لنتصارح إذا أردنا أن نتصالح (3)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
في الحلقة الماضية قلنا إن القطار العراقي قد خرج عن السكة لكنه لم ينحدر بعد نحو هاوية الحرب الطائفية الرهيبة. وتمنينا،أيضا، لو أن زعماء الإتلاف، الذي يشكل الأكثرية البرلمانية، سينجزون خطوة دراماتيكية، ويبادرون، مفوضين من الأكثرية التي انتخبتهم ومنحتهم ثقتها، من جانب واحد، للاتصال بالمعارضين للعملية السياسية الجارية، زعماء وهيئات وأحزاب وتكتلات، للتباحث معهم حول نقاط الاختلاف، مهما كانت هذه النقاط شائكة ومعقدة.
وعندما نقول ذلك، فأننا ندرك تماما وعورة الطريق، وحجم المشاكل المختلف عليها، وأجواء انعدام الثقة التي برزت خلال السنوات الثلاث الماضيات، وحالات التوتر والاحتقان والتمترس الطائفي، المتبادلة. ونحن ندرك، أيضا، إن أي مشاكل كبرى ومعقدة كهذه، لا يتم حلها بأسلوب "الطبطة على الظهر وتبويس اللحى"، ولا يتم حلها على طريقة "كلنا أخوان يا جماعة". فالجميع يعرف أن الحروب الأهلية، في كل زمان ومكان، إنما تنشب بين الأخوة في البلد الواحد، ولهذا سميت، أهلية". ولكن مع كل ذلك، فأن الأمور ما تزال في بداياتها، رغم أن هذه الأمور بدأت تشبه كرة الثلج، كلما تدحرجت زاد وزنها. وكرة الثلج العراقية التي نتحدث عنها، لا تصنعها المياه، إنما دماء العراقيين.
وعلى أي حال، وما دامت بوادر الانفراج قد بدأت تلوح في الأفق، على شكل مبادرة المصالحة الحالية التي أطلقتها حكومة المالكي، فأن فرصة حقيقية قد توفرت لتعزيز هذه المبادرة، والسير بها نحو النهاية، خصوصا أن مسائل الاختلاف قد تبلورت الآن بنقاط محددة، منها: المقاومة، الفيدرالية، جدولة انسحاب القوات الأجنبية، المليشيات، اجتثاث البعث. وسنناقش، هنا، مسألة المقاومة.
عزلة نظام صدام جعلت القوات الأميركية تجتاح العراق دون مقاومة
قبل أيام من سقوطه، قسم صدام حسين البلاد إلى أربع مناطق عسكرية، وأسند إدارتها إلى لجنة مكونة من نجله الأصغر قصي، وبن عمه علي حسن المجيد، ورفيقيه، أو حوارييه، عزة الدوري وطه ياسين رمضان. وبأيادي هولاء الأشخاص الذين لم يتجاوز عددهم أصابع اليد، رهن صدام مصير العراق، شعبا ووطنا.
أوردنا هذه المعلومة التي يعرفها الجميع لكي ندلل على العزلة التي كان صدام يعيشها، وعدم ثقته بأحد من الناس، بما في ذلك كبار القادة العسكريين وقادة الحزب، الذي كان يفترض انه يحكم البلاد. وكان ذاك الإجراء، هو الأخير من سلسلة إجراءات قاتلة، وخاتمة لحكم فرد واحد حرص أن يكون دائما وأبدا هو العملاق، وما دونه من العراقيين مجموعة أقزام، أو مجموعة أصفار مهملة.
وهذا التفرد بالرأي هو سبب بين أسباب كثيرة، جعلت العراقيين، في غالبيتهم الساحقة، لم يذرفوا دمعة واحدة، حزنا وأسفا على سقوط صدام. وعزلة نظام صدام هي التي جعلت القوات الأميركية الغازية تدخل البلاد من أدناها إلى أقصاها، بما في ذلك المناطق التي تسمى الآن ب"الساخنة" أو "المقاومة"، دون أن تطلق بوجهها رصاصة واحدة.
وما تزال الصحف العربية الصادرة في تلك الأيام تحمل على صفحاتها الأولى نص الإعلان الذي أصدره الشيخ علي سليمان، نيابة عن شيوخ عشائر الأنبار (سبق أن أشرنا لهذه الوقائع في مقال سابق نشرناه في إيلاف، وها نحن نعيد تكرارها)، وقال فيه: "إننا من باب المسؤولية التاريخية وحقنا للدماء، قامت مجموعة من وجهاء المحافظة بالاجتماع مع القيادة الأميركية وتم الاتفاق على استسلام المحافظة وعدم أطلاق النار على هذه القوات".
وما تزال الصحف الصادرة في 16 أبريل/نيسان 2003، تحمل على صفحاتها الأولى خبر لحدثين وقعا في يوم واحد، أي في 15/4/2006. الخبر الأول عن اجتماع فصائل المعارضة العراقية، في مدينة أور جنوب العراق، بحضور الجنرال الأميركي جاي غارنر(أصبح فيما بعد حاكما مدنيا). والخبر الأخر عن لقاء بين الجنرال الأميركي كورتيس واللواء محمد الجرعاوي قائد قطاع الأنبار، الذي يضم ستة عشر ألف جندي، حيث ظهر اللواء الجرعاوي وهو يلقي التحية العسكرية على الكونيل الأميركي كورتيس، قبل التوقيع على وثيقة الاستسلام، ويقول له بالحرف الواحد: "أشكركم على تحرير العراق وفرض الاستقرار فيه، وأمل أن تكون لدينا علاقات صداقة مع الولايات المتحدة".
وما تزال تلك الصحف تحمل على صفحاتها الأولى نبأ استسلام قادة الفيلق الخامس المرابط قرب الموصل، في 10 أبريل/نيسان 2003 ، بعد أن أرسل سكان محافظة الموصل وفدا ضم قادة الفيلق ومحافظ المدينة ووجهاء المحافظة لملاقاة الزعيم الكوردي مسعود البرزاني، يطلبون وساطته لدى القوات الأميركية "لاستسلام سلمي للمدينة دون قتال"، وكيف أن كبار ضباط الاستخبارات في هذه المحافظة كانوا يحضرون، تباعا، إلى القاعدة العسكرية الأميركية هناك "للتفاوض على تسليم أنفسهم وطلب الحماية الأميركية من أي هجمات انتقامية"، كما نشرت في حينها وسائل الأعلام.
وما زالت تلك الصحف تحمل على صفحاتها الأولى نبأ يقول أن الداعية الإسلامي المعروف المقيم في الخليج الشيخ أحمد الكبيسي، قد أم صلاة الجمعة في 18 نيسان 2003 في مسجد أبي حنيفة بالأعظمية، بعد أن كان قد عاد للعراق بطريقة فاجأت الجميع.
أوردنا هذه الوقائع لنقول إن العراقيين لم يكونوا جبناء أو خائنين لبلدهم، عندما قرروا عدم مجابهة القوات الأميركية، ولكنهم وجدوا في نهاية حكم صدام، نهاية لكابوس جثم على صدورهم أكثر من ربع قرن وأحرق، بقراراته القرقوشية، حرثهم ونسلهم. وحتى أولاءك الذين كانوا يعتقدون أن غياب النظام السابق سيغير سلبا، ربما، طبيعة المعادلات القائمة، فأنهم سرعان ما أدركوا أن الأمور لن تسير، بالضرورة، نحو الأسوأ، وأن الأمور ما تزال في بدايتها، ويجب انتظار ما تسفر عنه، بتعقل وصبر وعقلانية وواقعية.
وحتى عندما توارى صدام، وبدأ يطلق نداءاته للمقاومة، لم يصغ عراقيون كثيرون لتك النداءات. وعلينا أن لا ننسى أن الذي وشوا بنجلي صدام، وبه شخصيا وبأشقائه وبكبار قادته، فيما بعد، هم أقرب الناس إليه، أو لنقل أنهم ينتمون لسكان المناطق "الساخنة"، كما تسمى الآن. لقد كانت نهاية حكم صدام نهاية سعيدة للغالبية الساحقة من العراقيين.
رياح التغيير لم تهب بتوازن على جميع السفن العراقية
لكن الأمور لم تسر، بعد ذلك، على هذا المنوال. فقد حل الجيش وسرح قادته بأسلوب مهين. وتم حل وإلغاء وزارات بأكملها، فتحول موظفوها إلى شحاذين. ثم، ظهرت لجنة اجتثاث البعث، التي حملت، عمليا، كل بعثي وزر ما أحدثه صدام من خراب بالوطن. رافقت ذلك، عمليات نهب لممتلكات الدولة، والاستيلاء على بعض الممتلكات الخاصة والعامة من قبل القوى السياسية المنتصرة، حتى بدت الأمور وكأن هذه القوى شرعت تتقاسم "أسلاب ومغانم" تعود لعدو أجنبي مهزوم، وليس لدولة عراقية، يفترض أن القوى المنتصرة جاءت لترميم ما تهدم منها، وإعادة بناء ما تخرب فيها، وإشاعة العدل والإنصاف، وتعزيز روح المسؤولية في صفوف المجتمع، سيرا نحو بناء دولة القانون والمؤسسات التي تحفظ حقوق جميع العراقيين.
وبموازاة ذلك، طبقت القوات الأميركية، سياسة فيها الكثير الكثير من العجرفة والرعونة والصبيانية، والتفرد الأعمى بالرأي، وانتهاكات لأبسط الحقوق، بما في ذلك فضائح تعذيب السجناء، والتصرف بتخبط وبطريقة أوحت بأنها مع هذا الطرف العراقي، ضد ذاك، ورفعت إلى سدة الزعامة عراقيين لم يسمع بهم احد، ثم عادت فأنزلتهم إلى الحضيض، وأبعدتهم وسجنت البعض منهم.
وعندما بدأت عجلة العملية السياسية بالدوران، أتضح أن الخطاب العراقي السابق، المعارض لنظام صدام، والذي كان يبشر بإرساء الديمقراطية، ومعاملة العراقيين بالحق والعدل، استنادا على معيار المواطنة وحده، وليس على أي معيار أخر، قد استبدل بخطاب مغاير.
هذا الخطاب "الجديد" أعتمد على مضامين طائفية وأثنية، ليس باتجاه رفع الظلم الطائفي والقومي عن طريق بناء النظام الديمقراطي وتعزيزه، مثلما كانت تقول تلك القوى المعارضة ومثلما كان يأمل العراقيون، وإنما بدأت الأمور وكأنها تسير باتجاه التشفي والثأر والانتقام والإقصاء، واغتنام اللحظة العابرة وفرضها كأمر واقع، على طريقة: منتصر ومنهزم. وبدت الأمور (نقول جيدا بدت، ولم نقل كان الأمر مبيتا) وكأن حلفا شيعيا/كرديا قد ظهر بمواجهة العراقيين السنة.
وهكذا، وبدلا عن عزل مؤيدي النظام السابق، وحصرهم في زاوية قاتلة، فأن الأمور سارت، شئنا أم أبينا، باتجاه زيادة أعداد الناقمين على العملية السياسية والوضع الجديد.
بعد ذلك، تطورت الأمور، فسارت نحو احتقان، ثم اصطفاف، ثم تخندق طائفي. وقد دخل تنظيم القاعدة على خط الأحداث منذ الأيام الأولى بعد سقوط النظام السابق، وبدأ بتوسيع تلك الخنادق، بعد أن دشن حملات إبادة منظمة ضد كل ما هو شيعي وأجج، كتحصيل حاصل، مشاعر كراهية طائفية لدى الشيعة.
إصرار زعماء السنة على إنكار وجود الزرقاوي أفقدهم الكثير من مصداقيتهم
وفي الواقع، فأن زعماء العراقيين السنة، سواء من شارك منهم في العملية السياسية في جبهة التوافق، أو من ظل يناصر، علنا، المقاومة المسلحة، مسؤولون، رغبوا أو لم يرغبوا، عن نشاط تنظيم القاعدة داخل العراق. فقد ظلوا ينكرون، وبإصرار ولجاجة، وجود الزرقاوي في العراق، ويرددون أن الزرقاوي ما هو إلا "اختراع" أميركي، يهدف إلى إشعال فتنة طائفية. وبالطبع، هم يعرفون، أكثر من غيرهم، بأن ما كان يقولونه غير صحيح، أبدا. فالزرقاوي كان ينشط ويتجول ويسكن وينظم صفوف مقاتليه في أماكنهم. وربما التقى الزرقاوي بعضهم ونسق معهم. وحتى عندما قتل الزرقاوي، فأن هولاء الزعماء لم يستقبلوا موته بنفس الفرح الذي أظهرته غالبية العراقيين. بل، أن ما من أحد منهم تكلف عناء الاعتذار، على الأقل عن غفلته أو خديعته السابقة، فأعلن، مثلا، أن معلوماته عن عدم وجود الزرقاوي كانت غير صحيحة، أو مضللة. والحق، أن مقتل الزرقاوي داخل العراق ساهم في ثلم مصداقية الزعماء العراقيين السنة الذين ظلوا ينكرون بإصرار، وجوده.
والأنكى من ذلك هو، أن تنظيم القاعدة وبعض الذين يدافعون عن المقاومة فسروا صمت المرجعية الشيعية إزاء ما ظل الشيعة يتعرضون له من عمليات إبادة جماعية وبأسلوب لا يمكن وصفه إلا بأنه سافل ومنحط ولم ترتكبه أي مقاومة في تاريخ البشرية، بأنه ينم عن ضعف واستكانة، وليس عن رغبة حقيقية في حقن دماء العراقيين.
حقائق رسختها تفجيرات سامراء
وهكذا ظلت تسير الأمور، وكأنها اختبار للقوة وتدريبا أوليا للحرب الطائفية، حتى حل يوم الثاني والعشرين من شباط 2006 ، عندما تم تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء، وما تلا ذلك من ردود أفعال، وأخرى مضادة لها، ما تزال قائمة، ويتلظى بنارها العراقيون.
الواقع، أن تفجيرات سامراء وما تبعها من تداعيات، كشفت لجميع الأطراف، داخليا وأميركيا وإقليميا، حقائق، ربما كانت غائبة عن بالها. من تلك الحقائق:
أولا/ إن المقاومة ليست مجموعة من الصداميين والتكفيريين والزرقاويين. هولاء جزء من المقاومة، وليس كلها. بل، أن المقاومة، لم تعد كفعل سياسي يهدف لطرد الأميركيين، بقدر ما هي غطاء تتواجد تحته شرائح سكانية ومناطق جغرافية بأكملها، تملك القوة العسكرية والتنظيم والدعم، ومن المستحيل القضاء عليها عسكريا. والدليل هو أن الحديث عن المصالحة يجري الآن عن مشاركة العشائر، والجماعات المسلحة، وضباط الجيش السابقين، ورجال الدين، والمثقفين.
ثانيا/ توصلت القوى المعارضة بأشكالها وأساليب مقاومتها إلى إن العملية السياسية والحكومة العراقية التي انبثقت منها، ومن يؤيدها من القوى السياسية، ومعها الولايات المتحدة الأميركية (بإدارتها الجمهورية الحالية وبمعارضتها الديمقراطية) لا يمكن هزيمتها من قبل المقاومة، وهي سائرة يوما بعد، باتجاه تعزيز قدراتها الأمنية والعسكرية، وإن الفشل أمر غير وارد وغير مسموح به، أبدا.
ثالثا/ أدرك الجميع إن الحرب الأهلية (وبغداد هي أنموذجها، لأنها مدينة مختلطة بامتياز) يحكمها توازن الرعب الطائفي، الذي يعني، أول ما يعني، أن الحرب الطائفية ستكون مذبحة حقيقية تحول، إذا اندلعت، العاصمة العراقية وجميع المناطق العراقية المختلطة، إلى كومة خرائب تسكنها الضواري التي ستعتاش على جثث ودماء القتلى.
"التذاكي اللغوي" يحل ما عجزت عن حله السياسة
هذه الحقائق جعلت الطرفين، المؤيد للعملية السياسية الجارية، والمقاوم لها، يعيدان النظر بشكل جاد، في مواقفهم السابقة، ويخطو كل طرف خطوة باتجاه الآخر. وعندما أعياهم الحل السياسي لتحقيق ذلك، فأنهم لجأوا، أو بالأحرى عادوا من جديد، إلى "اللغة"، فاستخرجوا منها مصطلحين لغويين، أحدهما هو "المقاومة الشريفة" والآخر هو"الذين لم تتلطخ أياديهم بدم العراقيين".
المصطلح الأول أطلقه أنصار المقاومة، ومفاده: إن المقاومة مقاومتان، أحدهما شريفة نمثلها نحن، والثانية غير شريفة نتبرأ منها. والمصطلح الثاني أطلقته الحكومة ومن يؤيد العملية السياسية الجارية ومفاده، إن المقاومين صنفان، أحداهما لم تتلطخ أياديهم بدم العراقيين، ونحن نتحاور معهم، وآخرون تلطخت أياديهم بدماء الأبرياء، ونحن لا نتحاور معهم.
وكما نرى فأن المصطلحين كليهما غامضان. إذ، أن الطرفين لم يحددا ولم يوضحا متى وكيف وعند أي حدود يكون هذا المقاوم أو ذاك شريفا، ومتى يكون غير شريف ؟ و متى، وعند ارتكاب أي فعل، تتلطخ يد المقاوم بالدم، أو لا تتلطخ ؟
واضح، أن المصطلحين هما "لعب بالألفاظ" لجأ إليه الطرفان ليصبح "مخرج" مقبول لأزمة مستعصية بدأ الطرفان يرغبان بحلها. ودعونا نطلق على هاذين المصطلحين اللغويين، تسمية " التذاكي اللغوي الايجابي"، تجنبا لاستخدام مصطلحي "الفوضى البناءة" و"الغموض البناء" اللذين ابتذلا لكثرة استعمالهما هذه الأيام على ألسنة الساسة والمعلقين.
ولم لا ؟ ليكن. فما دام الهدف هو حقن الدماء وتجنب الكارثة فأن كل "تخريج" يصبح مقبولا، شرط أن لا تطرح الأطراف، عند اجتماعها، شروطا تعجيزية، وشرط استبعاد كل مقاتل أجنبي، في تنظيم القاعدة وفي غيره، من الحوار. هولاء المقاتلون الأجانب أمامهم خياران: العودة من حيث جاءوا، أو التعامل معهم، في حال بقائهم، كخارجين عن القانون، تعالج أمرهم السلطات الرسمية. وهذا ما حدث في كل الحروب الأهلية. فالحرب الأهلية الأسبانية توصل إلى حلها الأسبانيون أنفسهم. وعندما حطت الحرب أوزارها عاد المتطوعون الأجانب في الفيلق الأممي من حيث جاءوا، رغم أن بعضهم مات خلال تلك الحرب. والحرب الأهلية اللبنانية حلها اللبنانيون أنفسهم، إما الفلسطينيون فقد التفتوا إلى قضاياهم. وقل الشيء نفسها حول ما حدث في أفغانستان وأرتيريا والجزائر وغيرها.
حكومة المالكي مرنة وحرة في قرارها، فماذا عن معارضيها؟
والحق، أن حكومة المالكي أبدت مرونة لا يستهان بها، فقد أعلنت مرارا وتكرارا أنها مستعدة للتحاور مع جميع العراقيين الرافضين للعملية السياسية. وأخر تصريح حكومي هو ذاك الذي أدلى به الناطق باسم الحكومة السيد علي الدباغ وقال فيه: " ليس هناك شروط أمام من يبغي المشاركة، بل هناك ثوابت وطنية والدعوة مفتوحة للجميع وليس هناك (فيتو) على أحد والحوار هو الطريق الصحيح وليس العنف." صحيفة المدى البغدادية في 28/8/2006 .
هذا موقف ينطوي على شجاعة كبيرة، وواقعية، وشعور بالمسؤولية.
فرضه الأمر الواقع والتوازنات القائمة على الأرض ؟ نعم، قد يكون كذلك. وما العيب ؟ أليس هذا هو النضج السياسي بعينه ؟
وعلى أي حال، فان الكرة، كما يقال، أصبحت الآن في ملعب المعارضين للعملية السياسية، أو المقاومين أو المعترضين، أو لنسمهم ما شئنا. على هولاء جميعا أن يردوا على مبادرة حكومة المالكي. لقد كان النقد الذي يتوكأ عليه المعارضون لحكومة المالكي وللقوى السياسية المشاركة أو الداعمة للعملية السياسية الجارية هو، أن هولاء جميعا لا يملكون حرية اتخاذ القرارات، وأن إرادتهم مرهونة لقوى أجنبية.
حسنا، ها هي حكومة المالكي ومن يؤيدها تقدم الأدلة الملموسة على شجاعتها، وحرية قراراتها. فهل يرد المعارضون بخطوة مماثلة، هذا إذا كانوا أحرارا ويملكون، قولا وفعلا، حرية قرار واستقلالية موقف. ولكن الأمور لا تبدو كذلك. فقد أعلن الأستاذ طارق الهاشمي، نائب رئيس الجمهورية وزعيم الحزب الإسلامي بأن "هناك قوى سياسية وجماعات مسلحة أبدت رغبتها بالانضمام إلى العملية السياسية إلا أنها تتردد جراء الضغوط الكبيرة الموجهة إليها". صحيفة المدى البغدادية في 29/8/2006 .
الحلقة القادمة: مسألة الفيدرالية