لنتصارح إذا أردنا أن نتصالح (4)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
الفيدرالية
المعضلة الكبرى الأخرى التي ما تزال تؤجج نار الخلافات الطائفية، وتعيق التوصل إلى تسوية، أو مصالحة شاملة هي، مسألة الفيدرالية، ونحن نقصد هنا، تحديدا، الفيدرالية الشيعية، أو مسألة أقاليم الجنوب والوسط، كما تسمى أحيانا. فالفيدرالية الكوردية مسألة تكاد أن تتفق جميع الأطراف العراقية، ليس على خصوصيتها وتاريخيتها فحسب، وإنما،أيضا، على قبولها والاعتراف بها.
ولنبدأ بأخر تصريح حول الفيدرالية الشيعية وهو، لسماحة الشيخ جلال الدين الصغير، خطيب جامع براثا وأحد الزعماء المبرزين في المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، وعضو في البرلمان العراقي عن الإتلاف الموحد.
في تصريح أدلى به لصحيفة لوس انجلس تايمز، وأعادت نشره وكالة (براثا نيوز) في موقعها على شبكة الانترنيت بتاريخ 17/8/2006، قال الشيخ الصغير:
"(...) مهما يكن فإننا متمسكون في حقنا الدستوري ( يعني الفيدرالية) ولن نتنازل عنه أبدا. (...) وما لم نتدارك الأمر لا يمكن لنا أن نضمن بقاء العراق موحدا، ومن هنا كانت مطالبتنا بالفيدرالية من أجل ضمان بقاء العراق الموحد، لأن الفيدرالية إن لم تفعل، فإن الاحتقان الاجتماعي الحالي سيدفع باتجاه الكونفيدرالية أو الانفصال وهذه كارثة".
وقد تزامن تصريح الشيخ الصغير مع تصريح جديد أطلقه رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، سماحة السيد عبد العزيز الحكيم، مباشرة بعد أن طالب شيوخ العشائر، في مؤتمرهم الذي انعقد في إطار عملية المصالحة الجارية، بتأجيل البت في مسألة الفيدرالية. وطالب الحكيم بضرورة قيام إقليم الوسط والجنوب باعتباره "أمرا ضروريا ولا بد من التحرك الجاد في هذا الاتجاه"..و هذه التصريحات كلها تزامنت مع مؤتمر لبعض شيوخ العشائر الشيعية، عقد في مدينة الكوفة بتاريخ 29/3/2006 (ردا على مؤتمر شيوخ العشائر في بغداد؟) وكرروا فيه نفس المطالب التي يتبناها المجلس الأعلى للثورة الإسلامية.
قبل الاسترسال في الحديث، نود أن نضع بين هلالين الجملة الاعتراضية التالية وهي: إن المادة 115 في الدستور التي نصت على حق كل محافظة أو أكثر في تكوين أقاليم، أعترض ضدها زعماء العراقيين السنة، واشترطوا، لقاء اشتراكهم في العملية السياسية، أن يعاد النظر في صياغتها، وفعلا نجحوا في تضمين الدستور مادة جديدة هي، المادة 142 التي نصت على تشكيل لجنة برلمانية، خلال أربعة أشهر بعد الانتخابات الأخيرة، مهمتها مراجعة المادة الدستورية المتعلقة بالفيدرالية. وعلى حد علمنا، فأن اللجنة الموعودة لم تتشكل حتى كتابة هذه السطور.
"لاءات الخرطوم" والواقع العراقي
الآن، نعود إلى التصريحات السابقة لنتساءل: ما هي "الرسالة" التي تريد تلك التصريحات إيصالها؟ ومن هي الجهة، أو الجهات التي يراد لها أن تستلم تلك الرسالة؟
عند العراقيين، مثلما عند أي شعب من شعوب الأرض، ذخيرة هائلة من الأمثال الشعبية التي يستعينون بها لشرح ما تعجز عنه اللغة الرسمية. وأحد الأمثال الشعبية العراقية يقول: "أحنا أولاد الكرية، واحدنا يعرف أخيه". والمثل يعني انه لا حاجة أن تتشاطر علي أو أتشاطر عليك، فكل واحد منا قد خبر صاحبه، وعرف من هو وما هي إمكانياته. وهذا ينطبق على الأفراد مثلما ينطبق على الجماعات. والجميع، في العراق وخارجه، يعرفون أن اللاعبين الذين يجلسون حول طاولة اللعب السياسية في العراق يعرف كل واحد منهم ما يملكه صاحبه المقابل من أوراق، واللاعبون العراقيون كلهم يعرفون جيدا أن "الجوكر" في يد واحدة هي، اليد الأميركية.
وزبدة الزبدة في كلامنا هذا هي، إذا كان زعماء المجلس الأعلى يظنون أنهم سينجحون، عن طريق هذه التصريحات النارية، في فرض مواقفهم على الآخرين، وانتزاع المطالب منهم عنوة، فأخشى ما نخشاه أنهم سيصابون بخيبة أمل، ويساهمون في خلق خيبة أمل جماعية. وقد تكون خيبة كبيرة ومؤلمة وباهضة الثمن، حتى لو كانت هذه المواقف أو المطالب، تندرج ضمن "الاستحقاقات الدستورية".
فالأوضاع الراهنة في العراق (ليس عند الشيعة فحسب وإنما عند السنة والعرب والكورد والتركمان) لا تحتمل "لاءات الخرطوم" التي أرادها القادة العرب في قمتهم عام 1967، مدفوعين بعاطفتهم الجياشة وبنواياهم الحسنة وليس بغيرها، أن تكون دليلهم ومنهاج عملهم. لكن واقع الحال وتوازن ميزان القوى حولا تلك اللاءات، بمرور الزمن، إلى نعم منفردة، أولا، في كامب ديفيد عام 1978،ثم إلى نعم عربية جماعية في مؤتمر مدريد عام 1991، ثم إلى نعم، ومعها انحناءة رأس متوسلة، في مؤتمر بيروت عام 2002.
بلى، الأوضاع الراهنة في العراق لا تحتمل فرض شروط متطرفة وتعجيزية تريد الحصول إما على كل شيء أو لا شيء، أو إما الآن، وإلا فلا. والأوضاع الراهنة في العراق لا تسيرها الاستحقاقات أو المواد الدستورية وحدها. وإذا أردنا الاحتكام، حقا وصدقا، لما نص عليه الدستور، فأول ما يتوجب فعله، احتراما لهذا الدستور، هو إلغاء المليشيات المسلحة. فهذه المليشيات، جنبا إلى جنب الجماعات المسلحة وعصابات الجريمة المنظمة والمافايات بأنواعها، هي التي تحكم، فعليا، البلاد وتعطل، نظريا وعمليا، عمل الحكومة المنتخبة وفقا لمواد الدستور، وتصادر، بقوة السلاح، الحريات الخاصة والعامة التي كفلها الدستور.
مستقبل العراق لا يقرره طرف واحد
وفي ما يخص المجلس الأعلى للثورة الإسلامية الذي يلح على إقامة الفيدرالية الشيعية فورا، ومهما كانت الظروف، فان على زعمائه أن يدركوا الحقائق التالية:
أولا/ إن المجلس هو شريك من عدة شركاء يتألف منهم الائتلاف العراقي الموحد. والائتلاف، بدوره، هو شريك من عدة شركاء عراقيين يحكمون البلاد. والشركاء العراقيون كلهم لا يستطيعون، حتى لو اجتمعوا، أن يتخذوا قرارا منفردا، دون موافقة، أو على الأقل، دون الاستئناس برأي "الشريك" الأميركي. ثم، أن الأمور، مهما كانت خطيرة ومصيرية وإستراتيجية، لا تحسم إلا في بغداد، أولا وأخيرا، بما في ذلك الأوضاع في كردستان. وما قاله أخيرا الزعيم الكوردي مسعود البرزاني، في معرض رده على قضية "رفع علم كوردستان" بأنه "في أي لحظة يرى البرلمان والشعب الكرديان بأن من مصلحتهما إعلان الاستقلال، فسنعلن ذلك من دون أن نخشى احد"، يمكن إدراجه في خانة الأماني، وهو تصريح فيه من الهلع أكثر ما فيه من الثقة الجماعية بالنفس. فقد أراد السيد مسعود البرزاني، بعد أن تناهت إلى سمعه، دعوات أميركية وبريطانية تطالب بتأجيل العمل بمشروع الفيدرالية في العراق، أن يضع الجميع "أمام الأمر الواقع"، ويقول للجميع: إذا لم ترضوا ب"الحمى" وتقبلوا بالفيدرالية، فسنريكم الموت ونعلن استقلالنا. وهذا واحد من الأوهام الكبيرة. فالعراقيون يعرفون والكورد يعرفون والسيد البرزاني يعرف انه لو ترك الأمر للشعب الكوردي وحده، لأعلن الاستقلال منذ أعوام. وقد ظلت كوردستان العراق تعيش، منذ انتهاء حرب الخليج الثانية وحتى لحظة سقوط نظام صدام حسين، بطريقة شبه مستقلة عن المركز بغداد، لكنها عادت أخيرا إلى بغداد، لأن الأمور المصيرية، في كل زمان وفي كل بلاد، لا يمكن حسمها، سلبا أو إيجابا، شئنا أو أبينا، إلا في المركز.
ثانيا/ على قادة المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، على انفراد، وعلى زعماء الائتلاف مجتمعين، أن يعرفوا، أن يعرفوا جيدا، حقيقتين خطيرتين. أولها، أن مقاربة المجلس الأعلى، للفيدرالية الشيعية تختلف، وأحيانا جذريا، عن مقاربة شركاءه في الائتلاف، وليس كما يرى سماحة السيد عبد العزيز الحكيم بان "البعض غير متحمس والبعض الأخر متحمس" للفيدرالية الشيعية/ مقابلته مع وكالة الاسوشيتد بريس في 29/8/2006 /.
والحقيقة الثانية هي، أن الفيدرالية مسألة إستراتيجية ومصيرية وهي، كأي قضية كبرى، تحتاج، عندما تطرح على بساط البحث وتصل إلى حيز التطبيق، إلى مزاج شعبي فيه حد معقول من الصفاء، وتحتاج إلى جمهور عنده قدر معقول من التماسك، ويملك قدر معقول من حرية القرار. وهذه أمور غير متوفرة، في الوقت الحاضر، حتى في الشارع العراقي الشيعي المراد أقناعه بالفيدرالية. فالشارع الشيعي مضطرب، ومقسم حد البعثرة، ومصاب بخيبة أمل كبيرة، وخائف من المجهول، وكثير الاحتقان، وشديد التناحر، سواء على مستوى القيادات أو الكوادر أو القواعد. والأدلة كثيرة جدا جدا، ونكتفي بذكر بعض منها:
أ- إثناء اشتداد أزمة مدينة البصرة قبل أقل من شهرين، على خلفية صراع شيعي/شيعي، نشرت شبكة "أخبار النجف" الشيعية على الانترنيت، مقالا بتوقيع اسم مستعار "أبو زهراء". ولسنا، هنا، بصدد معرفة الجهة الشيعية التي ينطق باسمها الموقع، ولا معرفة فيما إذا كان كاتب المقال يرمز إلى قيادي في هذا الحزب الشيعي أو ذاك، أو أنه مواطن بسيط. ما تهمنا اللغة التي كتب بها المقال، الذي خاطب صاحبه، السيد رئيس الوزراء نوري المالكي بقوله: " إذا كان رئيس الوزراء جادا في إيجاد مخرج لهذه الأزمة فلا يحتاج إلى الضرب بيد من حديد، بل عليه أن يخلع الغتر عن رؤوس عصابة حزب الفضيلة ويعرضها إلى الضرب بالأحذية والنعل. لأن التهديد بالضرب بالحديد قابله أصحاب الغتر بتسيير (البطة) المتوحشة لتترك شرطيين أثنين يعملان بمكتب قائد الشرطة جثتين هامدتين في منطقة كوت الحجاج بمركز البصرة (ألا تذكرنا مقالات كهذه بتلك التي نشرتها صحيفة الثورة البعثية ضد المعارضة العراقية غب فشل انتفاضة آذار مباشرة بعد انتهاء حرب الخليج الثانية؟)".
ب- إثناء الاشتباكات الأخيرة بين أنصار السيد الصرخي الحسيني وبين القوات الحكومية، نشر موقع "براثا نيوز" على الانترنيت بتاريخ 15/8/2006،مقالا جاء فيه: "... أن محمود الصرخي الحسيني تحركه أجهزة أمنية مشبوهة على صلة وثيقة بالرافضين لعملية سقوط الصنم الهدامي". والشيء نفسه قيل بحق عشائر بني أسد الشيعية التي هاجمت مقر محافظة البصرة، قبل أيام، احتجاجا ضد اغتيال احد شيوخها.
ج- شن رئيس الوزراء العراقي السابق ورئيس حزب الدعوة الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي، الدكتور إبراهيم الجعفري حملة عنيفة ضد شركائه في قائمة الإتلاف العراقي، على خلفية الصراع السابق للفوز بمنصب رئيس الوزراء، وأتهمهم بعدم احترام الديمقراطية، إذ قال: "إن خلافات شخصية وليست سياسية وراء أخراجه من الحكم وهي نابعة من الطرف المقابل وتمت في طريقة تخالف الديمقراطية / صحيفة الحياة في 01/9/2006 "
د- شن موقع "النهرين نت" الشيعي المتطرف حملة شعواء ضد سماحة السيد مقتدى الصدر وأنصاره، في مقال حمل عنوان "انتهازية حزب الدعوة والصدريين"، وأطلق عليهم الموقع تسمية "الطائفة الصدرية المقتدائية"، وكأنهم من الفرق المارقة، وليسوا مسلمين شيعة مثل "أشقائهم" الشيعة الذين يشرفون على الموقع المذكور. وهكذا بتنا نسمع في الشارع الشيعي تسميات لفرق شيعية جديدة سيضطر، بسببها، محققو كتاب (فرق الشيعة) أن يعيدوا النظر في المقدمات الجديدة التي سيكتبونها لهذا الكتاب.
ح- في الوقت الذي يعلن فيه سماحة السيد عبد العزيز الحكيم، رئيس قائمة الإتلاف العراقي الموحد، أن "مجموعة الإتلاف موقفها موحد" إزاء الفيدرالية الشيعية، فان التفنيدات لأقواله تأتي من أكثر من جهة شيعية. فقد أكد السيد جابر خليفة عضو مجلس النواب عن حزب الفضيلة في كتلة الإتلاف العراقي الموحد، قبل يومين وليس أكثر، على: " أن التوقيت الحالي ليس مناسبا (طرح الفيدرالية على النقاش في الدورة الحالية لمجلس النواب) ولا نعتقد نحن في حزب الفضيلة بان التوقيت مناسب لإقرار مبدأ الفيدرالية برغم أنها حق من حقوق الشعب، فمن المبكر التفكير بها، مشيرا إلى إن كتلة الإتلاف لم تصل حتى الآن إلى رأي موحد في هذا الموضوع، وأكد أن الفضيلة ماض في رفضه المشروع في الوقت الحاضر/ صحيفة المدى البغدادية في 05/9/2006 /".
أما رئيس الوزراء السابق ورئيس حزب الدعوة الحاكم، الدكتور إبراهيم الجعفري فقد رأى إقامة فيدرالية عربية شيعية سنية/ صحيفة الحياة في 05/9/2006 /. أما عضو الإتلاف والمكتب السياسي لحزب الدعوة الحاكم، السيد وليد الحلي، فقد "استبعد وجود مساع لتطبيق الفيدرالية، نافيا سعي الإتلاف والحكومة لاتخاذ قرار كهذا/ صحيفة الحياة في 05/9/2006 ". ويرى السيد صاحب العامري الأمين العام لمؤسسة شهيد الله التابعة للتيار الصدري بأنه "يرفض فيدرالية الجنوب في ظل وجود المحتل، ويمكن أن يكون هناك فيدرالية إدارية أو نظام لامركزي في الحكم بعد خروج المحتل/ تقرير لوكالة أصوات العراق المستقلة بتاريخ 12/08/2006 /.
ثالثا/ على قادة الإتلاف، وخصوصا الداعين لتطبيق الفيدرالية الشيعية فورا، أن يتذكروا على الدوام مسألة مهمة، رغم أنها من باب البديهيات، وهي أن الولايات المتحدة لم تحتل العراق لنصرة طائفة ضد طائفة أخرى، أو قومية ضد قومية أخرى. الولايات المتحدة شنت الحرب لضمان مصالحها، أولا وأخيرا. وما يعتبره العراقيون قضايا مهمة ومصيرية، هو في العين الأميركية مجرد تفاصيل. فصانع القرار الأميركي الاستراتيجي عندما يضع خارطة العراق أمامه، فأنه يختصرها إلى أبار نفط وطرق مواصلات دولية، دون أن يعير أي أهمية لهذا القائد أو ذاك، أو لهذا المذهب الديني أو ذاك. ومن أولى شروط التفكير الاستراتيجي لأي دولة، خصوصا إذا كانت كالولايات المتحدة هو، أن لا تضع بيضها كله في سلة واحدة. هذا فعل الذين لا يروون أبعد من أرنبة انفهم.
نعم، أنها "لحظة حرجة"، ولكن كيف الخروج منها والاستفادة من دروسها؟
وفيما يخص تعامل الولايات المتحدة مع الأطراف العراقية، فأن تجربة السنوات الثلاث الماضيات علمتها أن العراقيين الشيعة هم أخر من تضع في سلتهم بيضها كله، لأنها ستخسره كله. فهذه التجربة علمت أميركا أن هناك أكثر من "رأس" شيعي واحد يريد أن يحمل وحده هذه السلة، وأن هناك عشرات الأيدي الشيعية التي تتناهب السلة. وأي مراقب للأحداث داخل العراق خلال السنوات الثلاث، يرى كيف تغيرت المعادلات والأصطفافات، وكيف اصطفت أميركا بعض الشخصيات العراقية حتى كاد العراقيون يعتبرونهم "منقذين"، ثم عادت فنأت بنفسها عنهم.
والجميع يتذكر التفاؤل العميق الذي طبع أذهان وعقول القادة العراقيين الشيعة، بعد أيام من انتهاء الحرب، وكيف استمر ذاك التفاؤل، وكيف أن ذاك التفاؤل تغير، في هذه الأيام، إلى نوع من القلق والمخاوف.
ويكفي أن يتمعن المراقب في مغزى ونتائج الزيارة "الخاصة" التي قام بها، أخيرا، نائب رئيس الجمهورية والشخصية الثانية في المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، الأستاذ عادل عبد المهدي، للولايات المتحدة. فقد نشرت صحيفة الواشنطن بوست في عددها الصادر في 04/9/2006، عن الأستاذ عبد المهدي قوله: "إنها لحظة حرجة نريد فيها التأكد من أننا نفهم بشكل كامل ما يجري حولنا ونريد معرفة الإستراتيجية الحقيقية الأميركية في العراق... ولهذا نطالب أن يكون من الواضح تماما لدينا ما إذا كانت هناك خطة بديلة أم لا. وأضاف عبد المهدي انه عندما يقرأ الصحف الأميركية تتملكه الحيرة والتشوش ويزداد قلقه أكثر عندما تتعالى الصيحات المطالبة بسرعة الانسحاب الأميركي من العراق... وأضاف بان الإصلاح الدستوري ممكن حيث تولى الشيعة والأكراد والسنة كتابته قبل عام وهو بانتظار مجموعة تعديلات ومقترحات من قبل السنة عليه/ نقلا عن صحيفة الصباح البغدادية في05/9/ 2006 /".
إن كلاما كهذا، محملا بالقلق والحيرة واللاثقة، ما كان ليرد على لسان قائد في الائتلاف وخصوصا من المجلس الأعلى، قبل ثلاث سنوات، ولا حتى قبل سنة، بل ولا حتى قبل ستة أشهر. وهو كلام جاد و"جديد" يجب التوقف عنده والتمعن فيه. وهذه المخاوف التي عبر عنها الأستاذ عبد المهدي، الذي يعتبر منظر المجلس الأعلى للثورة الإسلامية والشخصية القيادية الثانية فيه، تتضاعف إذا أضفنا إليها زيارة وزير الخارجية الأميركي الأسبق جيمس بيكر إلى بغداد، وكذلك ما تتداوله، الآن، بعض الأوساط السياسية عن وجود نية لتشكيل حكومة إنقاذ وطني تخلف حكومة المالكي.
الائتلاف بحاجة إلى إجراء مراجعة شاملة وديمقراطية
ألا تستوجب هذه الوقائع والمستجدات المتلاحقة أن يعيد زعماء العراقيين الشيعة، في الإتلاف العراقي الحاكم وفي غيره، أن يعيدوا النظر في مواقفهم وسياساتهم السابقة التي خبروها خلال السنوات الثلاث الماضيات؟
نحن من جانبنا، نعتقد أن الإتلاف بحاجة إلى ثورة ديمقراطية ثقافية شاملة، وأن الزعماء العراقيين الشيعة بحاجة أن يتعلموا فن الحكم من أشقائهم ومواطنيهم العراقيين السنة.
فالمفارقة المدهشة هي، أن الزعماء العراقيين السنة تصرفوا وما زالوا يتصرفون كرجال دولة من الطراز الأول بينما هم في المعارضة: يشدون عندما يروون في ذلك ضرورة فإذا وجدوا أن حبل الأمور انقطع أو كاد أرخوا عنانه، يقاتلون قوات الاحتلال حتى لتظن أنهم وحدهم الذين خاضوا ثورة العشرين، فإذا وجدوا أن مصلحة البلاد تقتضي عدم رحيل هذه القوات عادوا فتصرفوا بواقعية وطالبوا بعدم رحيلها الفوري، وهكذا ( في المقابلة التي أجرتها معه صحيفة المدى البغدادية في 02/9/2006، قال نائب رئيس الجمهورية وزعيم الحزب الإسلامي، الأستاذ طارق الهاشمي، بخصوص رحيل القوات الأميركية: "... نحن واقعيون ولسنا خياليين. وأنا رجل واقعي، لا أريد التضحية بأرواح أبناء العراق من خلال طلبات عشوائية واعتباطية تصر على رحيل هذه القوات بدون أن يكون لدينا بديلا متكافئا يستطيع أن يملأ الفراغ الأمني الذي يحدثه خروج تلك القوات).
إما مواطنيهم وأشقائهم ونظرائهم الشيعة فأنهم ما زالوا يتصرفون بعقلية المعارضة رغم أنهم يقودون البلاد ويتبأوون مراكز القرار منذ ثلاث سنوات: معاداة الدولة ومهاجمة مقراتها رغم أنهم من يحكم هذه الدولة، إصرار يصل حد اللجاجة على تحقيق مطالبهم فورا وكأنهم على يقين أن الدولة ستفلت من أياديهم هذه الليلة، هدر لا يتوقف للجهد العام، وتشتيت طاقات الناس في استعراضات طقوسية لها أول وليس لها أخر وكأن العراقيين الشيعة مجموعة من الهنود الحمر ستنقرض غدا أو بعد غد وعليهم تأكيد وجودهم أمام الآخرين لكي يثبتوا أنهم الأكثرية، لجاجة في طرح الفيدرالية الشيعية دون تقديم المزيد من الحجج المتماسكة لتبريرها. فمرة يقال أن الفيدرالية الشيعية ضرورية "لأن العراق بلد متعدد الأعراق"، ومرة ثانية يقال أنها ضرورية بسبب "التعددية الاجتماعية والدينية والقومية الموجودة في العراق"، ومرة ثالثة يقال لم يسمح للكورد في إقامة فيدرالية ولا يسمح بها للعرب الشيعة، ومرة رابعة تتم المطالبة بإقامة "فيدرالية عربية تضم السنة والشيعة"، ومرة خامسة يقال "باستبعاد وجود مساع لتطبيق الفدرالية".
وهكذا، تحولت مسألة الفيدرالية، في حمى الصراعات السياسية، إلى دائرة مغلقة أدخل زعماء العراقيين الشيعة أنفسهم داخلها، ولا يعرفون كيف يخرجون منها. ولكن المخرج قدمه أخيرا زعماء العشائر العراقية الذين اجتمعوا في أطار مبادرة المصالحة، وقدمه الأمين العام للأمم المتحدة. والطرفان لم يرفضا الفيدرالية وإنما طالبا بتأجيل العمل فيها.
وهذا حل معقول. فالجميع في العراق بحاجة إلى التقاط الأنفاس، والعمل الجاد لحقن دماء الناس، وتوفير الحد الأدنى من الخدمات، وإعادة ما انقطع من لحمة بين الطوائف، وفرض هيبة الدولة، وتطبيق القانون.
وفيما يخص الشارع الشيعي المراد تطبيق الفيدرالية فيه، فأن المهمات الرئيسية والعاجلة أمام الإتلاف، قبل تطبيق الفيدرالية، هي "إعادة تطبيع" الأوضاع فيه، عن طريق إشاعة الممارسة الديمقراطية الحقيقية، والسعي الجاد والمخلص لضمان الحريات الخاصة والعامة التي كفلها الدستور، والحد من غلواء المليشيات المسلحة التي صيرت حياة أكثرية السكان في هذه المناطق إلى جحيم لا يطاق، وجعلت الناس "مهانون ومذلون"، لا فرص عمل عندهم فيشبعون، ولا حريات ديمقراطية يتمتعون بها فيأمنون.
يتبع: اجتثاث البعث