كتَّاب إيلاف

العقل العربي في الذكرى الخامسة للكارثة

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

-1-
النكبات الكبرى والكوارث الفظيعة مجال كبير ومناسبة عظيمة لكي تجلس الأمم مع أنفسها وتحاسب وتنتقد ذاتها، وتتبين ما كسبت وماذا ربحت من تلك النكبة أو من هذه الكارثة. ولقد كانت كارثة الحادي عشر من سبتمبر 2001 قبل خمس سنوات، مناسبة للأمة العربية والإسلامية لكي تقف هذا الموقف النقدي الذاتي لكي تخرج من مثل هذه الكارثة بالعبر والخبر، كما يقول ابن خلدون، باعتبار أن الأمة العربية والإسلامية كانت العنصر الفعال في هذه الكارثة الإنسانية الفظيعة، وأنها كانت الفاعل والجاعل والعامل.

-2-

إن كارثة الحادي عشر من سبتمبر 2001 ، لم تكن كارثة أمريكية بقدر ما كانت كارثة إنسانية عالمية "مُعولمة" شاملة وعامة بالمعنى الحقيقي والواقعي، وليس بالمعنى المجازي. فضحايا هذه الكارثة لم يكونوا من الأمريكيين فقط، ولم يكونوا من الأوروبيين فقط، ولم يكونوا من المسلمين فقط، ولم يكونوا من المسيحيين فقط، ولم يكونوا بيضاً فقط، بل كانوا من كل ديانات وألوان وأجناس الأرض التي كانت تضمهم نيويورك كمدينة عالمية، وليست كمدينة أمريكية فقط. وكان من بين ضحايا هذه الكارثة مسلمون من بنغلادش، ومن الباكستان، ومن ماليزيا، ومن إندونيسيا، ومن تركيا، ومن مصر، ومن لبنان. وكان من بين هذه الضحايا مسيحيون من الشمال: من أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والدانمارك، وبلجيكا، وألمانيا، والسويد، وسويسرا، وإسبانيا، وايرلندا، وكندا. ومن الجنوب: البرازيل، والبرتغال، وتشيلي، وكولومبيا، والمكسيك، والسلفـادور، وفنـزويلا، وأورغواي. وكان من بين الضحايا بوذيون من اليابان، والصين، وكوريا، وتايوان، والفلبين. وكان من بين الضحايا بيض، وسود، وحمر، وصفر. إذن، فهذه الكارثة كانت ضد الإنسانية وقيمها جمعاء، ولم تكن ضد القيم الأمريكية فقط. وهذا هو السر وراء اختيار برجي نيويورك لتدميرهما.

-3-

إن هذه الكارثة كانت كارثة فظيعة ومروّعة وشنيعة، وهي بمثابة اختبار جديد للعقل الديني الإسلامي وللعقل السياسي العربي. والجدير بالاهتمام هو أن نعرف كيف فكَّر العقل العربي والإسلامي بهذه الكارثة ونتائجها، وكيف حللها، وهل استفاد منها أم لا؟ كذلك فإن هذه الكارثة، كانت امتحاناً جديداً وعسيراً للعقل السياسي العربي، وكان مطلوباً من هذا العقل أن يقول كلمته الواضحة والصريحة فيها.

فهل استطاع العقل العربي بعد مضي نصف قرن على "عصر التنوير" العربي الذي ابتدأ في مطلع القرن العشرين أن يُغيّر من بياناته الخطابية والإنشائية والعاطفية المتعصبة وانتصاراته البلاغية، ويتخلّى عن التعالي والمكابرة والنرجسية، ويحتكم إلى الواقعية والمتغيرات الدولية الجديدة، ولا ينظر إلى الكوارث والأحداث وكأنه يعيش وحده في هذا العالم، دون أي اعتبار للآخر؟

-4-

إن العقل العربي الذي عالج وتصدّى لهذه الكارثة، هو العقل العربي نفسه الذي فشل في المواجهة مع الغرب على مدار القرن العشرين والذي خاض عدة حروب مع إسرائيل خسرها كلها تقريباً. وهو العقل العربي نفسه الذي فشل فشلاً ذريعاً في مسألة التحديث والتنمية وإقامة دعائم الدولة القوية العلمانية والعلمية والعقلانية. وهو نفسه العقل العربي الذي لم يُحقق قدراً يُذكر من الديمقراطية بعد مضي ما يقارب القرن من الزمان، منذ أن رحل عن أرضه المستعمرون العثمانيون. وهو العقل العربي نفسه الذي صنع الحكّام المستبدين والذين يرى الغرب أنهم أفضل بكثير من حكام اللحى والعمائم (طالبان) على حد تعبير محمد رصاص ، في مقاله (11 أيلول فصاعداً، المحطة الثالثة للحماقة السياسية العربية، "النهار"، 15/10/2001)، وأرحم منهم وأكثر تفهماً وأكثر عقلانية، بحيث لا يصل تحريم المنكرات في مجتمعاتهم إلى عشرين منكَراً تافهاً، كما أصبحت في عهد "طالبان" مثلاً.

لقد تغيّر العالم وتغيّر عقل العالم بعد هذه الكارثة، ولم يتغيّر العقل العربي. فقد ظل العقل العربي محافظاً على ثوابته "المكينة" السابقة بعد هذه الكارثة، والتي تتلخص في :

1- عدم تأييد الغزو الأجنبي لأراضٍ عربية أو إسلامية بغض النظر عن السبب.

2- عدم الفصل بين النقمة على الحكومات والانتقام من الشعوب.

3- اعتبار النقمة على الحكومات من قبل الغرب انتقاماً من الشعوب.

4- التشهير بالغطرسة والهيمنة الأمريكية.

5- المناداة بقوة عسكرية عربية/إسلامية بديلة للقيام بفضِّ المنازعات الإقليمية بدلاً من الغرب.

6- الإيمان بوجود صراع حقيقي بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية.

7- الاعتقاد بأن الغرب يسعى جاداً إلى هدم الإسلام، وعلينا جميعاً الوقوف بوجه الغرب للحيلولة دون ذلك.

8- المكابرة بالمحسوس والواقع والاعتقاد بالخرافات السياسية. وكانت من مظاهر هذه المكابرة وهذه الخرافات السياسية التي صدّقها العقل العربي المعطوب، بعد هذه الكارثة ، القول أن "طالبان" ومَنْ معها مِن بعض "العُربان الأفغان"، قاموا بإنجازات لم تسبقها إليها الأنظمة الأفغانية السابقة. والقول أن "طالبان" ومَنْ معها مِن بعض "العُربان الأفغان" قد قاموا بتطبيق الشريعة الإسلامية النقية والصحيحة في أفغانستان كما لم يسبق لها أن طُبقت منذ نهاية عهد الخلفاء الراشدين إلى الآن. والقول أن "طالبان" ومَنْ معها مِن بعض "العُربان الأفغان" كانـوا من أطهر الأنظمة السياسية الإسلامية والعربية الموجودة على ساحة العالم العربي والإسلامي الآن. والقول أن "طالبان" ومَنْ معها مِن بعض "العُربان الأفغان"، قادرون على هزيمة أية إمبراطورية تقوم بقتالهم كما سبق وتمَّت هزيمة الإمبراطورية البريطانية والإمبراطورية السوفياتية من قبل. وكان رد العقلاء من العرب، ومنهم عبد الله المدني أن " الخرافة سقطت، لكن المكابرة قائمة" (جريدة "الخليج"، 11/10/2001).

-5-

إن الذين تظاهروا في الشوارع العربية أمام كاميرات التلفزيون، دون خجل أو عقل، عشية هذه الكارثة وفرحاً بها وانتصاراً بوقوعها، هم جزء من العقل العربي السائد الآن، مهما حاولنا تبرير ذلك أو نفيه في بعض الأحيان. وكان لدى العقلاء الأمريكيين الحق عندما قالوا لنا: هل نبتهج في الشوارع عندما يُقتل الفلسطينيون أو غيرهم من المدنيين العرب، كلا. فلكم كل الحق أن تنتقدوا سياساتنا، لكن ابتهاجكم السمج، لا يساعدنا إطلاقاً على التخلص من السياسات التي تنتقدونها بقوة وبأعلى أصواتكم، كما قال إدوارد ووكر رئيس معهد الشرق الأوسط في واشنطن، في مقاله (رسالة مفتوحة إلى أصدقائي العرب، "الحياة"، 14/9/2001).
فهل أفلس العقل العربي في معالجة مشاكله السياسية، ولم يعد لديه من سلاح يستعمله إلا سلاح الفقراء وسلاح الضعفاء، وهو ما أُطلق عليه "إرهاب الفقراء" أو "إرهاب الضعفاء"، كمسوّغ زائف لهذه الكارثة ؟ ولكن الضعف هنا ليس القوة إلا من باب الاستعارة كما قال عزمي بشارة في (كاميكاز بداية القرن، "الحياة"، 17/9/2001). ولا يمكن تحويل القوة إلى ضعف، أو الضعف إلى قوة من خلال عمليات إرهابية على نحو ما جرى في الحادي عشر من سبتمبر 2001. فالقوة لا تتحول إلى ضعف إلا بإزالة الأسباب التي صنعت القوة. والضعف لا يتحول إلى قوة إلا بالأخذ بالأسباب التي صنعت القوة.

-6-

إن كثيراً من الحقائق الأولية لهذه الكارثة، قد قفز عليها كثير من الكُتّاب والمحللين العرب، ليقدموا لنا تحليلات قريبة من الخرافة. وأن جملة التحليلات العربية كان يتأرجح بين النـزعة العاطفية التي تحجب العقل من ناحية، وبين الخضوع لـ "نظرية المؤامرة" و "نظرية الفخ" و "نظرية صدام الحضارات" وغيرها من النظريات الهلامية من ناحية أخرى. "وتتحول المناقشات إلى مجادلات شخصية عقيمة، لا تحرم الجمهور من التنوير والوعي فحسب، بل تشحنه إلى الاتجاه المضاد للعقل والمنطق والفهم العلمي للأحداث" كما قال محمد الرميحي في (الكارثة الأمريكية والإعلام العربي، "الحياة"، 3/10/2001).

إن العقل العربي مولع بـ "انتصارات البلاغة"، و "سحر البيان". بل إن معجزة العقل العربي الكبرى هي "سحر البيان". وهو لا يتوانى عن تشغيل هذه الآلية السحرية في كل مناسبة من المناسبات الكبرى، وفي كل حادثة من الحوادث الجسيمة، ومنها كارثة الحادي عشر من سبتمبر. فهو في هذه الحادثة خطب الخطابات النارية، واستعاد أمجاد العرب من هاشم بن عبد مناف إلى أسامة بن لادن. ودقَّ أجراس الحرب، وأعلن أن الصليبيين قادمون، وأنهم يطرقون أبواب مكة المكرمة والمدينة المنورة وبيت المقدس، إلى درجة أزعجت أصدقاء العرب من المفكرين والسياسيين الغربيين الذين قالوا للعرب : يا ناس ليس هكذا تورد الإبل! وقالوا: "نريد منكم التعبير عن شكواكم السياسية، ولكن ليس بالصياح. تجنبوا البلاغيات والروح السلبية. واقترحوا علينا السُبل البنّاءة لتناول قضاياكم" كما قال لنا مرة أخرى إدوارد ووكر (رسالة ثانية إلى أصدقائي العرب، "الحياة"، 16/10/2001).

فهل قدّم العقل العربي حيال هذه الكارثة موقفاً سياسياً أو فكرياً جديداً يختلف عن المواقف السياسية والفكرية التي اعتاد أن يقفها في الماضي، عندما يواجه مثل هذه الكوارث أو مثل هذه الأزمات السياسية الكبرى؟

وهل تغيّرت القناعات العربية القديمة وطريقة التفكير العربية القديمة القاصرة عن استبطان الحقيقة استبطاناً معرفياً وعقلانياً سليماً؟

فلا عجب إذن، وحال العقل العربي على هذا النحو من التردي والاستسلام للخرافات والأوهام واستنباط الحقائق من خلال سُحب البخور وسطور التمائم، أن نكتشف أن "تفكيرنا يصنع الفضائح والكوارث بقدر ما ينسج من الجهل والوهم والخداع"، كما قال المفكر اللبناني الليبرالي علي حرب في مقاله (سقوط "طالبان" أو الأكذوبة والفضيحة والكارثة، "السفير"، 18/11/2001).

-7-

لقد فتحت أمريكا أبوابها في القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين للعرب واليهود على السواء. وجاء المهاجرون العرب واليهود إلى أمريكا من كل فج عميق في القرنين التاسع عشر والعشرين. وكما جاء العرب إلى أمريكا فقراء ومطاردين من العثمانيين ومن حكامهم الطغاة، فكذلك جاء اليهود إلى أمريكا فقراء ومطارين ومضطهدين من النازية ومن الحكام الطغاة أيضاً. فلننظر ماذا فعل العرب في أمريكـا وماذا فعل اليهود في أمريكا. ولننظر كيف استطاع اليهود أن يكسبوا أمريكا بالعلم والمال والسلطة إلى جانب قضيتهم القومية. وكيف أننا بالجهل والتعصب والتعالي والمكابرة خسرنا أمريكا ووقوفها إلى جانب قضيتنا القومية. وجاءت هذه الكارثة، لكي تضع الفصل الختام لهذا الفشل الذريع والطلاق البائن بيننا وبين أمريكا كقوة عظمى أُحادية في هذا العالم كان من المفروض أن تساعدنا على حلِّ مشاكلنا السياسية والاقتصادية بالدرجة الأولى. وكانت تلك واحدة من محن العقل العربي المعاصر.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف