خواطر وتداعيات في رحيل نجيب محفوظ
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
لم يبق لي ما أضيف لمن كتبوا وصرحوا عن هذا الروائي المبدع و المفكر اللبرالي، الذي نثر أفكاره الإنسانية النيرة في رواياته وقصصه، ويندر أن يلقى أديب مثل هذا التقدير الذي وصل لرؤساء دول كبرى والمؤسسات السياسية والثقافية.
ما أود التأكيد عليه هنا بوجه خاص هو البون الشاسع جدا بين الفكر العربي اليوم وبين ما كان عليه في العشرينيات والأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي. فاليوم، وماعدا نخب من المثقفين والمفكرين هنا وهناك في العالم العربي، هم كالزهور النادرة في قلب صحراء شاسعة جافة، يهيمن الفكر السلفي الغبي المتخلف والمتطرف كما هيمنت بالأمس أفكار التيارات القومية وشعاراتها المزايدة، ومشاريعها التي باءت بالفشل.
هذه الهوة تثير لدي تداعيات كثيرة مع رحيل محفوظ، وتعيد لي التأكيد على ما نشرته في آب 2002 في مقالي المعنون "في مأزق الفكر العربي."
في ذلك المقال يرد :
"يمكن الاتفاق مع الرأي القائل إن الفكر العربي، ومنذ العقود الأخيرة، في محنة كبرى وفي مأزق حقيقي. فالفكر العربي، وبكل فروعه من سياسي وديني واجتماعي وثقافي، ليس
ملف رحيل نجيب محفوظ: مقالات، متابعات وذكريات
إن الفكر المتخلف السائد اليوم، والذي يبشر بالخراب وسفك الدم وكراهية الحياة واضطهاد المرأة وحرية الفكر، هو المسؤول عن محاولة اغتيال نجيب محفوظ واغتيال فرج فودة والحكم بتفريق حامد أبو النصر عن زوجته، وعن الفتاوى المتكاثرة كالميكروب ضد روايات وكتب وحتى "ألف ليلة وليلة"، وضد أبسط حق من حقوق الإنسان ولاسيما المرأة.
نجيب محفوظ ظل مخلصا لمثله وأفكاره التنويرية رغم الموجات الفكرية والسياسية الهمجية. كان داعية لكرامة الإنسان وحقوقه وحرياته ونصيرا متحمسا للمرأة. لقد تعلمت منه الكثير منذ بدايات الشباب، حين كنت أكرس معظم وقتي للأدب والقراءة. وفي الثانوية قرأت له روايات منها "كفاح طيبة". أما "خان الخليلي"، فقد قرأته وأنا في القاهرة منتصف الأربعينيات لطبع مذكرات شخصية، لقد بهرتني الرواية بشخصياتها المتنوعة والتفاصيل الدقيقة عن حياة الناس العاديين والمجتمع. وكان للرواية صدى آخر لدي هو شخصي لأن أحد أبطال الرواية شاب مسلول وكان شقيقي الكبير عهد ذاك مسلولا فاقترن الاثنان في ذهني. وأذكر أنني كتبت للمؤلف رسالة إعجاب وأضفت الإشارة لحالة شقيقي. وفي أواخر 1947، وأنا مدرس في ثانوية مدينة الكوت/العراق، فتحت ذات مرة مع زميل مصري معنا في غرفة المدرسين شخصيات "زقاق المدق"، وتساءلت من أين يجيء محفوظ بتلك الشخصيات المتنوعة من سارقين ونباشي قبور ومن ناس بسيطين ومن مثقفين انتهازيين كبطل "القاهرة الجديدة". قال زميلنا: "إنه يذكرني بالروائي الإنجليزي تشارل ديكنز"، مؤلف رواية (دافيد كوبرفيلد) وغيرها من الروائع العالمية التي ترجمت للعديد من اللغات وحولت إلى أفلام لا يزال بعضها يعرض على حلقات على شاشات غربية منها إحدى القنوات الفرنسية. ونعرف أن كثرة من روايات نجيب محفوظ وقصصه قد أخرجت هي الأخرى في أفلام مصرية ناجحة شاهدتها وأنا في الغربة بفرنسا.
كان الراحل جريئا في الحفاظ على أفكاره والوفاء لها في مختلف العهود التي مرت على نشاطه الأدبي. إنه لم ينجرف ككثرة من المثقفين العرب لمنزلق مغازلة الغرائز والأفكار المتخلفة للشارع العربي. وكما ورد في مقالنا مار الذكر فإن: "النخب الفكرية في المنطقة العربية تضل الطريق إذا اعتبرت أن واجبها هو تشجيع الغوغائية ومجاراة غرائز الناس الطيبين والمضللين والمحبطين."
إن الراحل الكبير يستحق كل التكريم الذي حظي به في منعاه من الرئيس بوش إلى شيراك فرؤساء عرب وأولهم مبارك، ناهيكم عن أدباء وفنانين وكتاب مصريين وعرب، ومن المؤكد أن الكثير سوف يكتب عنه في الصحافة الأدبية والسياسية الغربية. فمجدا له ولذكراه.