كتَّاب إيلاف

الوهية الكلام *

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

يقدر اللسان، هذا العضل الجامح، على أمور كثيرة لا تقدر عليها العين. فله أن يجعل البعيد قريبا والقريب بعيدا. أن يحوّل أكوام الخرائب، مثلاً، الى حقل فسيح من الزهور. أن يجعل الفيلة تطير والاشجار تهرول على قدمين. له أيضا أن يطعمك إذا جعتَ ويحمل اليك النهر، تشرب منه حتى تــنعش عروقك المتيبسة، ولك أن تستحم فيه، أو تعبره دون جسر اذا شئت وتروي به حقلك وحرثك وحيواناتك وتسقي به أهل ضَيعتك والضِيَع التي حولها. له أيضا- وهذا سرّ من أسراره الإ لهية- أنْ يجعل الموت الذي يخطف أحبتك حياة رغيدة، ويحوّل الهزيمة المهينة انتصارا تاريخيا مجيدا. فلهذا المارد العجيب أن يصنع الخوارق والمعجزات، أن يحوّل اللاشيء بفعل سحره الباهر شيئا والعدم وجودا. وهي أمور وأعاجيب أين منها العين رغم سحرها وسلطانها وفتنتها القاتلة.

ذلك أنّ من طبيعته ( اللسان) وهو " ترجمان كثير الكذب" في توصيف للغزالي، أنْ " يخلق" وأن يشترع الامور ابتداءً ليس من شيء قبلها، وكل ما يظهر إلى العيان فهو من صنيع كلماته، إذ يقول للشيء " كن فيكون". يقول هذا العضل اللجوج: لتكن حياة.. فتكون حياة، ويقول للشمس ان تشرق.. فتشرق الشمس، ثم يسألها المغيب فتغيب بأمر صولجانه وشرعته التي لا غالب لها. أما رفيقته العين، هذه الحمامة الودود، فليس لها أنْ تقدر على شيء من ذلك ولا ما هو دون ذلك. تقف العين حسيرة خاشعة حين ترى ما يوجع القلب ويربك العقل، فتخرّ مهتوكة بهول ما ترى، وتنهمر دموعا كسيرة الخاطر والجناح. أما رفيقها المشاكس المرائي، فرغم أن موضعه أدنى من موضع العينين، ومنزلته في ترتيب منازل المَلـَكات أقل، ورغم أنه مصفد بأغلال وحراس أشداء كالاسنان والشفتين إلا أنّ له سلطانا ليس على حراسه فقط بل على العقل والقلب وكيان الانسان عامة، وله أولياء وعبـّاد ونسّاك وجيش من الغاوين يتــّبعونه ويخفقون لأمره ويتخذون منه المعبود الذي تعلو تصاويره وأصنامه ونقوشه ولافتاته في كل زاوية وفي كل محراب.

يَصْـدق هذا التوصيف علينا ، نحن " أمة الضاد" على نحو صريح بامتياز، ربما لا نجد له مثيلا ً في ألسنة أمم الارض كلها، وأكاد لا أقف على السر العظيم في ولع العربي بلسانه إلى الحد الذي يجعل منه الإله الأعظم الذي لا شريك له، فيقدم إليه الاضاحي ويَرمي تحت أقدام تمثاله الجليل أعز ما يملك من قرة عين، أطفاله ونسائه، برضى وحبور لا يعادلهما سوى رضى وحبور من " ختم الله على قلوبهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون".

ربما نجد مداليل هذا الامر في عمق جاهليتنا الاولى، حين رفع العربي كلامه الى منزلة آلهته، فوضع معلقاته العشر على جدران الكعبة جنبا الى جنب مع اللاة والعزى ويغوث ويعوق ونسر وهبل العظيم. وحين أنزل الباري عز وجل إليه وحيه نورا وسراجا كي يهتدي به "ويبصر" رفعه، بالاحرى، رفع غلافه وورقه وهيئة حروفه فقط، الى الموضع الفارغ الذي كانت تقف فيه تماثيله وأنصابه. الامر الذي جعله يقف مكتفيا وسعيدا بلحظة التاريخ البعيدة تلك، زمن الوحي الذي وُهب فيه القول الكامل الشامل والعادل الذي "فيه تفصيل كل شيء" وما عليه سوى حفظه على الغيب و إعادة روايته واجتراره إلى أبد الآبدين. فكلّ ما يمكن قوله قد تم ّ قوله على أكمل وأفضل وجه. وإنْ ظهر شيء لا سابق ذكر له في لسان سلفه الصالح فليس أكثر من بدعة وضلالة ودخيل يجب عزله ومحوه لأنه يمثل تشويها ودنسا للكسوة النقية لبيت كلامه المقدس، كلام أهل الجنة والملائكة، والكلام الوحيد الذي لا ينطق الله سواه. لعله مخزون نفط آخر لا ينضب، يـُملي على العربي أنْ يسترخي إلى أريكته الوفيرة متبرجا بعائداته التي توفر له العيش الناعم الرغيد إضافة الى نهر سخي من الاحزمة الناسفة.

إنّ مقارنة بسيطة بين هذا المارد العنيد- الذي يبقى يجلجل ويعربد رغم الكوارث والفواجع، وبين العين التي تقف حسيرة مقهورة حين ترى ما يؤلم ويوجع- ترينا مقدار ما كلــّفنا، وما يزال، من وجع وهزائم وذل، وتركــَنا، كما يشيع هذه الايام في واحدة من أراجيزنا المكرورة "وحيدين" في حروبنا الابدية، إذ خلق بيننا وبين العالم بأجمعه قطيعة، كان سببها الاساس، فزع العالم بل" قرفه" من هول ووحشية ما يتفضل به أولي الامر منا من شذرات ودرر تبهر الاذن وتخرس الافواه.

أمامي الآن، وأنا أدوّن هذه الكلمات، بالأحرى أمام عينيّ، على الشاشة الصغيرة صورة - ويالها من صدفة غريبة- تلخص المشهد بوضوح. الصورة عبارة عن أنقاض وخرائب على مد البصر وأجساد اطفال متفحمة، تــُركت أياما وليالي وحيدة تحتضن موتها، وهو مشهد واحد من مشاهد كثيرة خلفتها القذائف الاسرائيلية في حرب الثلاثة والثلاثين يوما على لبنان، ومن بين الانقاض تبرز "لوحة اعلانات"، كـُسرتْ نصفين لكنها حافظتْ على كلامها السحري الذي كتب بخط أنيق .... "ألا إن حزب الله هم الغالبون".

مشهد يعبر عن مفارقة موجعة، تقف أمامها العين خاشعة متدفقة، بينما يستمر اللسان في مواصلة إعجازه الإلهي وسيرة انتصاراته التاريخية، ولا عجب من ذلك، فاللسان، رغم أنه يقدر على أمور كثيرة لا تقدر عليها العين، إلا أنْ "الرؤية" وهذا مكمن الالم، ليستْ من بعض مزاياه، وهو سعيد بذلك وشكور، وعلينا نحن المستمعين أنْ ندفع صاغرين الثمن الباهظ لسعادته وشكرانه.

في مقولة للامام علي: "ليس بين الحق والباطل أكثر من أربعة أصابع ( واضعا راحته بين عينه وأذنه)... الحق أن تقول رأيتُ، والباطل أن تقول سمعتُ". أربعة أصابع لا غير، هي ذاتها الحد الفاصل بين الحياة والموت، الهزيمة الانتصار، وهي ذاتها الحد الفاصل بين العقل والجنون، المعنى والعبث.

ليتنا.. نطفئ المذياع قليلا ولو اقل من رجفة عين وسكونها، أو نختم صوت المعلــّق التلفزيوني، ونهبَ عيوننا المتواضعة فضيلة أن ترى، كي نرى معها بعض ما لا يقدر عليه ذلك الترجمان المارد الكثير الكذب.
المرء مخبوء تحت معجزات لسانه. أما الحقيقة، حقيقة الواقع الاليم، فمخبوءة تحت سواد عينيه.

(*) يتواشج هذا المقال مع مقال للصديق احمد عبد الحسين بعنوان" حرب بين العين والاذن"، نشر في "آراء" جريدة الصباح العراقية ، ويدين له بالكثير، محبتي واعتزازي.

سدني
www.tyaf.20m.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف