تعليم ما قبل وما بعد الحقبة الجهيمانية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
أنتمي للجيل الذي أنهى الدراسة الثانوية مع نهاية العقد الثامن من القرن الميلادي المنصرم، وبالتحديد عام 1978 ميلادية. كانت المناهج مختلفة بشكل جذري عما هي عليه الآن في المدارس الحكومية السعودية (لم يكن هناك مدارس خاصة آنذاك، على الأقل في منطقة عسير التي أنتمي إليها ودرست فيها)، وخاصة المواد الدينية، وعلى رأسها القران الكريم. كان القران يدرس في المرحلة الإبتدائية فقط وبشكل خفيفmdash;قراءة فقط-- ، مضاف إليه مادة التوحيد، والتي كانت عبارة عن بضع صفحات عن الثوابت الدينية في الإسلام، بالإضافة إلى مادتي الفقه والتجويد، وبكم لا يطغى على أساسيات التعليم الأخرى مثل الرياضيات والعلوم والأدب. ويتوقف تدريس القرآن مع نهاية المرحلة الإبتدائية. وكان هناك دروس قرانية لمن أراد في مسجد الحي بعد صلاة العصر يقدمها رجل أفغاني، أعتقد بأنه أول أفغاني وطأت رجلاه ارض الجنوب.
تضاف مادة التفسير في المرحلة المتوسطة وحتى نهاية المرحلة الثانوية، بل أذكر أن المواد الدينية في ما كان يعرف بإسم القسم العلمي لم تكن تتجاوز ثلاثين صفحة في مجملها. وفي المرحلة الجامعية كان هناك مادة واحدة فقط إسمها "الدراسات الإسلامية"، بل انها كانت إختيارية لبعض التخصصات. هذا بالإضافة إلى المناهج اللاصفية، حيث كانت النشاط المسرحي في أوج نشاطه، خاصة في المرحلة الثانوية، وبعيدا عن مواضيع الجهاد وكرامات الشهداء وبطولات أفغانستان وعذاب القبر وغيرها، بل كانت همومنا المحلية والدراسية هي الأساس في معظم أنشطتنا اللاصفية، وكان هناك مهرجان سنوي كبير لمدارس المنطقة تلعب الفرقة الموسيقية العسكرية الدور الرئيسي في معظم فقراته. ولم يكن أحد من المدرسين ملتحيا ماعدا مدرس الدين ووكيل المدرسة. وكنا نلبس الشورت- من فوق الركبة- أثناء حصة الرياضة دون أي تحفظ.
ثم ظهر جهيمان، وأعدم بعد ظهوره بأسابيع، إلا أن دعوته وأفكاره تشكلت بسرعة البرق.
فبعد أقل من عشر سنوات كانت البلاد تعج بمئات بل الآف مدارس تحفيظ القران، وكان أحد شروط القبول في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، المعقل الأول لهذا الفكر، هو حفظ ثلاثة أجزاء من القرآن الكريم.(تم إلغاء شرط القبول هذا بعد بضع سنوات وقد يكون السبب ضعف مستوى الطلاب المتقدمين، فلقد شاهدت بأم عيني أثناء تدريسي في تلك الجامعة العجيبة الواسطة تلعب دورها السحري من قبل ممتحنين ملتحين حيث يتم قبول طلاب بالكاد يحفظون أسماؤهم، ناهيك عن ثلاثة أجزاء من القرآن).
وبالرغم من أن الثورة الخمينية تزامنت مع إحتلال جهيمان وزمرته للحرم المكي (كلاهما عام 1979 ميلادية)، إلا أننا لم نسمع أي كلمات نابية عن أخواننا في الوطن من الشيعة إلا بعد أن بدأ الفكر المتطرف يتأسس بشكل حقيقي داخل جامعاتنا ومدارسنا ومساجدنا في النصف الثاني من الثمانينات، حيث بلغت التطرف ذروته، واختفت بشكل شبه كامل أي معالم اخرى توحي بالتعارض مع هذا التيار العارم. واستمرت مسيرة التطرف، بل وتم تصديرها، ليس فقط الى دول إسلامية أخرى، بل إلى أعالي البحار، حتى أن جامعة الإمام افتتحت لها فرعا في واشنطن، بالإضافة إلى فروعها الأخرى خارج الوطن، في الإمارات العربية المتحدة وموريتانيا واندونيسيا واليابان. وتحولت الجامعات السعودية الأخرى وعلى رأسها الجامعة الأم، جامعة الملك سعود، إلى جامعات إمام أخرى، تم أسلمة العلوم فيها والأداب بما في ذلك الأدب الإنجليزي، على يد أساتذة سعوديين حصل معظهم على شهادات الدكتوراه من جامعات غربية. وتحولت مدارس التعليم العام بشكل شبه كامل إلى مدارس تحفيظ قرآن، حيث أبتكر، على سبيل المثال، مسار الشريعة في المرحلة الثانوية بالإضافة إلى المسارين الموجودين أصلا، العلمي والأدبي، والتي كثفت فيهما الجرعات الدينية بشكل كبير بما فيها القران الذي أصبح يدرس في كل المراحل. وأصبح الأغلبية العظمى من المعلمين منتمين للتيار السياسي الإسلامي المتطرف الذي يقف وراء هذه التحولات.
ومع غزو صدام للكويت بدأت تظهر بعض نوايا هذا التيار بوضوح أكثر، حيث عارضوا بشدة وأمام الملأ، الإستعانة بقوى أجنبية للدفاع عن الوطن، ثم استمرت بل إزدادت حدة توجهاتهم، ومعها أحكموا قبضتهم على النظام التعليمي بشكل مخيف، وانتقلوا في ما تبقى من التسعينات لمرحلة استخدام العنف داخل المملكة العربية السعودية. كل هذا والكل غافل أو مستغفل عن ما يحدث داخل مدارسنا وجامعاتنا.
ووقعت غزوة مانهاتن، وعندها بدأ العم سام ينبش في نظامنا التعليمي، حيث كان غافلا هو الآخر عن التحولات التي كانت تحدث لحلفائه في الحرب الأفغانية السوفيتية. لقد وصلوا إلى عقر داره أخيرا، وأصبح الرفيق عدوا. ونتيجة لضغط خارجي كبير لإصلاح النظام التعليمي، تجري محاولات خجولة للتغيير لم تطل حتى الآن غير قشور الكتب المدرسية، فما زال البعبع يمسك بزمام الأمور إلى حد كبير داخل أروقة النظام التعليمي برمته، ويرافق هذه المحاولات نقاش في الصحافة المحلية حول المناهج، تبدو الغلبة فيها للتيار المتطرف.
المناهج الدراسية، بالرغم من أهميتها، لا تشكل إلا جزءأ صغيرا مما يجب مواجهته بجدية وحزم ونظرة مستقبلية بعيدة عن الأوهام وخداع الذات. وإذا استمرت مسيرة الإصلاح على هذه الوتيرة، فنحن - في أحسن الأحوال- بحاجة إلى نفس المسافة الزمنية للوصول إلى عام 1978 مرة اخرى. وعندها يكون العالم من حولنا قد وصل إلى سنة 2034.
أكاديمي سعودي