تعجبين من سقمي.... صحتي هي العجب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
لم تكن مسألة العلم المشكلة العراقية الوحيدة العالقة أو التي فشل العراقيون في حلها بل هي امتداد للعجز العراقي الشامل المطبق في كل مكان. فقد عجزنا عن حل معظم المشاكل الكبيرة التي تواجه العراق، ابتداءا من المشكلة السياسية إلى مشكلة الأمن والخدمات إلى مشكلة المليشيات مرورا بإبعاد الكفاءات عن مواقع التأثير وتحويل دوائر الدولة إلى مؤسسات عائلية وحزبية عبر توظيف الأقارب والموالين، وانتهاء بمشكلة الفساد الإداري والمالي المستشرية التي تهدد بانهيار الدولة العراقية، أو ما بقي منها، برمتها. بل حتى القضايا التي تصورنا أننا انتهينا منها، مثل الدستور، الذي نتباهى أمام العالم أننا خرجنا وتحدينا الإرهاب وصوتنا له بنعم، لم تُحل كليا ولا يزال دستورنا غير مكتمل وفيه تناقضات وقضايا معلقة كثيرة بينما لا تزال اللجنة التي نص الدستور واتفق الأعضاء على تشكيلها لإجراء تعديلات فيه خلال أربعة أشهر من انعقاد مجلس النواب، لم تُشكل حتى الآن، وليس هناك نية في تشكيلها على ما يبدو. أما مشكلة نظام الحكم فهي الأخرى لا تزال عالقة وهناك من يتساءل حول فوائد الفدرالية وهل علينا أن نتبناها في العراق أم لا، فهناك من يريدها أن تمتد لتشمل تسع محافظات، وهناك من يصر على حصرها في محافظة واحدة فقط وهناك من يرفضها كليا. بل لا يزال البعض منا يتساءل إن كان النظام الديمقراطي يصلح للعراق، وهل علينا أن نتبناه أم لا، وهل ينسجم مع ثقافتنا وديننا أم لا!
موقف السيد مسعود البارزاني من العلم ليس جديدا، فهو لم يرفع هذا العلم منذ عام 1991 ومن لا يتفهم موقفه لن يتفهم أي شيء في العراق ولن يستطيع أن ينسجم مع العراق الجديد الذي يفترض أنه يحترم تنوع مكوناته ويراعي مشاعرهم ومشاكلهم ويسعى إلى حلها بالطرق الديمقراطية. لقد كان هذا العلم بالنسبة لمعظم العراقيين، ولكل الأكراد دون شك، رمزا للظلم والقهر والاضطهاد والإذلال والقتل والتمييز العنصري، ولا يمكن لهم (الأكراد على الأقل) أن يرفعوا علما يمثل كل هذا التاريخ المرير بإرادتهم. لقد سعى البارزاني في أول فرصة له، وهي ترأسه لمجلس الحكم في شهر نيسان عام 2004، إلى تغيير العلم. وأصدر المجلس برئاسته قرارا بتغييره وأوكلت مهمة التغيير إلى السيد نصير الجادرجي، عضو مجلس الحكم، الذي طلب من بعض الجهات، بينها شقيقه المعماري المعروف رفعت الجادرجي، أن تأتي بتصاميم لعلم جديد للعراق. وبعد عرض هذه التصاميم (المستعجلة) على جلسة (مستعجلة) لمجلس الحكم، استقر رأي المجلس على تصميم المعماري رفعت الجادرجي، باعتباره أفضل التصاميم المقدمة حينها. مجلس الحكم كان في عجلة من أمره لاعتماد علم جديد لأسباب كثيرة منها قرب موعد نقل السيادة للعراقيين في 30 حزيران 2004 وعدم رغبة الكثير من الجهات السياسية العراقية استخدام علم النظام السابق في العصر الجديد، بالإضافة إلى قرب موعد الألعاب الأولمبية وضرورة وجود علم عراقي جديد يستخدمه العراقيون في تلك الألعاب. لكن تصميم الجادرجي لم يحظ بقبول شعبي (رغم أنني التقيت بفنانين كانوا معجبين به) بسبب عدم ألفة الناس للألوان التي استخدمها، وانتشار إشاعة أنه يشبه علم إسرائيل التي بثتها الجهات المعادية له، رغم أنه لم يكن كذلك. إلا أن الحقيقة هي أنه تبني باستعجال ولم يناقش باستفاضة من قبل العراقيين، إذ لم يشترك في مسابقة تصميم العلم سوى قلة قليلة من الأفراد المحسوبين على جهات سياسية، مما جعل مجلس الحكم يرجح تصميم الجادرجي. لكن اتساع المعارضة للعلم الجديد وضعف مجلس الحكم في تلك الفترة اضطرت رئيس مجلس الحكم الشهيد عز الدين سليم للتخلي عنه والإبقاء على علم النظام السابق.
من نافلة القول إن أي تغيير سياسي كبير، كالذي حصل في العراق، في أي بلد في العالم، يرافقه تغيير للعلم. فقد تغير العلم في جنوب أفريقيا بعد سقوط النظام العنصري وفي إيران بعد سقوط النظام الشاهنشاهي وفي مصر بعد سقوط الحكم الملكي ومرة أخرى بعد وفاة عبد الناصر وتولي أنور السادات مقاليد الحكم، إذ تغير حتى اسم البلاد من "الجمهورية العربية المتحدة" إلى "جمهورية مصر العربية". وفي وبلدان أفريقيا وقارات العالم الأخرى، أبدلوا العلم في كل مرة حصل فيها تغيير جذري. وفي العراق استبدل علم العراق الملكي عام 1958، بعلم الجمهورية، ثم استبدل الأخير عام 1963 عند الإطاحة بالجمهورية الأولى بالعلم المصري، المتخلى عنه، وفي 1990 عندما أراد صدام أن يضفي طابعا إسلاميا على غزوه للكويت، قام بتغيير العلم العراقي مرة أخرى. العلم يتغير مع النظام في كل مكان، إلا أنه لم يتغير في العراق لأسباب ليس لها تفسير سوى الإهمال والتناحر وعدم الكفاءة ووجود خلل في الأولويات. كيف نقبل بعلم قُتل وأُضطهد في ظله العراقيون من كل الأعراق والأديان والمذاهب والمناطق؟ كيف نقبل بعلم ارتكبت تحت لوائه المجازر الشنيعة من حلبجة إلى الأنفال إلى المقابر الجماعية إلى انتفاضات الجنوب والموصل والرمادي والنجف كربلاء والفرات الأوسط؟ كيف نقبل بعلم لم نره مرفوعا إلا وبجانبه صدام وعدي وقصي وعلي كيمياوي وحسين كامل وعزت الدوري وطه الجزراوي؟؟ كيف نقبل بعلم دولة أخرى فرضه علينا صدام حسين الذي نحاكمه الآن على جرائمه بحقنا؟ كيف نقبل بعلم لم يكن لأي منا رأي في اختياره؟ ألا يذكرنا هذا العلم بنظام سلب منا كل شيء ابتداءا من الكرامة وانتهاء بالإنسانية؟
إن إقدام السيد مسعود البرزاني على منع رفع هذا العلم في كردستان هو انتصار للكرامة العراقية التي استبيحت وأهينت في ظله لخمسة وثلاثين عاما. وليته كان قادرا على إزالته من العراق كله.... لا أعتقد أن السيد مسعود منع رفع علم صدام لأنه يرفض أن يكون جزءا من العراق، ولا أعتقد أنه تنقصه الشجاعة أو الجرأة لكي يقول رأيه بوضوح إن كان فعلا يريد أن يعلن أمرا آخر كالانفصال، فهناك تبريرات أكثر قبولا ومنطقية من رفضه لعلم النظام السابق. وهذا وزير الخارجية، السيد هوشيار زيباري، الذي ينتمي إلى حزب السيد مسعود، يضع العلم الرسمي الحالي أمامه في كل مناسبة، مضطرا دون شك، لكنه مثلنا ينتظر تغييره في أقرب فرصة. وإن كنت اختلف مع السيد مسعود في أمور أخرى فإنني لن اختلف معه في قضية العلم التي كان على العراقيين أن يسقطوه مع صدام ويستبدلوه من اليوم الأول بعلم آخر أكثر تمثيلا لتاريخ العراق وموقعه وثقافته وخارطته البشرية والجغرافية، كأن يكون علم الرابع عشر من تموز الذي صممه جواد سليم وأقره قادة العراق وكثير من أبنائه في تلك الفترة وقَبِل به الأكراد والعرب من السنة والشيعة ولم يعترض عليه أحد، بل لا يزال الكثيرون منا ينظرون إليه بحب واعتزاز.
إن العلم الحالي هو علم مصر الذي تخلت عنه لاحقا، والذي تبناه انقلابيو 8 شباط، وقد أدخل صدام عليه تغييرات المقصود منها تضليل العالم الإسلامي بأن احتلاله للكويت كان عملا إسلاميا مبررا والكل يعلم أنه اعتداءا غادرا على دولة عربية إسلامية مجاورة. إن إضافة عبارة "الله أكبر" كانت كلمة حق أريد بها باطل. فأين صدام وحزبه من الدين والأخلاق والمبادئ؟ وإن كان يرعى لله حرمة فبربكم لماذا أقدم على قتل علماء الدين من السنة والشيعة، والتضييق على ممارسة العبادات والشعائر؟ لا أعتقد أنني بحاجة لأن أبرهن على تناقض أعمال صدام مع الدين فهذا أمر لم يعد موضع خلاف مع أحد، وحتى الذين يدافعون عن صدام يعترفون به.
إن علم الدولة ليس قطعة فنية جميلة ولا هو مسلة أو معلقة نضع فيها قوانيننا وقوافينا، بل صورة ترمز إلى وحدة بلدنا وتعكس شيئا من تاريخه وثقافته. والعلم ليس مقدسا لذلك فإنه يداس ويحرق عند الاحتجاج على أمر ما، وهذا يدعونا لأن نتجنب أن نضع فيه لفظ الجلالة أو آية قرآنية أو أي عبارة أو صورة مقدسة أخرى لأننا إن فعلنا فسوف نعرض مقدساتنا إلى الإهانة والابتذال وهذا أمر يرفضه الدين دون شك.
وتعجبين من سقمي.... صحتي هي العجب. إنني استغرب كل الاستغراب أن يبقي مضطهدون عراقيون تولوا زمام أمورهم بأيديهم، علما كان رمزا لإذلالهم وقتلهم وتهجيرهم وقهرهم لعشرات السنين، فأخذوا يرفعونه عاليا على دوائرهم ويضعونه خلفهم وإلى جنبهم، بل يصرون على الظهور أمامه حتى في المقابلات التلفزيونية وكأن شيئا لم يكن. كيف ينسى هؤلاء رمزية هذا العلم إلى قتل العراقيين وقهرهم وإذلالهم فرادى وجماعات علماء وعاديين، عربا وأكراد، جنوبيين وشماليين وغربيين وشرقيين. كان على مجلس الحكم أو الجمعية الوطنية أو مجلس النواب أن يقوم بما قام به السيد مسعود قبل هذا الموعد بزمن طويل. أما وقد تأخرنا في ذلك، فعلينا أن نسارع الآن لتصحيح الخطأ لا أن نلوم السيد البارزاني على رفضه تقصيرنا واحتجاجه على فشلنا وانتصاره لكرامة شعبه وكرامتنا جميعا.
أمامنا خياران على الأقل في مسألة العلم. فأما أن نشرع بتصميم علم جديد كي يعرض على البرلمان لإقراره وتبنيه وهذا يستغرق وقتا دون شك قد يمتد أشهر أو أكثر، أو أن يتخذ البرلمان قرارا بتبني علم 14 تموز علما جديد للعراق. الخيار الأخير هو الأفضل في رأيي لأنه يجنبنا الدخول في جدل طويل حول علم جديد قد نختلف عليه كثيرا. علم 14 تموز علم مقبول لدى أغلب العراقيين في رأيي لأنه يحمل مدلولات كثيرة ويعكس ثقافة العراق وتاريخه وثقافته وهو علم صممه الفنان العراقي المبدع جواد سليم على أسس فنية ووطنية صحيحة، بالإضافة إلى أنه مقبول لدى شرائح كثيرة من المجتمع العراقي بينها الأكراد.
علينا أن نستبدل علم صدام بعلم آخر قبل فوات الأوان وقبل أن يفتك بما تبقى من وحدة وطنية رمزية، وقبل أن تتبنى مناطق أخرى في العراق أعلاما أخرى خاصة بها. دعونا نعتبر إسقاطه في كردستان فرصة لنا كي نرمي بعلم الأنفال والمقابر الجماعية إلى حيث ينتمي: إلى مزبلة التاريخ..