انتصارات ما بعد حيفا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
"ما بعد حيفا " عشنا أغرب انتصار في تاريخ العرب. فهو أول " انتصار " لم يتفق حوله العرب.
وهي ظاهرة لا يقدر على توليدها سوى أصحاب الظاهرة الصوتية.
وكنا، أخشى ما نخشاه، أن يصل بنا الأمر"إلى ما بعد، بعد حيفا" ما يعني خراب لبنان كليّا.
لكن صاحب "ما بعد حيفا" أنقضنا بإعلان توبته النصوحة على " تلفزيون الجديد " ومن تحت خناق الحصار الذي تضربه الدولة المهزومة، جوا وبحرا على البلد المنتصر.
وعندما كنا في انتظار مرحلة "ما بعد، بعد حيفا" توسل صاحب الانتصار، الفريد في تاريخ العرب، وقف إطلاق النار. في حين أصرّ المهزوم، خوفا مما "بعد، بعد حيفا" على التوغل في الجنوب اللبناني ودكّ محروسة " المربع الأمني" وضواحيها في بيروت. بل ووصلت الحماقة بإسرائيل المهزومة، حدّ خرق قرار إطلاق النار بعد أقل من أسبوع من دخوله حيز التنفيذ.
وعندما كنا في أوج الاحتفالات بالنصر هنا، كانت طوابير اللبنانيين هناك، تكبر يوما بعد يوم أمام السفارات الغربية طلبا للفرار من الانتصار.
وانهمرت علينا الانتصارات.
انتظرنا الخروج التقليدي للمنتصر في سيارة مكشوفة أوحتى على ظهر دبابة إيرانية ليلقي عليه ضحايا انتصاراته حفنات الأرز والزهور، ففاجأنا المهزوم "أولمرت" بالتجول مترجلا في شوارع شمال فلسطين.
انتظرنا بطلنا ليضرب لنا موعدا جديدا لما "بعد حيفا" كرد فعل على الحصار المذلّ، فأطل علينا يوم 30 آب ليقول "والله "لو كنت أعلم بحجم الدمار الذي سيلحق ببلادي من جراء هذه الخطوة ما كنت لأقدم عليها" وتقول صحيفة "هاآرتس" الإسرائيلية "إن اعترافات نصر الله أنقذت عصابة الثلاثة" (أولمرت. بيريتز. حالوتس).
أما الفرنسيون فيقولون بأنّ " الحكم هو القدرة على التّوقّع" وطبعا هذا كلام يليق بأحفاد "ديكارت" الغيبيين ولا يليق بنا نحن العقلانيون. فمن المعيب أن نستعمل كلمات من نوع توقع واستشعر وتنبأ أو حتى قرأ التاريخ، فقراءة التاريخ ضرب من قراءة الغيب.
وتهاطلت تأويلات المخذولين من بطلهم المنتصر لتنزيل كلامه في ظروفه. فهو حسب يقينهم كلام حكيم هدفه تهدئة النفوس التي روعها الدّمار.
وحكمة ما بعد "خراب مالطا" هذه تعدّ ركيزة جديدة من ركائز مفهومهم العقلاني جدا للانتصار، لأن الشعوب المنتصرة لا تكون عادة في حاجة إلى الحكمة أو لعبارات الصبر والسلوان والندم.
ومخذولو البطل لهم قراءة غرائيبية للانتصار. فهم يعتبرون أن الحصار الإسرائيلي المفروض على لبنان هو دليل انهزام إسرائيل وانتصار حزب الله.
بعدها، فجع أصحاب الانتصار، وهم عادة من أنصار صدام حسين، بتصريح مساعد حسن نصر الله الذي وصف فيه حبيبهم الأول "بالدكتاتور". لكنهم بلعوا السكين بالعرض وصمتوا. فهم متعودون دوريّا، على تشييد قباب النصر، لبطل يقبرونه فيما بعد. فقد هلّلوا لانتصار 1973 ولعبوره الميمون ثم نسوه، وزعموا أن لا انتصار قبل 2006.
صحيح، فانتصار 2006 أحدث أمرا غير مسبوق. فقد استرجعت مصر سيناءها بعد أكتوبر 1973، أما لبنان، فقد فقد جنوبه مرة أخرى بعد "انتصار" هذه الصائفة، تماما كما خسرنا الضفة في "انتصار" 1967 .
وجماعة الانتصار متخصصة كذلك في بطولات الشوارع العربية وفي فضائلها ووعيها القومي والوطني الحاد. وهي شوارع كانت تتابع مهرجانات الصواريخ كما تابعت قبل ذلك بقليل مهرجان كرة القدم العالمي.
فشوارعنا تنزل صباحا إلى الشارع لتتظاهر، قبل أن تهرع إلى الشواطئ وإلى حفلات الأعراس والمهرجانات، ثم تنام قريرة العين مطمئنة على أطفالها، لتستيقظ في الغد على صور أشلاء العائلات اللبنانية التي كانت تزداد حجما يوما بعد يوم وخاصة منذ الوعد "بما بعد، بعد حيفا"
كما أن حجة الشوارع لا تصمد أمام التاريخ والوقائع المعاصرة. فشوارعنا بصفة عامة خرساء وهي أنواع. لذلك إذا أردنا الاستشهاد "بالشارع" فيجب أن نحدد الشارع المقصود.
هل هوالشارع الذي يخرج في جنازات المستبدين أم هو شارع مظاهرات الأنظمة أم هوشارع الخبز والصمت أم شارع كرة القدم و"ماريا كاري" أم شارع عبد الناصر وصدام حسين أوشارع طوابير الهاربين من الانتصار والتنمية الاقتصادية ؟
فالشارع لا يعتدّ به كثيرا حتى في الدول المتطورة تربويا وثقافيا. فهو الذي انتخب نازيّا في النّمسا وعنصريّا في فرنسا وعاد في الدور الثاني ليختار " جاك شراك "
وقد صدق المفكر اللبناني الشيعي د. علي حرب في حديثه عن "خطاب الكوارث والنكبات" عندما قال بمرارة : "النموذج الأول يمثله من يفرحون عند مقتل إسرائيلي واحد، ولو قضى مقابله عشرة بل عشرات من اللبنانيين أو العرب، إنهم يعدون ذلك انجازاً هوعندهم مثار للانتشاء والإحساس بالنصر. ويا لها من عقلية مازوشية تقوم على احتقار الذات والإعلاء من شأن الآخر. والمثال على ذلك يقدمه لنا من يحدثنا عن النصر في ملجأه الحصين، فيما أهله أو شعبه يواجه القذائف بلحمه الحي، أو يطرد من دياره منكسر الخاطر ذليل النفس. فياله من وعد بالنصر يجر إلى كل هذه المجازر والحرائق . هذا المثقف القومي يشكل مع الداعية الأصولي والإستراتيجي الإيراني الوجه الآخر للجنرال الإسرائيلي، من حيث المنزع الهمجي. فهذا الأخير يقتل الأطفال بدم بارد، أما هم فإنهم يريدون لأطفال لبنان أن يكونوا وقوداً لنزواتهم الاستبدادية، أو قرباناً يضحي به على مذبح العروبة السادية أو الهدامة، أو على مذبح الإسلام التكفيري"
وجماعة الانتصار متخصّصة أيضا في اتهام خصومها بالطائفية والليبرالية.
فإما بالنسبة لتهمة الطائفية، فنحن في تونس متشابهون حدّ الضجر بنسبة 99 في المائة وأكثر بقليل بعد الفاصلة. والعديد منا لا يعرف إن كان سنيا أو شيعيا. وفي لبنان انتقد المفتي الشيعي مغامرة حزب الله وحمّله مسؤولية الأرواح والممتلكات المهدورة. كما مات في لبنان من أجل سيادة بلده واستقلاله من الهيمنة السورية، السني رفيق الحريري والمسيحي جورج حاوي وسمير قصير والأرثوذكسي جبران التويني. وكاد أن يلحق بهم الدرزي مروان حمادة.
أما في ما يتعلق بالعداء للإيديولوجية الإسلامية، فقد انتقد مجلس شوري جماعة الإخوان المسلمين في سورية المحور السوري ـ الإيراني، وأبدي قلقه من تصرفات نظام طهران في العراق ولبنان وسورية، وأعلن وقوفه إلي جانب لبنان ووحدته واستقلاله وسيادته ورفضه كل أشكال التدخل في شؤونه الداخلية. وأبدي المجلس قلقه من بعض المواقف والتصرفات التي تبعث علي الريبة والتوجس يجري بعضها علي أرض العراق، وأخري علي أرض سورية وثالثة علي أرض لبنان .
أما نحن فقد ساندنا حزب الله في حربه التحريرية دون الالتفات إلى أصله وفصله ومورد رزقه وسلاحه، عندما كان جنوب لبنان تحت الاحتلال. كما نساند اليوم حركة حماس في نضالها ضد المحتل.
وإذا كان هناك من يقف ضد تحرير الأوطان باسم الليبرالية، فهولا يفقه من الليبرالية شيئا وعليه أن يفتش عن يافطة أخرى لدكانه السياسي.
هذه بعض مضحكات نصرنا.
أما مبكياته فحدث ولا حرج.
فقد أعطى الانتصار ذريعة للنظام السوري ليستعرض عضلاته الدكتاتورية وينكل بمعارضيه. وبعد فضحه "لأنصاف الرجال" عاد بشار الأسد ليقول لكوفي عنان إنه سيكافح تهريب السلاح، وأنه مستعد لإقامة علاقات دبلوماسية مع لبنان ومستعد للتفاوض مع إسرائيل. وهو أمر ليس بغريب على من عقد اتفاقية مع إسرائيل برعاية هنري كيسنجر عام 1974، تتضمن حماية أمن إسرائيل مقابل إطلاق يده في لبنان، لتدمير منظمة التحرير، التي كان يجد فيها منافسا قويا له.
وقد تمكن صاحب بطلنا "حسن نصر الله" من إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، وتفتيت فصائلها، حيث أخفقت إسرائيل بكل جيوشها واجتياحاتها للبنان في ذلك.
ونجح نظام الأسد في "الصمود" على مرتفعات الجولان السورية المحتلة، التي باتت مناطق سياحة للصهاينة.
كما حقق "انتصار" هذه الصائفة كسبا عظيما لأمريكا وإسرائيل، بتحييد الجبهة اللبنانية. فالقرار الأممي ينص على نشر القوات الدولية بين الخط الأزرق ونهر الليطاني الذي يبعد 35 كيلومترا عن الحدود. فالقوة الدولية هنا "قوة احتلال" لمنطقة، أصبحت محايدة، تقدر مساحتها بخمس لبنان.
ومكن الانتصار الإيرانيون من كسب جولة الذهاب في مباريات قضية الأسلحة. وكما قلت في مقال سابق، لا خوف على إيران ولا يحزنون.
فإيران اليوم قوة إقليمية مهمة، تتبجح بألف شهيد لبناني. وهي تشاكس الدول الأوروبية بمحاولتها امتلاك السلاح النووي، إضافة إلى امتلاكها لترسانة عسكرية متطورة يحسب لها ألف حساب. وهي تشارك الولايات المتحدة في احتلال العراق. وهذا الوضع جعل الولايات المتحدة تخطب ودّ إيران وتسعى لعقد الصفقات معها بالشأن العراقي والإقليمي.
وقد دعا نجاد، بوش إلى الحوار وصفح عن إسرائيل وأكد انه لا يهددها. وهذا فعلا موقف المنتصر. فأسلحة إيران هذه، التي حطّمنا من أجل سواد عيونها، بلدا عربيا، لن تستعمل ضد إسرائيل إذن، كما أكد ذلك العاقل جدا، جدا، محمود أحمدي نجاد.
أما أن تستعمل ضد عرب الأهواز والعرب بصفة عامة، فهذا وارد جدا. فنحن متعودون على رفع السلاح في وجه بعضنا وليس في وجه الغريب. وهو غريب بالنسبة للعرب فقط أما في إيران "فلا غريب إلا الشيطان" ففي، أوقات الشدة، تجد إيران في الخبراء العسكريين الإسرائيليين أحسن عون لها. ولنا في مهزلة " إيران جيت " أقوى شاهد وأمرّ حكمة.
وآخر درر هذا الانتصار إلى حد كتابة هذه السطور، هو قرار العاقل نجاد بالتخلص من الأساتذة الجامعيين الليبراليين واللائكيين على حسب تعبيره. وهكذا ستتحول كامل إيران بفضل هذا الانتصار إلى مدينة قم.
ورغم كل هذا، يتساءل بعض المؤمنين بانتصار حزب الله، حول سر ضعف قدرة "الحزب" على إقناعنا بأنه انتصر. ويبدو أنهم غير ملميّن بنهايات "الحواديت" الفارسية القديمة، المتأبطة شرا في الغالب.
ويكفي أن يعلم المرء أن نظاما مثل نظام الأسد ونظام أحمدي نجاد، يهللان لهذا النصر لكي يرتاب في أمره ويعزف عن التبشير به.
تونس
salouacharfi@yahoo.fr
http://www.geocities.com/salouacharfi/index.html