كتَّاب إيلاف

معتقل (تازمامرت) الرهيب بعد 15 عاما من النهاية!

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك


يوم السجين العربي؟

في تاريخ العرب الحديث ثمة صور كبيرة ومشاهد مروعة للمعاناة والقمع والتنكيل الذي يصل لحد الإبادة الشاملة لقطاعات واسعة ومتنوعة من المعارضين لأنظمة الحكم أو الرافضين لسياسات الفساد والإفساد و المحسوبية والساعين من خلال إجتهاداتهم أو رؤاهم الفكرية لأوطان أفضل وأنقى وأروع! و أجواء أنظف، وقد أستهلكت العقود الكثيرة الماضية من الزمن العربي في حالة الصراع المحتدم، وتغيرت الدنيا وتقوضت معسكرات، و أضمحلت قوى سياسية و إمبراطوريات كونية لم تكن في الخيال! بل أن خريطة الكون قد تغيرت دون أن يطرأ أي تغيير يذكر على سجل بعض الأنظمة العربية الحافل والمتوارث منذ عقود العصور الوسطى، لا فرق بذلك بين أنظمة محافظة تسبح في عوالم و شعارات (الأصالة) !وتتحدث عن طقوس الماضي وتستحضرها في نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، وبين أنظمة تتحدث بلسان ثوري وحماسي وتقدمي وشعبي وديمقراطي مفترض!! بينما تمارس كل أساليب التعذيب الهمجية وتستعذب حروب الإبادة البشرية وتسترخص قيمة الحياة البشرية دفاعا عن مبادئها المزورة والمنتحلة!!، وقد شهدت العقود الأربعة الأخيرة من الزمن العربي المستباح مفاجآت كبيرة، ومتغيرات أكبر نسجت توجهات جديدة رغم كونها متغيرات محدودة ومحصورة الرقعة في نموذج أو نموذجين، فحالة القهر الشامل العربية قد أقضت مضاجع كل من يفكر بمصير الأمة والمجتمع، وعودة الإحتلال الأجنبي لمناطق مهمة من العالم العربي كان دليلا على حالة الإفلاس الشامل لبعض الأنظمة التي أغرقت نفسها في السياسات الحمقاء وفي سحق شعوبها والتفنن في جرها من معاناة لأخرى ومن حرب فاشلة سقيمة لأخرى أفشل منها وأشد بؤسا وسقما؟ كان ذلك حال نظام البعث الفاشل في العراق وهو حال كل الأنظمة التي تلجأ لنفس أساليب ومنطلقات نظام البعث العراقي البائد وتعاند الزمن وتقف ضد منطق الحتمية التاريخية الحرة في زمن لم تعد فيه الأوطان قلاعا حصينة لحكامها يتوارثونها كيفما أرادت رؤاهم المريضة بخلفياتها العشائرية والطائفية السقيمة، فمن لا يريد أن ينحني لعواصف التغيير فإن تلك العواصف ستقتلعه في النهاية لتحيله لعصف مأكول ولهشيم تذروه الرياح وليتحول بكل جرائمه وموبقاته لمجرد (نكتة سوداء) في التاريخ الطويل والحافل والمتغير.

وتاريخ السجون العربية بعيدا عن (إبداعات) القرون الوسطى حافل بسجلات وصور وشواهد مرعبة ومروعة بدءا من سجون وقبور البعث الشهيرة في العراق والشام مثل (قصر النهاية) العراقي وسجون المخابرات السورية بفروعها المروعة! مرورا بسجون الحقبة الناصرية في مصر خلال مرحلتي الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم كالسجن الحربي وسجن الواحات ومعتقلات المخابرات وغيرها دون أن ننسى (السجون الجماهيرية) في ليبيا العظمى!! وبقية السلف الصالح من سجون العروبة العتيدة! والتي لا تحتاج لبيانات تفصيلية فالجميع يعلم بأمرها وبما يدور خلف أسوارها من فظائع وهمجية، ولكننا هنا لا نتحدث عن حال ومآل سجون العروبة السعيدة فذلك ملف مختلف وشائك وحافل، ولكننا نتحدث عن متغير كبير حدث في العالم العربي ومر دون أن يسمع به الكثيرون الذين كانوا في حالة إنشغال وقتها بتداعيات حرب الخليج الثانية (غزو دولة الكويت) وما أفرزته من نتائج ومن قيام النظام العالمي الجديد الذي كانت محطته العربية الأبرز بروزا وتوترا ووضوحا، ففي الخامس عشر من أيلول/ سبتمبر عام 1991 تم إسدال الستار النهائي في المغرب على واحد من أبشع السجون والمعتقلات السرية على مستوى العالم ككل وهو معتقل الموت الشهير بأسراره وطقوسه القرو/ وسطية والذي إلتهم أرواح نصف نزلائه وخرج الأحياء منه بمعجزة لن تتكرر بسهولة وهو سجن (تازمامرت) الشهير على أطراف الصحراء الشرقية المغربية والذي كان مسرحا لإنتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان وعنوانا داميا وكئيبا وموحشا لفترة قاسية من أبشع الفترات في تاريخ المغرب الحديث والمتوتر!، وحديثنا ليس عن متآمرين وقتلة شاركوا في إنقلابات عسكرية دامية وفي أحداث عنف سياسية ونالوا عقوبتهم وفقا للقوانين المرعية في كل ديار الدنيا؟ ولكنه حديث عن الشطط الفظيع والظلم في إستعمال السلطة وتطويع الدولة بكل مؤسساتها لقهر الإرادة البشرية ولممارسة شتى أنواع الظلم الشامل والأعمى والغبي! ولعل الشجاعة والثقة بالنفس التي أظهرتها الدولة المغربية كانت العنصر الحاسم في توضيح ما حصل وفي إلقاء المزيد من الأضواء على ما جرى في سنوات الرصاص والعذاب المغربية قبل أن تتكفل ذكريات الناجين من قبور تازمامرت المرعبة بتسليط الأضواء وفضح السلوكيات الفاشية المريضة لبعض المسؤولين عن ما حصل وهو غيض من فيض سنوات وحقب القلق والتوتر السياسي والإجتماعي، وسجن (تازمامرت) ليس مجرد قضية مغربية محلية صرفة، بل أنه عنوان كبير وواسع لملفات بشرية وإنسانية وكونية، تصوروا أن يعيش الإنسان في قبور مظلمة وهو مشلول لأكثر من 12 عاما ثم يموت بمأساوية وحشية رغم أن عقوبته منتهية منذ أكثر من عشرة أعوام!! من يتحمل المسؤولية؟ وكيف جرى ما جرى؟ ولماذا تكون تلك الملفات الرهيبة حكرا على آلة الإعلام الغربية التي وحدها من قام بممارسة الضغوط وفضح الملفات حتى تحققت المعجزة وتم في 15/ 9/1991 تحرير المعتقلين أو نقلهم للمستشفيات والمصحات أو لسجون أخرى فيها المعايير الإنسانية بحدودها الدنيا والمقبولة على مضض، ذلك السجن العسكري الصحراوي المرعب ببنايتيه المرعبتين وسكونه القاتل وزنازينه الضيقة الخانقة ووحشية طاقمه الإداري الحيوانية والذي وجد على الأرض المغربية إعتبارا من شهر آب/ أغسطس 1973 و لطيلة تسعة عشر عاما قادمات هو نموذج مرعب لفترة زمنية ولصراعات مرعبة فقد أودع فيه بعض العسكريين الذين شاركوا في إنقلابي (قصر الصخيرات) الشهير في الحادي عشر من تموز/ يوليو 1971، وإنقلاب (الطائرة الملكية) في أغسطس / آب 1972 واللذين كانت تقف خلفهما قيادات عسكرية مهمة مقربة وفاعلة من البلاط الملكي كالجنرال أوفقير أو المذبوح أو الكولونيل أمقران وكويرة وأمحمد أعبابو وغيرهم وهي أسماء معروفة في التاريخ المغربي المعاصر كما كانت أحزاب المعارضة السابقة والمتواجدة في السلطة حاليا على معرفة وإتصالات حيوية بما كان يدور من مؤامرات وصراعات وحملات للشد والجذب، وقد تعددت المحاولات الإنقلابية في المغرب وقتها مهددة بتحويل ذلك البلد العربي القصي لنسخة شرق أوسطية جديدة من إنقلابات العسكر وصراعاتهم دون مراعاة الهوية المغربية الخاصة وحالة التوازن الدقيقة في المجتمع المغربي المستندة على إرث تاريخي وعقد سياسي مستند للشريعة والعرف بين الحاكم والمحكوم فالعرش المغربي رغم كل الملاحظات ليس غريبا عن التشكيلة المغربية كما كان عرش (أحفاد محمد علي باشا) في مصر مثلا! بل أنه متجذر وراسخ في عمق النسيج المجتمعي منذ أن دخل الإسلام للمغرب ومنذ أن أتخذه المعارضون للظلم الأموي أو العباسي مقرا ومستقرا للمعارضة الإسلامية ومعبرا من معابر الحضارة نحو أوروبا ومنذ أن إمتزج الدم العلوي القادم من أعماق الجزيرة العربية بالدم البربري مخلفا المولى (إدريس الثاني بن إدريس الأول بن عبدالله بن الحسن المحض بن علي بن أبي طالب) إنها سلسلة طويلة من المجد والنسب، وطبيعي أنه أمام صراع المصالح والتيارات كان العرش المغربي يخوض في معترك التغيير وكانت تركة الإستعمار الفرنسي أصعب من أن تتم تصفيتها بين عشية وضحاها، كما كانت رياح الإستقطاب والحرب الباردة وموديلات الإنقلابات العسكرية في العالم العربي ودعايات (صوت العرب) من القاهرة تفعل فعلها في النفوس الثائرة المتوترة، وكانت اللعبة السياسية بين العرش والمعارضة لعبة دموية مكلفة أخذت بين أقدامها الكثير من حياة قطاعات شبابية مارست السياسة بعقلية وسلوك المغامرة، بعد الإنقلابيين الدمويين اللذين كانا صدمة حقيقية للنظام المكي المغربي مورست سياسة العقاب بأشد صورها التطبيقية وأسند أمر التنفيذ لزمرة قليلة بلغ بها الشطط والإنتقام حدا كارثيا مرعبا وبشكل أعمى شمل الأبرياء في وقت كان من الضروري فيه إتباع أقصى سلوك الحكمة والتأني وهو الأمر الذي أدركه النظام المغربي لاحقا بعد غياب رموز القمع تدريجيا وبعد أن هدأت النفوس ومورست سياسة متأنية للمراجعة وبفضل الصمود البطولي للأحياء في مقابر (تازمامرت) الذين تسللت أصواتهم الخافتة وهم في حالات الإحتضار من خلف القضبان والقبور الصحراوية المنسية لتشي للعالم الحر بفظاعة ما حصل ويحصل هناك وليكون الفرج الكبير والمفاجيء قبل خمسة عشر عاما من اليوم عنوانا لنهاية حقبة تاريخية موجعة وبداية فصل إنفتاحي جديد تحملت السلطة المغربية مسؤولياته بكل شجاعة وهي حالة نادرة من حالات الإعتراف السلطوي بالمسؤولية في العالم العربي، فقد كان المرحوم الملك الحسن الثاني في أخريات أيامه حريصا كل الحرص على توضيح ما حصل وعلى الإقرار بمسؤوليةالدولة عن كل التجاوزات، وحريصا على إصلاح ما أمكن من أعطاب الماضي من أجل إستمرارية صحيحة تجنب المغرب سوء المصير الذي عاشته شعوب عديدة في المشرق العربي، فكانت لجان الإنصاف والمصالحة، وكانت الحريات الصحفية غير المسبوقة في العالم العربي وفتحهم لجميع الملفات ولو كانت حساسة ومباشرة، ثم توالت الكتابات من الذين كانوا شهودا على المعاناة فصدر كتاب السيد (محمد الرايس) تازمامرت.. تذكرة ذهاب وعودة من الجحيم!!، ثم كان كتاب السيد أحمد المرزوقي (الزنزانة 10) الذين كان كسابقه حافلا بتفاصيل مرعبة، وتوالت الكتب والإصدارات عن معتقلات مغربية أخرى بشعة كدرب مولاي الشريف أو أكدز أو قلعة مكونة وغيرها من معتقلات القرون الوسطى التي لم تزل حية تسعى في عالمنا العربي السعيد!!ولكن سجن تازمامرت كان سيد البشاعة بإمتياز، وكان يوم إغلاقه في الخامس عشر من أيلول/ سبتمبر يوما تاريخيا مشهودا بعد إزاحة الستار عن الفظاعة وبعد معرفة مصير أكثر من ثلاثين شابا ماتوا ودفنوا بصمت وعذاب يفوق عذاب الأساطير الإغريقية وما زالت رفاتهم مدفونة في تلك الأصقاع الموحشة... إنه يوم السجين العربي بإمتياز.. أليس كذلك؟.

dawoodalbasri@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف