هل العراقيين أكثر عنفا وتطرفا من غيرهم؟!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
في سوسيولوجيا العنف في العراق
منذ قرون طويلة كان العراقيون ومازالوا ضحايا الاستبداد والقمع والقهر بحيث اصبح العنف ارثا ملازما لهم، ا بتداءا من حكم نبوخذنصر، مرورا بمأساة كربلاء، الى طغيان الحجاج واستبداد المنصور والسفاح، وهجوم المغول واستباحتهم لبغداد، والصراع الدامي بين العثمانيين والصفويين لاحتلال العراق، وحتى اشكال الاستبداد والقهر و الحروب والحصار والمقابر الجماعية ٍالتي خلفها نظام صدام حسين المزاح، وانتهاء بالاحتلال الغاشم وما يفرزه من كوارث ومحن وصراعات وانقسامات اثنية ودينية وطائفية والتي تهدد حاضر العراق ومستقبله وكذلك الاعمال الارهابية البشعة وايديولوجيتهم التكفيرية، التي تدمر وتخرب كل شيء، وبخاصة المدنيين العزل من الاطفال والنساء والشيوخ، بحيث اصبح العراق يعاني اليوم من ردة حضارية ارجعتة عقودا عديدة الى الوراء.
ان استمرار الظلم وسفك الدماء، الذي هو دليل على استمرار العنف في العراق، خلف وراءه تركة ثقيلة من الكوارث والالآم والاحزان التي اثرت وتؤثر على ثقافة وشخصية الفرد العراقي بحيث جعلته اكثر ميلا لرد العنف بعنف مضاد، حسب الدوافع والمصالح والاهداف. فهل ان هذا الارث التاريخي المدمى جعل البعض يصف العراقيين بانهم اكثر تطرفا وعنفا من غيرهم حتى قيل انهم "أهل الشقاق والنفاق"!؟
وعلى الرغم من اختلاف اراء علماء الاجتماع في تفسير ظاهرة العنف ودوافعه فانهم متفقون على انها ظاهرة ثقافية واجتماعية ونفسية. فهي آلية من آليات الدفاع عن الذات ضد المخاطر التي تجابهها ومن اجل البقاء على الحياة. كما ان هذه الآلية هي احدى الطاقات الغريزية الكامنة عند الكائن الحي، التي تستيقظ وتنشط في حالات دفاعية وهجومية ويستوي فيها الانسان والحيوان.
كما يتفق علماء الاجتماع على ان الانسان ابن بيئته وعوائده، وانه "مدني بالطبع" يتعاون ويتنافس ويتصارع مع الآخرين. واذا ما واجه خطرا فانه يميل الى استخدام اساليب دفاعية مختلفة بحسب مستوى تطوره الثقافي والاجتماعي والحضاري. وقد يتطور الميل الى العنف الى نزعة عدوانية لاشباع مصالح انانية خاصة.
ومن الناحية السوسيولوجية، فالعنف انما يمثل عودة الانسان الى حالته البدائية الاولى، اذ ان احدى الخصائص الاساسية التي تميز كل حضارة عن غيرها هي الطريقة التي تستطيع بها تنظيم السلوك العدواني، كطاقة غريزية كامنة، وتهذيبه عن طريق توجيهه بصورة عقلانية رشيدة وكذلك تعليم افراد المجتمع كيف ومتى يكبحون جماح عدوانيتهم.
ان اشكالية العنف تتوقف على شرعية استخدامه باعتباره عملا لم ينبثق عن ظروف غير طبيعية وانما عن اعمال استثنائية حولته الظروف غير الطبيعية الى قناة للتعبير الحاد والاشباع التلقائي للشعور الغاضب المنفعل واللاعقلاني، الذي لا يتقيد بقواعد وقيم ومعايير اخلاقية، وانما يكتسب قوته وفعاليته، كونه فعل غير مقنن بقواعد ثابتة غير مشروعة ولا انسانية، هدفها التخلص من الآخر المختلف بكل الوسائل والادوات، كالقتل والابادة الجسدية والاغتصاب واشاعة الفوضى والتدمير.
واذا كان العنف سلوكا اجتماعيا مكتسبا عاما وشاملا عند كل الشعوب ويمكن ملاحظته وقياسه. فهل ان مظاهر العنف في المجتمع العراقي اكثر بروزا من غيره؟ وما هي الاسباب والدوافع التي تقف وراءه؟ وهل ان الظروف الموضوعية والذاتية التي تحيط به، وكذلك نمط الثقافة وسمات الشخصية الاجتماعية والنفسية لها دور في ذلك ؟!
ان الاجابة على هذه التساؤلات تحيلنا الى فهم وتفكيك وتحليل الظروف الموضوعية والذاتية وكذلك البنية الفكرية والمجتمعية التي ساهمت بتشكيلها والبحث عن الدوافع الظاهرة والخفية التي تختفي وراءها، واخضاعها لمنهج بحث سوسيو- ثقافي.
فمن المعروف ان العراق كان مهد اقدم الحضارات الانسانية التي قامت في سومر واكد وبابل واشور، كما كان مركزا للحضارة العربية- الاسلامية التي ازدهرت في الكوفة وبغداد. غير ان حدوث قطيعات حضارية عدة كانت فصلته عن جذوره بعد سقوط بابل على يد الروم ثم على يد الفرس. وبالكاد يوسس الاسلام دولة ومدنية وحضارة مزدهرة في بغداد حتى تم اسقاطها على يد هولاكو. مع ان التدهور والانحطاط والركود الحضاري بدأ بدخول العسكر البويهي ثم السلجوقي الى العراق واجهاض الحركة العلمية والفلسفية التنويرية للعصر الاسلامي الوسيط التي قام بها علماء الكلام وبخاصة المعتزلة، مما شكل قطيعة حضارية طويلة اخرى، دخلت الى العراق خلالها اثنيات وطوائف ولغات مختلفة وحدثت حروب طاحنة واوبئة وكوارث ومجاعات مستمرة سهلت دخول هجرات كاسحة وجيوش غازية ومجموعات مرتزقة وموجات بدوية مستمرة وذلك لضعف الدولة المركزية وعدم وجود حدود وحواجز طبيعية وسياسية في العراق.
لقد سببت تلك الاحداث تغيرات بنيوية عميقة الاثر في التركيبة السكانية والقوى المنتجة، رافقها تدهور الحركة الفكرية وتفكك النسيج الاجتماعي والاخلاقي واصبح العراق مسرحا لصراعات ومنازعات وحروب دموية مستمرة. كما ان ضعف الدولة المركزية و تعدد وتنوع المكونات الاثنية والدينية والقبلية والطائفية ساعد على استمرار روح العصبية القبلية ونزعة التغالب، من غزو ونهب وثأر، ونشوء سلطات محلية- امارات ومشيخات ورؤوساء طوائف ومحلات- ليحافظ كل من الحاكم والمحكوم على موقعه، بحيث اصبحت العصبية القبلية كنقيض للدولة الحديثة واستمرت كبنية مؤسسية سلبية وملتبسة حتى اليوم. وهذا ما يفسر ضعف الانتماء الى الارض والوطن وبالتالي الى الدولة وعدم تولد قوة تماسك وتضامن اجتماعي مدني كاف وعلى المدى الطويل، وهو ما يجعلها بحاجة الى حماية من خارجها، اي من عصبية قبلية او طائفية او قوة اجنبية، الى جانب ضعف الانتماء الى الارض الذي ساعد على ضعف الوازع الوطني والديني والاخلاقي وانقسام الهوية الوطنية وتمزقها.
كما ساعدت النزعة الابوية - البطريركية على الميل نحو العنف باشكاله الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وعلى ضعف الشخصية وازدواجيتها وخضوعها، وبالتالي ضعف العمل الجمعي المشترك وعدم الشعور بالمسؤولية مما جعل بنية الثقافة والشخصية مزدوجة ومتعارضة ومتناشزة في مواقفها ومترددة في اهدافها ومتذبذبة في تطلعاتها وتكشف عن عمق حضاري، وفي ذات الوقت، عن رواسب بدوية كامنة. واذا اختلفت بعض اوجه الثقافة البدوية التغالبية وراء مظاهر التمدن والتحديث، فان الروابط والعصبيات والصراعات الاثنية والدينية والطائفية تسبب في كثير من الاحيان عنفا وعنفا مضادا مغلفا بشعارات حضرية.
ان هذه الذهنية التعارضية جعلت العراقي قلقا غير مستقر على حال وليس عنده حل وسط، وهو ما يفسر والى حد بعيد المزاج الانفعالي المتقلب والعاطفي السريع التأثر والتأثير المرتهن بتعارضات زمنية وتزامنية تظهره في وقت واحد منقسما على ذاته، متسلطا حينا وخاضعا حينا آخر. واذا ضمرت بعض مظاهرها اليوم، لكنها سرعان ما تنشط حين تجد لها فرصة مناسبة، لانها لا تنسجم مع الحياة الحضرية المستقرة، ولا مع القيم الاسلامية المتسامحة ولا مع القوانين العرفية والوضعية. كما ان الذهنية التسلطية، الفردية والجمعية، تزيد من التخريب الاجتماعي والنفسي وتشويه بنية الشخصية.
والى جانب استشراء العنف والقهر وعدم التسامح، الذي يظهر في ظروب من القمع الذي يمارس جسديا واجتماعيا ونفسيا وبصورة مخفية ومسكوت عنها، او حين يمارس تحت شعارات دينية واجتماعية واخلاقية، وبخاصة ما يمس المرأة والضعيف والقاصر والمعوق، او الاتهام بالباطل والشتم واطالة الاعراض والكفر بالمقدسات، الى جانب العنف الاقتصادي والسياسي والعنف الجمعي الغوغائي كما يظهر في حالات القتل و السحل والتنكيل والاغتصاب والثأر والانتقام والفرهود وغيرها.
والى جانب عوامل التخلف والركود الاجتماعي والاقتصادي والسياسي و النزعة الاستبدادية والميل الى العنف والانتقام يشكل النظام الابوي-الذكوري بنية اجتماعية وثقافية وسايكولوجية تسلطية تكون علاقة هرمية تقوم على تسلط الرجل على المرأة والاب على الام والاخ على الاخت، وينتقل التسلط من العائلة الى العشيرة ومن الحاكم الى المحكومين، حتى يصل الى أعلى هرم السلطة حيث يتحول الرئيس الى "الأب القائد " او " الزعيم "، الذي يجب ان يخضع له الجميع. كما يقوم النظام الابوي على صلة القربى والدم والعصبية القبلية ونزعة التغالب البدوية، التي تقوي الميل نحو العنف والاستبداد، وتسبب في ذات الوقت ضعف الشخصية وتضخم الانا وبالتالي ضعف العمل الجمعي المشترك وعدم الشعور بالمسؤولية وازدواج الشخصية وتناشزها، كما يراها الدكتورعلي الوردي، كما يعود ذلك الى طرق التنشئة الاجتماعية وطرق التربية والتعليم التقليدية التي تقوم على الخوف والتلقين والحفظ والتطويع والتطبيع، التي تؤدي الى ضعف الشخصية وازدواجيتها.
ان استلاب الثقافة واغتراب الشخصية، التي هي شكل من اشكال انكسار الذات المهانة، تجعل من الفرد عاجزا وغريبا عن مجتمعه ووطنه، لانه يشعر بان المجتمع الذي يعيش فيه لا يستحق منه اية تضحية. بحيث يفقد القدرة على تحمل المسؤولية ويزداد الميل لدية نحو العدوانية واتخاذ الشك والريبة والحذر، وبالتالي تنامي هاجس الخوف المستمر من الانا ومن الآخر.
ان التركة الثقيلة التي خلفها النظام الشمولي البائد و تراكم الظلم والاستبداد والقهر جعل العراق فريسة للاحتلال وانعدام الامن والفوضى والدمار والصراع على المصالح والمناصب والنفوذ واستشراء الفساد الاداري والمالي والاقتصادي كل ذلك كون مناخا ملائما لمزيد من العنف والارهاب، الذي اخذ يدمر الوجود الاجتماعي والحضاري ويعمل على التخلص من الاخر المختلف بكل الوسائل والادوات واشاعة ثقافة العنف والارهاب ورفعها الى مستوى المقدس بأسم الدين وتبريره ايديولوجيا بكونه جهادا في سبيل الله.
ومع ذلك فلا يمكن تعميم هذه الظاهرة على جميع العراقيين، فما زال هناك ملايين العراقيين المخلصين لوطنهم، الذين ما زالت اصواتهم غير مسموعة، وسط الفوضى والاحتلال والعنف والارهاب.
ان اعادة بناء المجتمع العراقي المنقسم على ذاته وامتلاك الارادة لاعادة الوعي الاجتماعي والوحدة الوطنية من جديد يحتاج الىاعادة هيبة الدولة واخضاع جميع التنظيمات المسلحة لسلطتها المركزية وكذلك دعم القانون و مؤسسات المجتمع المدني، وهو ما يؤمن للمواطن قدرا من الحرية والعدالة واحترام حقوق الانسان. وأول خطوة ينبغي اتخاذها، في هذه المرحلة الحرجة والمعقدة من تاريخ العراق الحديث، هي تجنب ثقافة العنف والاحتراب الطائفي والالتزام بثقافة التسامح والتواصل والحوار العقلاني، فالعنف لا يمثل فضيلة، بقدر ما يمثل تعديا على حقوق الاخر المختلف. واذا كان العنف فضيلة الانسان القوي، فالتسامح لا يمثل سوى ضعف الانسان الذي تعوزه الشجاعة لأن يكون متسامحا، وان قوة التسامح تكمن في الحقيقة في مبدأ ان تعيش وتترك الاخر يعيش بسلام.