إعتذارُ بابا الفاتيكان، عربياً
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
مبكراً، أفقت من نومي على هسيس متأتٍ عبْرَ أثير إحدى فضائياتنا " الجهادية "، المعروفة. كنتُ كغيري من خلق الله ، على موعدٍ مع برنامج إخباريّ مخصص عما قيل أنه " تصريح مسيء للإسلام، تفوه به بابا الفاتيكان ". هيَ ذي فرصة سانحة، لتلك الفضائية الكالحة الوجه كبراقع الإرهابيين ، السارحين في طول وعرض بثها اليوميّ؛ فرصة اخرى، لتضرب سهامها في الصميم من وعي وضمير المشاهدين، إيقاظاً لنعرات الفتنة التي بالكاد تسنى لها الإغفاء إثر ما أسميَ في حينه " أزمة الرسوم الدانمركية المسيئة للرسول ". مقدمة البرنامج، بدَتْ أشبه بقارئة فنجان منها إلى صفتها الوظيفية تلك، ناهيك عن حشمتها، المفقودة، شكلاً ومحتوىً ؛ وهيَ المفترض بها أن تكون صوتاً وصورة للقناة الفضائية المنافحة عن ديننا القويم، بمناسبة وبدونها. كالعادة، لا شيء جديد في تلك التغطية التلفزيونية: قسّ مصريّ، كاثوليكيّ، يحاول توضيح إشكالية فهم تصريحات حبره الأعظم؛ وشيخ مصريّ، أزهريّ، يعتبرُ أنّ ذلك الكلام، سالف الذكر، غيرَ كافٍ لإرضاء الكرامة الإسلامية، المهدورة، ويطالب بابا الفاتيكان، شخصياً، بالإعتذار؛ وبين هذا وذاك، يتم عرض مقتطفات من الصحف العربية والأجنبية، مقتطعة بحرص من يوقد أوارَ الفتنة لا من يحاول إخمادها.
المطلوب، إذاً، من قداسة البابا ـ وهوَ رأس الكنيسة المسيحية، الأعظم ـ ما لا يطلبه أحدٌ ، في واقع الحال، من " الأزهر الشريف " نفسه؛ هذا المعتبرُ فضيلة شيخه، سيّد طنطاوي، بمثابة رأس المرجعية الإسلامية، الأكبر: الإعتذار عن الصمت، المخزي، إزاء الإرهاب المتلبّس زوراً وبهتاناً إسمَ العقيدة المحمدية، والمستهدف بالدرجة الاولى الرعايا الغربيين، النصارى ؛ الإعتذار عن عدم إدانته لذلك الإرهاب، الموسوم، الموجّه في مصر بالذات، ضد مواطنيها الأقباط والنصارى عموماً؛ ناهيكَ عن العراق والسودان وغيرها من الدول العربية والإسلامية. أما قناتنا الفضائية، إياها، التي تتناسى من يجدر به الإعتذار من المسلمين، وهيَ المكفرة لشريحة، كبرى، منهم؛ بإعتبارها للشيعة من آل البيت " كفاراً ": كما جاء، حرفياً، على لسان الشيخ القرضاوي؛ صاحب البرنامج الديني المعروف، في تلك الفضائية نفسها. هذا غير ما تبثه على مدار الساعة من بيانات تحمل صفة التكفير ذاتها، موجهة من لدن الجماعات الإرهابية، العراقية، التي تعرّف أفرادهم بـ " المجاهدين "؛ علاوة على عرض مآثرهم في التنكيل بالمواطنين على الهوية الطائفية أو العرقية، وترويع حياتهم ونسف دورهم المقدسة، وتهجيرهم من مناطقهم وفق تطهير مذهبيّ خبيث، مخطط.
في اليوم السابق، وفي الصباح أيضاً، كنتُ بنفسي على موعدٍ آخر مع فضائية عربية، شقيقة، للصمود والممانعة والمقاومة؛ وهذه المرة في نشرتها الإخبارية، المهمومة بما أصاب الأمة من خطبٍ جلل إثرَ تصريح ذلك البابا. مقدّمة تلك النشرة ـ المتأبدة في وظيفتها كأيّ مسؤول من مواطنيها ـ طالعت المشاهدين بسحنة بطلات أفلام الرعب، مبشرة إياهم بأنّ الفاتيكان قد قدّم توضيحه لتصريحات حبره الأعظم، مباشرة ً بعيْدَ إحتجاج مفتي سورية عليها (!): مأثرة اخرى، إذاً، للإعلام البعثيّ، في إستغبائه للناس؛ مأثرة، تضاف إلى ما سبقها من تشدق ذات الإعلام بخصوص أزمة الرسوم الكاريكاتورية، بأنّ الحكومة الدانمركية، وعبْرَ سفيرها بدمشق، كانت قد قدمت إعتذاراً للحكومة الأسدية، المؤمنة: فيما أنّ المسألة آنذاك، ما كانت في حقيقتها سوى إجتماع سفير الدانمرك بدمشق مع ممثلي جميع البعثات الإسلامية المتواجدين في العاصمة السورية، توضيحاً لوجهة نظر حكومته؛ وهوَ التوضيح المعروف، المعلن على الملأ آنئذٍ، بأن تلك الحكومة غير ملزمة بالإعتذار، وأنّ ذلك واجب الصحيفة، المعنية، أولاً وأخيراً.
كلّ من الفضائيتيْن، المذكورتيْن، يفتح بتغطيته للحدث المستجد فجوة ً في العلاقات بين العقيدتيْن السماويتيْن؛ الإسلامية والمسيحية، وبالتالي بين معتنقيهما. لا هذه الفضائية ولا تلك، للحقّ، ليهمه ما في ذلك الجهد، غيْرَ المحمود، من آثار وخيمة علينا؛ نحن المسلمين بالذات، وقبل غيرنا: لقد أضحينا، يا ربّ الكعبة، بنظر العالم كما لو أننا أمة دراكولا..، لا أمة نبيكَ الأمين، محمدا؛ أمة ، لا شاغل لها في عصر الإختراعات والإكتشافات العلمية هذا، سوى " إختراع " مسببات الفتنة و " إكتشاف " الخصوم من كل لون وطيف: فلا الدعابة الساخرة ترضي مزاجنا العجيب، ولا المناظرة الجدية !.. عجباً، لتلك الغضبة العارمة على رسوم كاريكاتورية، مسوّقة بإساءتها لخير الأنام، فيما أنّ تراثنا الإسلاميّ أدباً وتأريخاً وسيرة ً، فيه ما فيه من تجديفٍ دينيّ، يضاهي كل ما يحتمل جمعه من آثار عالمية بهذا الشأن؛ كما في مثال أشعار أبي نواس، الماجنة. وعجباً، أيضاً، لهذه الغضبة المستنفرة للتوّ، بصدد تصريح بابا الفاتيكان عن مفهوم " الجهاد " إسلامياً، بينما أهل عقيدتنا أنفسهم، من علماء وفقهاء وآيات وحجج، غير متوافقين على رأي واحد يخص ذلك المفهوم، الموسوم؛ كما في مثال عمليات الأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة، في فلسطين والعراق وغيرهما، والتي يسِمُها بعضهم بـ " الإستشهادية "، فيما يصِمُها البعض الآخر منهم بـ " الإنتحارية ".. ؟؟