متى يظهر غيتس وبافيت.. عربيان؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
تعتبر العطية الضخمة التي قدمها المتمول الاميركي وارن بافيت، بقيمة 31 مليار دولار، الى "مؤسسة بيل وماليندا غيتس"، فريدة من نوعها. وهي بمثابة تقديم مبلغ عشرة آلاف دولار كل ثلاث دقائق الى مؤسسة غيتس لعقود وعقود لا نهاية لها، كل ذلك وهو لا يطلب تسمية اي شيء بإسمه. وقد كان بامكان بافيت ان يؤسس جامعة العفيف الأخضر:نداء إلى أغنيائنا: حاكوا BILL GATESتحمل اسمه بهبة اكبر مما قامت عليه "جامعة هارفارد"، او كان بامكانه ان يقيم اغنى مؤسسة خيرية في العالم، ويسميها "مؤسسة بافيت". لكنه لم يفعل ذلك. بل هو اعلن انه سوف يضاعف موجودات "مؤسسة غيتس"، ليبرز نقطة مهمة، وهي ان اعطاء المال يجب ان يكون موجهاً نحو تحقيق النتائج لا الفخار الذاتي. انه يريد ان يحقق ماله اكبر قدر ممكن من الخير والنفع للآخرين. فعطيته هذه تجسد آراءه حول مبدأ العطاء، مشدداً على ان المبدأ الذي يسري على اعطاء مائة دولار، أو ألف دولار، يجب ان يسري على عطاء المليارات، لا فرق.
اذ ان من اكبر الاسباب التي تعيق فاعلية المؤسسات الخيرية هو انها غالباً ما تقدم مشاعر المتبرع على النتائج الحقيقية في عالم الواقع. فالمباني التي تحتاج الى تسمية تجد من يتبرع لرعايتها بصورة اسهل من ادارة توزيع العقاقير الطبية اللازمة في اماكن نائية من العالم. فالمتبرعون المتواضعون بمبالغ قليلة يحدوهم في عطائهم شعور الرضا عن النفس اكثر مما يمكن لذلك العطاء ان ينجز.
اما المقياس الثاني الذي اعتمده بافيت في تقديم ثروته الى "مؤسسة غيتس"، فهو يقينه بأن غيتس يمكنه ان ينفق هذه الاموال بصورة اجدى وافضل مما يستطيع هو. ذلك ان "مؤسسة غيتس" هي احدى المؤسسات الطليعية القليلة التي حددت اهدافاً معلنة وواضحة، وهي باختصار الحد من الوفيات حول العالم بفعل امراض فقدان المناعة المكتسبة (الايدز)، والملاريا، والسل. (وعلى سبيل المثال، تستطيع اليمن الافادة من ذلك بسبب وجود تلك الامراض فيها). وهذا شيء يتعين على جميع المتبرعين ان يراعوه بالنسبة الى قضاياهم المفضلة. فهناك اكثر من مليون شخص يموتون من الملاريا كل سنة، معظمهم من الاطفال، وهذا مرض قابل للعلاج.
والمقياس الاخير الذي اعتمده بافيت هو العطاء للمؤسسات التي تعالج مشكلات معقدة يتداخل فيها العلم مع السياسة والاقتصاد. فالنجاح لا يأتي من خوض غمار الاعمال المأمونة والمضمونة. ومن هنا لا يسع لاحد الا الاعجاب بجرأة "مؤسسة غيتس"، خصوصاً لجهة عزمها على الاعتراف باخطائها. ومن القضايا التي مارست فيها النقد الذاتي الجريء انها قللت من تقدير كلفة توزيع مضادات حيوية لمكافحة الحمى السوداء في الهند.
كذلك فان الشيء الاستثنائي في الموضوع ان بافيت قرر عدم توريث ثروته الهائلة الى اولاده الثلاثة. ففي تحقيق نشرته مجلة "فورتشن"، قال بافيت: "اولادنا جيدون، لكن حجتي هي ان اولادي كانوا محظوظين في كل الاحوال، من حيث نشأتهم وتربيتهم والفرص المتاحة لهم للدراسة، بما في ذلك ما تعلموه في المنزل. لكنني اقول انه امر مناف للحق وللعقل اغراقهم باموال طائلة لم يحصلوها بأنفسهم. وفي واقع الامر، كانت لهم دفعة كبيرة الى الامام لبدء حياتهم العملية في مجتمع يطمح الى سيادة الجدارة فيه. فالثروات العائلية الطائلة الموروثة من شأنها ان تجعل ميزان ميدان العمل يميل بعيداً عن كفة الجدارة، في وقت نسعى جهدنا الى تعديل هذا الميزان".
ان النموذج الذي وضعه غيتس وبافيت جدير بأن يُحتذى في كافة انحاء العالم. فالرجلان كلاهما حقق ثروته بقوة عقله وذكائه. هما لم يرثا اي ثروة، ولم تكن لهما اي اوضاع تحمل امتيازات في المجتمع. كل ما كانا يملكان هو التصميم والافكار. فأفكار بيل غيتس انطوت على المغامرة برأس المال، لكنها في الوقت ذاته انطوت على مسلكية عصرية قوامها الرهان على الناس.
هناك رجال اصحاب رؤية في مجال الاعمال في اميركا لديهم استعداد للمغامرة برساميلهم على اشخاص يحملون افكاراً مجدية في مجالات التكنولوجيا والعلوم. وهذا امر مفقود في العالم العربي. وما لم ينشر العالم العربي ثقافة الرهان على الناس والافكار، فان العرب لن يستطيعوا الانضمام الى البلدان المتقدمة.
فلنعقد الامل على ظهور بيل غيتس عربي، ووارن بافيت عربي، لخلق الثروة واشراك مواطنيهم العرب فيها. وهذا يمكن ان يتوضح بالمقارنة، حيث قيمة شركة "مايكروسوفت" تفوق قيمة بورصات الكويت، ودولة الامارات، وسلطنة عُمان، ودولة قطر، ومملكة البحرين. وقيمة "مايكروسوفت" ناشئة من الافكار التكنولوجية المتعلقة بادارة المعلومات، وليس من موارد مادية كالنفط.
ان التحدي الكبير الذي يواجه العالم العربي هو كيفية اشاعة المناخ الذي يمكنه ترجمة الافكار التكنولوجية والصناعية الى ثروة في القرن الواحد والعشرين. ذلك ان اعظم الثروات تحقق من خلال الافراد وعقولهم، وليس من التجارة او المباني العقارية. ومن البديهي ان تغذية حياة العقل البشري هي مفتاح التقدم، وهذا لا يتحقق الا بنشوء مجتمع يتيح استغلال جميع الافكار، بغير حدود او سدود.
وعندما قرر وارن بافيت ان ينقل ثروته ويضمها الى ثروة اغنى رجل في العالم، بيل غيتس، ليشكلا اكبر مؤسسة خيرية شهدها العالم في تاريخه، فان قراره هذا كان نكراناً مطلقاً للذات في عالم اناني.
وبدل ان يقيم مؤسسته الخاصة، قال باقيت: "ادركت ان هناك مؤسسة رائعة ارتفع نجمها وسمعتها".
وقبل نحو مائة سنة، كان جون روكفلر واندرو كارنيجي اغنى رجلين في اميركا في ذلك الوقت، وربما في العالم كله، لكنهما لم يدمجا ثرواتهما، انما كانا يتعاونان. وما اقاماه من خيريات اسهم اسهاماً لا يمكن تقديره في مجالات الفنون، والعلوم، والطب، والثقافة، والتعليم، في الولايات المتحدة وخارجها.
ومن ايام شبابه كان جون روكفلر يقدم الاموال الى "كلية سبيلمان" المعنية بتعليم السود. ثم قام بتأسيس "جامعة شيكاغو"، ومعهد البحوث الطبية الشهير المعروف باسم "جامعة روكفلر". اما حفيد روكفلر فقد قدم امواله الى الشعب الاميركي، والى المحميات والمنتزهات الوطنية الاميركية الرائعة، والى المتاحف.
وعندما توقف كارنيجي عن جمع المال وبدأ ما اسماه "المهمة الصعبة لتوزيعه توزيعاً حكيماً"، صب اهتمامه على التعليم والسلام العالمي. فقد اسس "مؤسسة كارنيجي للسلام العالمي". لكن "مؤسسة غيتس" قررت ان تخوض تحديات اكبر تهم الجنس البشري كافة. وسر قوة "مؤسسة غيتس" ليس في حجم حسابها المصرفي، بل في الناس الذين يتولون ادارتها دون خوف من الفشل. وسوف تركز المؤسسة جهودها على التعليم ومكافحة الامراض في العالم الثالث.
غير ان التحدي في مجالات التعليم ومكافحة الامراض لن ينجح ما لم ينضم اليه كبار الاغنياء حول العالم، ويتوضح اهتمام حكومات الدول الغنية بهذا النهج، ويبدأ تقديم الاموال الى "مؤسسة غيتس" ومن ثم التعاون معها.
ان ما يوحد بين روكفلر، وكارنيجي، وغيتس، وبافيت، هو اعتقادهم بأن كبار الاغنياء يجب ان يكونوا مجرد "أمناء" على الثروات الكبرى من اجل ادارتها للصالح العام.
الكاتب خبير مقيم في واشنطن ومتخصص في احداث المنطقة ومستجداتها، انطلاقا من الرؤية الاميركية لها. المقال تنشره " ايلاف" بالاتفاق مع "الديبلوماسي"، وهو تقرير سياسي عن العالم العربي والشرق الاوسط يصدره في لندن ريمون عطا الله، ويتوفر للمشتركين فقط