كتَّاب إيلاف

محفوظ مؤرخ مصر وضميرها

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

1

إستوفت القاهرة حقها من الشهرة بين المدن، حدّ أنها إستولت على إسم أرض الكنانة برمته؛ "مصر". وهذه بدورها، ملكت أعين وأفئدة أبنائها، فما عادوا ليروا بلداً آخر غيرها على وجه المعمورة؛ فنعتوها تحبباً "أمّ الدنيا". وإذ ننحي جانباً تلك الأسماء والنعوت، الحسنى، فلا بدّ من الإفضاء بحقيقة لا يمتري فيها أحد: وهي أنّ مصرَ الخير والسِعَة

ملف رحيل نجيب محفوظ: مقالات، متابعات وذكريات

والمسرّة، ما كان لها إلا أن تحتبي أهلَ الأرض كأمّ رؤوم؛ سواءً بسواء، أاتوا إليها كمهاجرين أو فاتحين أو سائحين. هؤلاء الأخيرون، ما فتئوا في يومنا الحاضر على تدفقهم إليها، بوصفها مهداً للحضارة؛ الأهرامات وحارسها أبي الهول، الغامض؛ الكرنك ومعابده العملاقة؛ المسلة ورموزها الهيروغليفية المبهمة؛ المتحف ونفائسه العجيبة؛ المومياءات ولغزها العصيّ.. وغيرها. بيْدَ أنّ مصرَ، كصبيّة سمراء، فقيرة، تتملكُ أيضاً المرءَ بحسنها وبساطتها وسذاجتها وطيبتها؛ هذه الصفاتُ التي فشتْ كذلك في أبنائها، فتميّزوا بها على أهلَ المغرب والمشرق. فضلاً عن أوابد التاريخ ومواضع الطبيعة، الساحرة، نشيرُ ألى مكامن العبقرية الفنية والأدبية، المكنونة في أرض الكنانة هذه ، والمتفجرة بأسماء مبدعيها قديماً وحديثا: كافافيس، سيّد درويش، قاسم أمين، أحمد شوقي، مي زيادة، لويس عوض ، أم كلثوم، أسمهان، فريد الأطرش، عبد الوهاب، عبد الحليم، سعاد حسني، فاتن حمامة، عمر الشريف.. ونجيب محفوظ.

2

إسمُ نجيب محفوظ ، كان أليفا لسمعي، حتى قبل قراءتي لكتب صاحبه؛ الإسمُ الذي كان يمرّ أمام عينيّ، منذ سنّ الطفولة، مقروناً بهذا الفيلم السينمائيّ أو تلك التمثيلية التلفزيونية. أتذكرُ جيداً تعرفي على أدبه، من خلال رواية "الطريق"، التي أعارني إياها أحد لداتي، في سنتي الإعدادية الثانية. منذئذٍ، أضحى محفوظ طقساً فرضاً، بالنسبة لي ، حدّ أنني صرتُ زبوناً دائماً لأحد باعة الكتب، المفترش دكة خشبية في جادة ضيّقة، متفرعة من شارع " الفردوس "، الدمشقي. إلا أنّ هذا البائع البشوش الملمح واللطيف العبارة، سيصيبني بالإحباط ذات مرة، فيما كانت يدي تمتدّ لجيبي كيما أناوله ثمن الجزء الأول من ثلاثية محفوظ، الروائية، "بين القصريْن". إذ أصرّ البائعُ، وليس بدون مجاملة، أن أشتري الأجزاء الثلاثة معاً، متحججاً بندرة نسخها لديه. وإذ فوّت عليّ الرجلُ فرحة َ ذلك اليوم، بالعودة إلى المنزل دون تأبط رواية كاتبي المفضل؛ إلا أنني مضيتُ في صباح اليوم التالي، مباشرة، إلى ملاقاة طقسي، الموسوم، وفي محجّ آخر؛ هوَ مقام " الظاهرية "، الذي كان بمثابة دار لحفظ الكتب وإعارتها. وفي هذا المقام، يجدر التنويه بأنّ طبعات كتب نجيب محفوظ، التي إعتدتُ على شرائها من ذلك البائع، الدمشقي، والصادرة عن إحدى دور النشر، البيروتية، كانت ذات حلة حسنة، ومزينة دوماً بلوحة غلاف ورسوم داخلية من إبداع الفنان المصري جمال كشك. لم أكن على علم، وقتئذٍ، أنّ تلك الطبعات نفسها كانت " مقرصنة "، أطاحت بحقوق الكاتب، قبل كل شيء.

3

عاش محفوظ ، معظم سني حياته، عيشة جد متواضعة. فبالرغم من رواج كتبه، على مساحة العالم العربي بأسره، إلا أنها جلبتْ الغنى لهذا الناشر، الشرعيّ ، أو لذاك التاجر، القرصانيّ؛ وبقيَ هوَ، صاحبها، فقيراً. بقيت صفته كذلك، حتى جاءته جائزة "نوبل"، الأدبية، على طبق من فضة ٍ؛ على لون شعر شيخوخته. جاءته الجائزة، حينما فقدَ العمرُ شهية الحياة وإلتذاذ أطايبها. لا ريب أنه لم تشهدَ القائمة الطويلة، من أسماء محظوظي " نوبل "، حالة ًعلى غرار " محفوظنا "؛ لجهة حياته المكدودة، الصبورة. فهذا الكاتب النادر، المتربع لأكثر من خمسة عقود على عرش الرواية العربية، ما كان طيلة حياته إلا موظفاً بسيطاً في إدارةٍ للأوقاف. وبقي في مدارج تلك الوظيفة ، السقيمة، حتى عفى عليها سنّ التقاعد. لم تتهيأ له، هوَ العميد، العتيد، للرواية العربية، سوى سنتين للتفرغ الأدبيّ، بفضل وزير الثقافة، المثقف حقا؛ ثروت عكاشة. ومثل تلك المكرمة، تهيأت أيضاً لأديبنا، حينما إنتدب لسنة ونيّف في رئاسة المؤسسة العامة للسينما. وإذاً، جاءته أخيراً تلك الجائزة، الدولية، المرموقة، فتذكر الجميع حقوقه، كمؤلف؛ وتذكرته الدولة، كمبدع.

4

الباب المشرع على جائزة "نوبل"، جلبَ لمبدعنا، الكبير، أيضاً ، ريحَ صغار الكتبَة، من ذوي صغائر النفوس، المبتلية بالحسد والحقد والضغينة.. والشوفينية. تلك الصفة الأخيرة، تحيلنا إلى أحد كتابنا؛ من المروجين لأسطورة " العرق السوريّ النقيّ "، والذي أطلق جملته الشهيرة: "لا يوجد إبداع في مصر، لا يوجد فيها سوى سعاد حسني !"؛ جملة أطنبَ بها كثيرون، وشاؤوا توجيهها خصوصاً نحو القامة الشاهقة لعميد الرواية العربية. كانت مصر آنئذٍ، كما هيَ الآن، في مرمى أصحاب المزايدات القوموية؛ خصوصاً إثر طيها صفحة الصراع مع إسرائيل بنجاحها في إستعادة أرضها المحتلة عن طريق المفاوضات. وكان من واردات الحملة على أديبنا العملاق، مزاعم بعض أقزام الثقافة، هنا وهناك من أرض العروبة، بأنّ الأكاديمية السويدية إنما منحته الجائزة "مكافأة " لدولته على إقامة السلام مع العدو الصهيوني. لا بل إنّ آخرين مضوا أبعد، في ذلك "الشوط" العروبيّ، بتخرصهم عن مواقف، مزعومة، لنجيب محفوظ فيما يخصّ القضية الفلسطينية؛ حدّ القول، بأنّ رواياته تخلو من أيّ إشارة لتلك القضية. أتذكرُ شخصياً، كيف كانت إحدى المجلات السياسية، البيروتية العنوان والثوروية التمويل، تسوّق تلك البضاعة الرخِصة، الموصوفة آنفاً. وهيَ نفس المجلة، التي صدرت قبيل أشهر من "غزوة نوبل"، المصاقبة لسبتمبر 1988، بهذا العنوان: "نجيب محفوظ، إمبراطور الرواية العربية جائعاً !"؛ عنوان مهينٌ بحق، لم تهدف المجلة من خلاله إلى إنصاف الكاتب، وإنما لتلويث سمعة الدولة المصرية. لقد تناسى هؤلاء وأولئك، بأن محفوظاً لم يسعَ قط لتلك الجائزة، وما كانت تخطر يوماً في باله. هوَ المشغول دوماً بالكلمة، حتى أضحى كرقّ لها؛ هوَ المقتصد في إجازاته على أسابيع قليلة قرب البحر، حارماً نفسه وعائلته من متع السفر للخارج ومن أوقات الفراغ والأصدقاء. وعلى كل حال، فإنّ تلك الأقوال المتجنية، ذهبتْ جميعاً جفاءً. فما يبقى، أبداً، هوَ إسمُ المبدع، نجيب محفوظ؛ ضميرُ مصر. وما يبقى لنا، هيَ أعمال محفوظ، الروائية والقصصية؛ هذه التي أرّخ فيها لموطنه مجتمعاً وأعرافاً وعاداتٍ وأهواء.

Dilor7@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف