتجاه الفعل السياسي العملي، لذا لا يمكن إيجاد اتساق بين تلك الممارسة التي قادها في مشروعه، وما قرره في تعقيب ضمن (الحلقة النقاشية حول الإصلاح السياسي في الوطن العربي، 19ـ 22 نيسان 2004) بقوله :" امتنا العربية اليوم عادت الى مرحلة الاستعمار الإمبريالي بكل معنى الكلمة، والأنكى في هذه المرحلة أننا نُستَعمر من داخلنا أيضا.أي أن هناك من يحاول منا أن يبرر هذا الاستعمار الجديد، وأن يعطيه صفة التقدم والتطور كما لو كان ثورة حقيقية وعلينا أن نتبناها "!!(مجلة المستقبل العربي،ع 304،6 /2004،المناقشات: 127)، ونجده في طروحاته التي تناقش الإصلاح المفروض بعد احتلال العراق، يبث روح اليأس وإن صرح بعدم رغبته في خلقها من خلال تعبيرا من قبيل " نحن .. نعيش نكسة لا مثيل لها" أو " نحن أمة محتلة؛ محتلة أراضينا، والآن يصار الى احتلال عقولنا" (المصدر نفسه: 127).
وعلى قصر منطوق الرأي الذي قدمه صفدي نجد بذورا للتضاد في تحديد الموقف، فمع أنه ابتدأ كلامه بإبراز زيف المسيرة السياسية العربية قاصرا إياها على التأثر بالشعارات: " شعوبنا غارقة تحت ضغط الوقائع ونحن ننتقل من شعار الى آخر عشنا فترة الخمسين سنة السابقة ورأينا كيف أننا كنا ننتقل من شعار الوحدة الى شعار الاشتراكية، الى الماركسية ثم الى الإسلام ثم نحن اليوم أمام الديمقراطية، وإذا نظرنا الى هذه المراحل ... لوجدنا أن زادنا هذا ليس سوى عبارة عن رغوة ولم نحصل على شيء..) (المصدر نفسه: 127) نجده، بعد أن يذكر الديمقراطية التي تنزل من السماء مع القنابل، يتأسى على ضياع المكتسبات السياسة فيعبر عن ذلك بقوله" فقدنا حتى مكتسباتنا الأولى التي حققناها على درب ما نسميه الاستقلال الوطني:أي حريات شعوبنا.هذه الحريات هي المُنتَهكة اليوم، وهي التي يعاد الآن سلبها منا" (المصدر نفسه) .
ولكن عن أية حريات للشعوب العربية يتحدث هذا المفكر؟ متجاوزا الدكتاتوريات التي ورثت الحكم بعد الاستقلال عن الهيمنة الغربية المباشرة ولاسيما بعد منتصف القرن العشرين، مع مراعاة الصراعات على السلطة التي أخذ كل حدث منها الكثير من الضحايا، والكبير من الحريات، بحجة مكتسبات الاستقلال والرغبة في التحصَن من الأخطار المخبوءة في نوايا دول الاستعمار، المتربصة بتحولات الاستقلال الثورية وغير الثورية، ويمكن أن نعضد التساؤل حول ما يذكره من حريات عن المكتسبات الوطنية التي لم تفرز، بحسب تحديده هو لا سواه، في مقال يكشف عنوانه عن توجهه، فضلا عن متنه النظري/الكشفي (من موروث التخلف الى حاضر الإحباط يعيش العرب أصعب هزائم الفكر في هذا العصر)، إذ يقرر فيه متحدثا عن التجربة العربية أن " المجتمع المتخلف في ماضيه، والمحبط في حاضره، يعجز عن تحديد رؤية واقعية سليمة لمستقبله، ولا يتبقى لمعظم مثقفيه إلا الموقف الأسهل وهو رفض كل ما هو قائم، لكنه الرفض السلبي العقيم الذي ينأى بأصحابه عن مسؤولية المشاركة في مسؤولية الواقع الفاسد، فإنهم يعفون أنفسهم في الوقت عينه من ارتكاب أية مغامرة جدية في إصلاحه (من موروث التخلف الى حاضر الإحباط :صحيفة القدس العربي، ع 4854، 3 كانون الثاني 2005:ص 19 )، ولكن ألا يذكنا ما حدده الأستاذ مطاع صفدي من ظاهرة، مزدوجة الأثر سياسيا وثقافيا، ونقده لموقف المثقف العربي بما كان عليه موقفه في الحلقة النقاشية آنفة الذكر؟!
فيما يتعلق بقضية الحريات (المُنتَهكة اليوم) بعد أن كانت من المكتسبات الوطنية، فقد سلط الأستاذ صفدي الضوء، في مقال آخر، على ما قامت به الدكتاتوريات من أعمال أدت الى ما آل إليه الوضع العربي، بوصف هذه الدكتاتوريات" القطرية هي الباعثة الأولى على استشراء سرطان الفساد تغطية للفساد الأشمل" (صحيفة القدس العربي، ع 4889، 14 آذار 2005:ص 19)، فأين يمكن إيجاد الأدلة الواضحة على هذه الحريات الحقيقية التي منحت لشعوب العربية في ظل تلك الدكتاتوريات.بل يمكن تجاوز الى ما تبناه بنوع من الحذر من طرح وصفه بـ" الفكر المنطقي آنذاك" وكان " يتوقع من تحقق التكامل بين الوحدة والاشتراكية أن تولد الحرية تلقائيا من هذه البنية الجديدة للمجتمع العربي الكبير، على أسس الواقع المتغير موضوعيا وبنيويا.أي أن تفرض الديمقراطية نفسها نتيجة هذا التحول الهيكلي الذي يفرزه التكامل بين إطار الوحدة ومضمونها الاشتراكي."(المصدر نفسه)، ولنا أن نتساءل مرة أخرى كيف تفرض الحرية في طار مركزي شمولي يهمش الخصوصية الاجتماعية بل والجغرافية، في حين أثبتت المركزية القطرية الضيقة فعلا مركزيا دكتاتوريا على الرغم من الاحتفاظ بأطر الخصوصية ؟ أما الحجة التي تؤيد ذلك الرأي فهي " أن التحرر الاجتماعي لا يمكنه أن يسبق التحرر السياسي "(المصدر نفسه)، فلم تتحقق في إطارها الأصغر فكيف يمكن أن تتحقق في إطار أوسع وأشمل وذو إدارة مركزية ما دام لم يحدد الأستاذ صفدي ملامح مغايرة لها.
وعودة الى الأحادية، التي تحكم تفكير بعض المفكرين/المثقفين، وتقوم على تقويض التعددية الفكرية، واستمرار الثبات في الوسائل، نجد أن الأستاذ مطاع صفدي ينضم الى من وصفهم بـ"الجيل العربي المهموم بأحوال أمته" الذي اعتاد على "ترحيل أسئلته المصيرية، من موضوع الى آخر، ومن عام منقض الى آخر مولود." (المصدر نفسه)، وهي أسئلة تظل معلقة فوق الواقع الحدثي الذي قلما استجاب لها أو تلاءم مع توجهاتها" (المصدر نفسه)، مستمرا في تأكيد صلاحية ما وصفه بـ " القومية العربية في مرحلتها الرومانسية الأولى" مؤكدا أن "الوحدة ليست رجعية أيديولوجية، لكن العصر الإنساني هو الذي يطالب بها كأسلوب وحيد لصناعة المدنية"(المصدر نفسه) داعيا الى أن يسترجع الجيل العربي المنهزم أيديولوجيا وسياسيا ذاكرته الوحدوية، في تجاوز لا تاريخي لضغوط الواقع وحتميات التغير في المنظور الفكري والاجتماعي والاقتصادي والسياسي عالميا وعربيا، بعد أن فشل في أكثر المراحل استيعابا لتحققه حين كانت القطبية الثنائية العالمية تسمح بالانفلات من هيمنة التسيير القطبي الموحد لحركة العالم سياسيا واقتصاديا، أما التدليل على نجاعة هذا الرأي بالوحدة الأوربية في قوله "إن أرقى دنية في هذا العصر، هي أوربا بالطبع ، تكشف في ذروة تقدمها أنه لا ضامن لديمومتها ونموها إلا في اختراع اتحادها رغم كل اختلافات العرق واللغة والتاريخ والمصالح المباشرة مابين دولها وكياناتها السياسية " (المصدر نفسه) مشيرا من دون تصريح مباشر الى الروابط ذات الطرح (المدرسي) بين الدول (الأقطار) العربية، وتقدم المقارنة بين الطرحين الوحدويين ما هو ضروري فكريا للإقناع، على الرغم من محاولة منحها بنية اقترانية تستند الى الوقائع التاريخية دليلا على صحة التوجه وذلك في تأكيد أن " أعلى مدنيات العصر تبحث عن هويتها الجديدة على أساس ابتداع عوامل اتحادها. أوربا لم تكن وحدة في الماضي وتحاول استعادتها من جديد بينما امتلك العرب الإسلام وحدتهم القومية والروحية في أعظم عصور حضارتهم" (المصدر نفسه) ويدل اتجاه التوحد الأوربي ـ لا الوحدة ـ على تحولات تتفاعل مع التغير في موازين القوى، بكل ما تعني القوة من تنوع في كل المجالات يبطن فعل السلطة، ولاسيما السلطة الجمعية في فرض أنموذج بإزاحة آخر، كما أن الكيفية التي يتم على أساسها التوحد الأوربي بدأت بما هو عملي ومؤثر وهو الاقتصاد المفضي الى تكوين كيان سياسي متضامن لا تذوب فيه مكونات لصالح هيمنة أخرى بمنى أن هذا التوحد على أساس المصالح لا يلغي الخصوصية بتوحيد الهوية كما يرى الأستاذ مطاع صفدي مقارنا ذلك بوحدة (العرب الإسلام) القومية والروحية، وبعيدا عن صعوبة تقريب مثل هذه الوحدة الروحية أنموذج التوحد الأوربي، فإن ما أقيم من وحدة عربية تجاوزت حدود المنطقة العربية الى التكوين الشمولي للدولة ( الإمبراطورية) الإسلامية، لم يكن ذا صبغة قومية إذ لا تقارب أو تمازج على نحو متزامن بين الطرح القومي الضيق والطرح الديني ( الإسلامي) بمعناه الحضاري، فقد كان تكوين الحضارة الإسلامية ناتج حركة وعي جمعي، ضحى فيه المنتمون الى قوميات متعددة ـ عربا وغيرهم ـ بخصوصية الأعراق من أجل وحدة العقيدة، لذا فمن غير الممكن احتساب هذا المنجز تجربة قومية عربية .
ولا يتخلص صفدي فيما طرحه عن أنموذج الوحدة من الوقوع في الأحادية ولا تاريخية الفكر على الرغم من تسويغه دعوة العرب الى استعادة الوحدة الضائعة بقوله " من حقهم أم يستعيدوها، لا أن يكرروها، بل أن يعيدوا بنائها عصرية راهنية تخاطب عالم الحداثة بلغته ذاتها"(المصدر نفسه)، ولن ننساق الى سطحية اعتماد الاستعادة لا التكرار لأنها فرض يستحيل تحققه لاختلاف العصر والوسائل، أما إذا كان القصد ينصرف الى الأساس الفكري الذي تقوم عليه هذه الوحدة فلم يدل متن هذه المقالة على إيجاد وسائل تخرج عن الطرح المألوف، للوحدة على أساس قومي في أدبيات طروحات القومية ، وهو ما ذكره صفدي نفسه مبرئا الطروحات القومية النهضوية التي أعاقتها القطروية والأنظمة الحاكمة في كل قطر فـ" القومي هو الذي يراد له أن يخرج من تجربة النهضة الثانية كأنه الخاسر الأول، بينما تقول وقائع هذه التجربة إذا ما أعيدت قراءتها بنزاهة وحيادية فكرية، أن الطلائع، من ثقافية وسياسيوية، وهي التي كانت مسؤولة عن التخلي تدريجيا، وبعد كل نكسة،عن مزيد من حرمان المشروع النهضوي من عصبه الحيوي .. بحيث أصبحت التنميات القطروية بمثابة الحواجز الداخلية (الموضوعية) وضدا على كل تفاعل تكاملي تحت طائلة الوعد بالنهضة العصرية الموؤودة في مهدها" (المصدر نفسه)، أما لغة الحداثة فلا بد من أن تكون الوسائل والأسس حداثية في كل مفاصلها لضمان اكتمال مشروع الحداثة.
إن قراءة المشروع الوحدوي الأوربي أو قراءة الواقع العربي على أساس أثبتت الوقائع فشله، بعد أن أفرغه من محتواه السياسيون ومن ساندهم، وأفاد منهم متخليا عن واجبه تجاه شعبه، من النخب الثقافية يظهر ثباتا في الوسائل حتى لو كانت ضمن صيغة النقد غير المقوض للوسائل المألوفة بقدر تقويضه لما يختلف معه في الطرح والوسائل، باستعمال شتى الطرق، حتى لو كانت بالإرهاب الفكري كاتهام من يرى رأيا آخر بأنه يحاول أن يبرر الاستعمار الجديد، ويعطيه صفة التقدم والتطور كثورة حقيقية علينا أن نتبناها( ينظر مجلة المستقبل العربي،ع 304،6 /2004،المناقشات: 127)، أو التنبؤ بعزلة النخب، ومنهم المثقفين (الطلائع)، عن حراك المجتمع في قوله: " هكذا يتسسب تراكم الإحباط في نقل التخلف الموروث من شكله البسيط الواضح، الى وضع النقد والتراكب والغلو في الخطأ المجهول في مسبباته وحصائله، فيكاد المجتمع المحبط أن يخرج كليا من سيطرة طلائعه وخبرائه وساسته" من موروث التخلف الى حاضر الإحباط :صحيفة القدس العربي، ع 4854).
إن هذه الصور المجتزأة من المشهد الثقافي/الفكري العربي ولاسيما في اتجاهه النقدي تظهر أحادية في الاتجاه والطرح في ظل تاريخ وواقع راهن ينبغي فيه الانفتاح على حقيقة الأسباب التي أدت الى تأخر النمو الحضاري العربي من جهة وسبل تجاوز المأزق، انطلاقا من تفاعل ايجابي مع التجارب العالمية لا تفعيل النظرة المتوارثة إليها بعدوانية من دون تفحّص واكتشاف